ذ.عبد اللطيف مجدوب يكتب : بيــرْ البُوهالــــي..

admin
كتاب واراء
admin26 أغسطس 2020آخر تحديث : منذ 4 سنوات
ذ.عبد اللطيف مجدوب يكتب : بيــرْ البُوهالــــي..

عبد اللطيف مجدوب

أقصوصة تنقل القارئ؛ عبر نوافذ مضيئة؛ إلى علاقة السلطات بالمواطن، وتعامل الأهالي مع الظواهر الطبيعية، وأثر الإشاعة في المخيال الجمعي.. ومصاحبتها لعدة أسماء بمواقع جغرافية.

قضيب من الرمان وانطلاق أشغال الحفر

ورث عبد السميع من والده حرفة حفر الآبار، فظل اسمه على ألسنة العديد من الفلاحين الذين تزخر بهم مناطق صفرو تازة تاونات؛ كانوا يستدعونه لحرفيته التي كانت تزاوج بين وظيفتين: اكتشاف دائرة المياه الجوفية، والحفر بالطريقة التقليدية؛ تعميق الحفر خطوة بخطوة، بتعاقب ثلاثة عمال على الحفر وإخراج الردم والأتربة إلى الخارج.

حلّ على متن سيارته Jetta، بدوار بوعادل الذي يقبع بأحد سفوح مرتفعات عين مديونة، وقد جرت العادة ألا يباشر عملية الحفر إلا إذا كان يحمل ترخيصا من السلطات المحلية.. انتظر؛ كما كانت تقضي به طقوسه المتبعة؛ حتى إذا أخذ قرص الشمس يتوارى خلف الجبل؛ وسط سحب داكنة، فعمد إلى قضيبين يانعين من الرمان وجعل يحبو عليهما من حوله.. وكلما لامس أثرا لمياه جوفية إلا وأخذت يداه ترتعشان وصدره يهتز؛ كما لو كان ممسكا بيد البلودزر بدلا من قضيبين يانعين.

رفع رأسه وجبينه يتصبب عرقا؛ متوجها إلى صاحب الأرض:

* “عنْداكْ ازْهار… الما موجود.. ولكن…”

° صاحب الأرض أقبل عليه “.. آشْ تمّا.. آلمعلم؟”

* “… الما غارقْ.. كايتْلاقا معا شي وادْ..”

أومأ المعلم ع.السميع إلى ثلاثة أشخاص بالشروع في أعمال الحفر مصدرا إليهم بتعليماته:

* “.. ابْداوْ لحْفير.. فالصْبحْ بكْري.. أوفُقاشْ مّا.. شمّيتو شي ريحا.. ولاّ اسْمعتو شي ادْريزْ.. خبْروني.. انْقدرو نوصْلو للما منْدابا يوماينْ ادْيالْ لحْفيرْ..”

نزيف دم أو ماء!

في لحظة ما؛ بينما كان ثلاثتهم منهمكين في الحفر؛ مع بدايات الساعات الأولى من إحدى صبيحات شتاء منطقة تاونات؛ إذا بأحدهم يصرخ ملاحظا؛ في غبش ضوء لامبة مثبتة بناصيته؛ أن شيئا ما أخذ يلمع عند قدميه.. فخرج لتوه، وأنفاسه تتلاحق لا يقوى على الكلام.. اعتقدا أن صاحبهم” أصابته لوثة، كما يقع أحيانا عندما يقترب الحفّار من سطح المياه”، أخذا يرشانه بالماء، ولشد ما ركبهما الهول وهما يتفرسان قدمه اليمنى تنزف دما !!

* المعلم على الهاتف “.. ربما أخطأ رفشه فهوى على رجله…”

° يرد عليه صوت مختنق “.. أنا.. أنا لا أشعر بأي ألم.. ولكن”

* المعلم يصل من فوره وأخذ يعاين بكثير من الدهشة آثار دم ما زال ينزّ من بين أصابعه “كيف لا تشعر بالألم وأنت تنزف.. ياللهول!!.. هيا لنسرع به إلى أقرب مستوصف”.

