رسبريس – العرب الدولية
تحيل ردود الفعل الجزائرية على الموقف الفرنسي الداعم للمقاربة المغربية في حل النزاع الصحراوي، إلى التساؤل عن مدى قدرتها على الاستمرار في قياس علاقاتها الخارجية بتطورات الملف المذكور، وفتح الباب على مصراعيه لإثارة المزيد من الخصومات بينها وبين مكونات محيطها الإقليمي والدولي، خاصة وأنه في أفق أشهر قليلة ستجرى انتخابات أميركية يمكن أن تعيد دونالد ترامب الذي يعد أول من مهد الطريق للاعتراف الأوروبي بمقاربة المغرب.
ومنذ أربع سنوات راهنت الجزائر على الديمقراطيين والرئيس جو بايدن، أملا في مراجعة الموقف الأميركي تجاه النزاع الصحراوي، لكن المهلة الرئاسية على وشك الانقضاء، ولا شيء تحقق من ذلك، بل ليس بعيدا أن يعيد الناخب الأميركي ترامب إلى البيت الأبيض ومعه موقفه الداعم للطرح المغربي.
ويتساءل متابعون للشأن الدبلوماسي الجزائري عن مدى قدرة الجزائر على الاستمرار في الرؤية نفسها التي تستعدي أي طرف يتجاهل طرحها لتسوية النزاع؛ فبعد القطيعة مع إسبانيا التي بدأت منذ شهر يونيو 2022 تلوح بوادر أزمة جديدة مع فرنسا مفتوحة على جميع الخيارات.
وأعلن وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف الأربعاء أنّ بلاده ستتّخذ إجراءات إضافية ضدّ فرنسا ردّا على موقف باريس الذي يدعم خطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء.
لكن مراقبين يتساءلون: كيف سيكون الموقف إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في شهر نوفمبر القادم؟
ويبدو أنه لا خلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة وأن المواقف الخارجية تتبلور في دوائرها الحقيقية بعيدا عن الأمزجة والانفعالات الآنية، فما سطره ترامب منذ أربع سنوات استمرت فيه إدارة جو بايدن، وهو ما كرسه تصريح السفيرة الأميركية في الجزائر إليزابيت مور أوبين مؤخرا حول ما وصفته بـ”عقلانية” الطرح المغربي.
ويتماهى موقف الديمقراطيين مع موقف الجمهوريين تجاه النزاع الصحراوي بالانحياز إلى الرؤية المغربية، وهو ما أعد له الرئيس الحالي جو بايدن منذ عدة أشهر باقتراح أحد الدبلوماسيين الأميركيين المرموقين لشغل منصب سفير بلاده في الجزائر خلفا لأوبين، ويتعلق الأمر بنائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية المكلف بشمال أفريقيا جوشوا هاريس.
ويُعرف الدبلوماسي المذكور بتصريحاته المرجحة للكفة المغربية؛ إذ وصف المبادرة المغربية في أكثر من مناسبة بأنها “واقعية وعقلانية لحل النزاع”، وألمح إلى اهتمامه بتسريع وتيرة إيجاد حل للملف، عبر الدفع بالجزائر والمغرب إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات وكشف جميع الأوراق.
ومع محافظة الديمقراطيين على اللياقة الدبلوماسية في التعاطي مع تداعيات الملف على علاقات الجزائر والمغرب، فإن العودة المحتملة لترامب إلى البيت الأبيض تعيد معه أسلوبه الجريء في تسوية الملفات التي تهم الشأن الأميركي، الأمر الذي سيضع الجزائر أمام عبء جديد، لا هي مستعدة ولا قادرة على مواجهته بنفس مواجهتها لإسبانيا وفرنسا.
ولم يفلح رهان الدبلوماسية الجزائرية على تغير الخلفيات السياسية الحاكمة في بعض العواصم، أملا في مراجعة مواقف حكوماتها تجاه الملف المذكور؛ فدعمها لشخصيات وتيارات يمينية في الانتخابات التشريعية الإسبانية لم يحقق الغرض وبقي الاشتراكيون على رأس الحكومة، وبقي معهم الاعتراف بالطرح المغربي.
وفي فرنسا سارت التطورات بشكل متسارع، بعدما استبق قصر الإليزيه بلورة مخارج الانتخابات التشريعية المبكرة، وفاجأ الأنظار المركزة على الألعاب الأولمبية بإعلان موقف بلاده المؤيد للأطروحة المغربية، الأمر الذي شكل صدمة لدى السلطة الجزائرية، خاصة وأنها كانت تعلق آمالها على بروز حكومة يسارية تواصل سياسة التوازن بينها وبين المغرب.
وفي خطوتها الأولى للرد على الموقف الفرنسي قررت الجزائر سحب سفيرها في باريس سعيد موسي، للمرة الثانية على التوالي في غضون السنوات الأخيرة، والثالثة في سيرة الدبلوماسي الذي تم سحبه قبل ذلك من مدريد للسبب نفسه، وينتظر الإعلان عن إجراءات أخرى قد تصل إلى درجة القطيعة مع فرنسا.
ولا تزال الانتقائية تميز الموقف الجزائري؛ فالموقف الذي اتخذته ضد إسبانيا منذ عامين، وضد فرنسا مؤخرا، ليس هو الموقف المتخذ ضد حكومات أوروبية اتخذت قرارات مماثلة على غرار ألمانيا وبلجيكا وهولندا وغيرها، ولا هو رد فعلها على مواقف الإدارة الأميركية وتصريحات دبلوماسييها.
وفيما يجهل مصير اقتراح الرئيس بايدن حول تعيين الدبلوماسي وخبير شؤون الساحل والنزاع الصحراوي جوشوا هاريس سفيرا فوق العادة لبلاده في الجزائر، وموقف العودة المحتملة للجمهوريين إلى البيت الأبيض من الاقتراح نفسه، تبرز نية واشنطن الاقتراب أكثر من بؤرتي التوتر في المنطقة، الصحراء المغربية ومنطقة الساحل، ومهما كان الموقف في الاحتمال المذكور، فإن الخليفة لن يكون أقل تحمسا لتجسيد موقف واشنطن.
ويعكس الاقتراح اهتماما أميركيا بحمل ملف النزاع الصحراوي والوضع في منطقة الساحل في كفة واحدة، فما يهمه هو فرض المقاربة الأميركية في المنطقة، وتدارك نفوذ الولايات المتحدة المهدد بعد دخول لاعبين جدد على خط الصراع، على غرار الروس والأتراك، وصعود نخب عسكرية تدير شؤون الحكومات المحلية، باشرت في أولى خطواتها دفع النفوذ الفرنسي التقليدي إلى الوراء، ثم جاء الدور على الجزائر، الأمر الذي خلط الأوراق بسرعة في المنطقة.
كما يؤكد نظرة الديمقراطيين والجمهوريين المتطابقة إلى النزاع الصحراوي، الذي دام قرابة نصف قرن، بين المغرب وجبهة بوليساريو المدعومة من طرف الجزائر؛ حيث سبق للسفير الجديد أن زار الجزائر والرباط مرتين خلال العام الماضي، وهو ما يبرز رغبة واشنطن في فرض مقاربة تضع المنطقة تحت عيونها، خاصة وأنها لا تحتمل انزلاقا جديدا يزيد من تشتت التركيز الأميركي ويعيق تمددها الناعم المهدد من طرف الروس انتقاما لهم من دعم الأميركيين والغرب لأوكرانيا.