° الطبيب بعد معاينة روتينية “.. ربما من فرط الهلع.. ما زال عاجزا عن تحسس الألم.. سيأخذ حقنة لإيقاف النزيف..”.

أعادوه إلى الخيمة بجوار أشغال الحفر، ثم استأنفوا عملهم، لكن لم يلبث أحدهم بعد حين أن لاحظ قدمه تغوص في طين مبللة فنادى: “.. آلمعلمْ.. آعْمار.. آلبوزيدي..”، أخذ نداؤه يتلاحق من جوف البئر بصدى عميق ومخيف، حاول يائسا تسلق حافة الجب، لكن رطوبته لم تكن لتسعفه ليتماسك.. ما إن يصعد ثلاث أو أربع خطوات حتى تنزلق رجله فيهوي إلى الحضيض. عاود الصراخ ويداه ممسكتان بالحبل.. ونظراته معلقة بشفير البئر نحو الأعلى.. أحس بأطرافه تتعرق وقواه تخار ببطء.. كلما توالت صرخاته كلما خفّ دويها، لكن وفي لحظة ما شبيهة بحلم كاسح شعر بالحبل يهتز من بين يديه إلى الأعلى… طرحوه أرضا، كانت نظراته تومض بين الحياة والموت، بالرغم من كميات المياه التي أخذوا يقذفونه بها.

هل هو آثار نفط؟!

وقف المعلم ع.السميع حائرا وهو يتأمل طينا مبتلا بسائل ضارب إلى الحمرة، كان قد جلبه على التو في غرّافة معدنية من قرارة البئر: “.. يبدو هو نفس اللون الذي تخضبت به رجل صاحبنا.. لكن رائحته لا هي لدم ولا.. ولا لـ ..”، في هذه الأثناء؛ وعلى حين غرة؛ توقفت سيارة R4، ترجل منها مخزني بنظرات عدوانية شزراء، متوجها رأسا إلى المعلم ع.السميع:

° “.. دابا خاصّكْ.. تسدْ.. فٌمْ البيرْ..”

* “.. آشّافْ.. اعْلاشْ.. أنا عندي التسريحْ.. والقوانين..؟”

° “.. قلْتلكْ.. سدْ البير.. أوزيد معاه.. فٌمّاكْ.. واشْ مكتعرفشْ العربيّا..”

* “.. آشّافْ…”

° ” هدا أمر.. جانا من العمالة.. سيرْ اهْدرْ معاهومْ..”.

لم يتأخر صاحب الأرض؛ بمجرد ما علم بإغلاق البئر، فأخذوا يطوّفونه من مكتب إلى آخر، داخل العمالة، وأخيرا دلف إلى مكتب منعزل هناك شبه معتم؛ في ركن منه تربع على كرسي بلاستيكي شخص بنظرات حولاء، منكبا على كومة أوراق، مثُل أمامه وأنفاسه تتلاحق:

° “… غلقوا ليّا.. البيرْ.. وانا دايرْ اجْميع القوانين..”

* رفع المسؤول رأسه متكاسلا، ولم تبرح نظراته تنتقل بين أوراق وأخرى، ثم ما لبث أن نهره بصوت حاد” .. البارحْ.. خرّجْتو منو خدّام.. كينزفْ.. واليوما.. واحدْ آخور ما زال بين.. بين.. واشْ كتحفروا القبور ولاّ البْيار.. ؟!”

° “.. شوفْ الله يرحمْ يمّاك.. والبزّولا.. ليرْضعتي.. اطْلق لي اشْغالاتْ.. والله ما غادي ننْساكْ..”

عاد المسؤول يقلب أوراقه، يحوقل تارة ويصدر زفيرا أخرى، بينما عينه اليمنى مشدودة إلى جيوب الماثل أمامه، وأخيرا تنفس الصعداء، بمجرد أن امتدت يد الرجل لتلامس يده النحيفة… تأملها مدسوسة قبل أن يستل قصاصة من تحت ركامه ويسلمها له بتحذير شديد اللهجة:

* “.. مرّا أخرى.. منْعرفكشْ… بدّل الخدّاما… وكمّلْ دغْيا.. اقْبل ما يجمعو ليكْ لمْطاوي..”

البئر تنفجر بسيول حمراء!

جرت مشادة كلامية بين صاحب الأرض والمعلم ع.السميع، وظل وجه هذا الأخير سادرا ممتقعا، وهو ما زال لم يستفق بعد من هول ما رأى؛ عامل ظلت رجله تنزف سائلا لا هو بدم ولا هو بماء.. وآخر كاد غور البئر أن يبتلعه… ولحظة التفت؛ في حركة متشنجة؛ إلى صاحب البئر: “.. أنا… ما بْقيتشْ.. قادرْ نكمّلْ.. شوفْ حفّارا اخْرين ..”

° “.. آشْ كادّرْبزْ.. ابْديتي معايا… إوا كمّل.. راهْ ما بْقا والو..”

* “.. ويلا كانْ هكدا.. الله يخلّيكْ.. دبّر لي على شي اقْطيبْ”

° “.. ادْيالاشْ هدا لقْطيبْ..؟”

* “.. لقْطيبْ ادْيال الدّيناميتْ..”

° “.. واشْ كتخرّفْ.. انْتا لّي سيرْ دبّار عليهْ…”

* “.. أنا كنحفرْ بالفاسْ.. ماشي بالديناميت.. سيرْ يعطيواكْ التسريح باش تاخدو من عند المندوبية ادْيال الطاقا والمعادن… اقْطيب واحد ب 350 دهـ”.

تحين المعلم غروب الشمس قبل أن يعمد إلى تفجير الديناميت بقعر البئر.. على أن يستأنف أشغاله في الغد الموالي. لكن وخلافا لكل توقعاته استيقظ داخل الخيمة مذعورا على وقع صخب وغوغاء المارة وبعض السكان المجاورين، وقد رفعوا عقيرتهم وأعينهم على شفير البئر وجنباتها تنفجر بسائل أحمر قان، أخذ يتدفق متخذا مسالك متعرجة باتجاه أطراف سفوح محاذية لوحدات سكنية طينية متناثرة هناك. تعاظمت الحشود والمعلم وسطها متسمرا لا يلوي على شيء.. ثم التحقت بهم سيارة إطفائية لتليها أخرى مصفحة من الجنود.. سارعوا إلى تسييج المنطقة، كان غوغاء المارة يختلط بطنين راديو اللاسلكي.

أحدهم بالقرب من الجب يرفع صوته في الراديو” … ربما… ولكن.. شبيه بهذا اللون”، يقاطعه صوت بذبذبات متقطعة: “.. هل… هنا… ك را…ئحة.. رائ… حة نعم… را…أقفل”

عامل تجرفه السيول

ضُرب حصار على المنطقة بدائرة 10 كيلومترات، كانت التدفقات تتراءى من بعيد وهي تجري عبر أحواض محصنة بجدران من الخرسانة، لم تفتأ تجمعات أهالي المنطقة تروج “لبئر نفطية” قد تصير المنطقة إلى مركز للتكرير.. بينما ذهبت التخمينات بآخرين إلى أن المنطقة اشتهرت عبر قديم الزمان بأرواحها الشريرة؛ فقد يصادف أن أصابت الفأس أو حر الديناميت “جنّيّة على وشك أن تضع حملها” !

لم يأل جهدا في الاتصالات، لكن أحدا أبلغه بأن “الأرض قد آلتْ إلى المخزن ولم تعد ملكا له”، وقد يعودون للاتصال به في غضون شهرين أو ثلاثة.. حالما يتوصلون إلى النتائج النهائية لإجراء كشوفات جيوفيزيائية للمنطقة وتحليل السائل الجوفي.

في جوف الليل؛ وعبر أدخنة لسحب كثيفة باردة كانت تلف المنطقة؛ تسلل من الخيمة وبخطوات متئدة صاحب الرجل النزفة، كان يريد الاقتراب من أحد مجاري البئر، لاعتقاد ظل يساوره طوال أيام.. بأن يتخلص من لعنة السائل الذي كانت رجله تنزف به بين آونة وأخرى… لكن ما إن غمس رجله في الساقية حتى أحس بقوة قاهرة تجذبه إلى الحوض.. لم يشفع له صراخه في أن يقذف به السيل إلى الأعماق، تاركا خلفه حذاءه يتراقص على السطح.

فرقة سبر الأغوار

حلت فرقة سبر الأغوار بالمنطقة… انتظروا أن تخف التدفقات… ولما طال انتظارهم عمدوا إلى الحفر بالديناميت بمنطقة مجاورة، ومن خلال محاولتهم النزول إلى القعر ارتطموا بجدران صخرية لكهوف مظلمة ذات مسارب شبه جرداء، لكن ما لبثت أسماعهم تلتقط عويل رياح قادمة من بعيد، تماسكوا بالجدران أشبه بخفافيش الظلام، تصنطوا.. وإذا بهدير ارتجت له فرائصهم.. سرعان ما أعقبته رياح صقيعية انسابت بسرعة جنونية عبر الأجراف أشبه بأفعوان هائج!

“احترسوا.. احترسوا… وتماسكوا بالأجراف.. ربما السيول تجدّ طريقها إلينا”؛ كانت صرخة كبيرهم.

…. واصلوا تخطيهم لكهوف كانت تتشعب أمامهم كلما سلكوا إحداها، صاح أحدهم وكان في المقدمة: “.. الضوء… الضوء.. أشاهد فجوة من بعيد”.

كان الهواء خانقا؛ أخذ يميل إلى الرطوبة كلما اقتربوا من الفجوة الضوئية.. وكم راعهم أن عثروا على نهر، مياهه بغور على عمق عشرات الأمتار، مجراه يلامس ضوء النهار عبر شقوق صخرية ضيقة مكسوة بنبات الزّعرور.

ظلوا يتأملون انسياب مياه الوادي، بخرير يرتد صداه بشكل مخيف أشبه بصوت تنّين جائع. تقدم أحدهم من الضفة محاولا تبليل وجهه بمياهه، لكن ما إن حاول مد يده حتى سمع صوتا مجهولا ناهرا ومحذرا: “… لا… لا… لا … حذار..”

لغز مياه الجب!

كانت الأيام والأسابيع والشهور تتعاقب متثاقلة على المنطقة، وأهاليها ما زالوا يتشوفون إلى يوم يُماط فيه اللثام على أسرار هذه المياه بالرغم من تراجع منسوبها ودبيب الجفاف إلى أطراف حوضها من جهة، ودوي الإشاعات وتناسلها من جهة ثانية والتي كانت تحمل بين الحين والآخر جديدا؛ تارة “بإضرام النار في جسد شاربه”، وطورا “بنقل حكّة جلدية قاتلة”.. وبين هذه وتلك بإلحاق “داء السّعار بصاحبه”.. ويضيفون أن “مجرد تركيز البصر عليها يصيب صاحبه بالعمى”. وآخر ما تفتقت عنه ذاكرتهم الجمعية زعمهم بأن “صاحب النعلين الذي جرفته المياه عُثر عليه متسكعا في إحدى الأزقة العتيقة بمدينة فاس؛ حافي القدمين حاسر الرأس، لا يتوانى عن دعك أصابع رجله اليمنى وهي مخضبة بحناء ضاربة إلى الاحمرار، اشتهر على ألسنة المارة بالبوهالي..”.

بيد أن تقارير رفع السرية عن هذه المياه هي الأخرى طالتها الأقاويل، فظلت لغزا محيرا دفعت بالعديد من الأهالي إلى النزوح والبٌعاد عن الجب وأساطيره.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.