رشيد العزوزي
لا شك أن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي و”مبحث الذهنيات” من المواضيع المهمة التي لم تعطَ لها مكانتها التي تليق بها، رغم الحاجة لها في ظل الثورة التي أحدثتها “مجلة الحوليات” سنة 1929، على يد “لوسيان لوففير ومارك بلوخ”، محدثةً ثورة كبيرة في مجال البحث والكتابة التاريخيين، شكلت قطيعة مع الكلاسيكية؛ انطلاقًا من فكرة محورية أساسها أن هدف علم التاريخ هو فهم الحاضر بكل تشعباته ومستوياته، وليس فقط التأريخ.
على رأس هذه المستويات تربع الموضوع، والمنهج، ما رفع من أسهم الدراسات التاريخية في بورصة العلوم الإنسانية، محاولة تقديم إجابات (مقنعة)، كما عودتنا، كلما عرفت البشرية انعطافة كان لها ما بعدها، بمشارق الأرض ومغاربها.
في أقصى الغرب الإسلامي، كان المجتمع المغربي ميالًا للسكون والجمود، وفي أحسن الأحوال، للثبات على مستوى بنياته المركبة الهجينة، كما كان بطيئًا في الفترات التي عرف فيها نوعًا من التململ، سواء كان ذلك نتيجة لعامل داخلي (الأمراض والمجاعات والأوبئة)، أو خارجي (الاستعمار الروماني-الإيبيري-الفرنسي) أو هم معًا.
وهكذا فالمجتمع المغربي الذي كان يعيش وهم القوة، بعد صده الغزو الإيبيري والانتصار عليه في معركة واد المخازن سنة 1578، سيستفيق على إيقاع “صدمة الحداثة” سنة 1844، حين انهزم الجيش المغربي المشكل من ثلاثين ألف فارس يزيد أو ينقص قليلًا أمام بضعة آلاف من الجنود الفرنسيين المنظمين والمسلحين بمعدات حديثة.
الهزيمة.. الصدمة.. الكارثة.. سميها ما شئت، هي التي جعلت الرعية، والنخبة، تقف مشدوهة في حضرة السلطان، والجميع مشدوهًا في حضرة الحضارة الأوروبية، التي أيقن معها الكل أخيرًا أن الغرب الأوربي (النصراني) اشتغل على نفسه بجدية، وأن الهوة متسعة للغاية مع المغرب الأقصى (الإسلامي).
هوة تستدعي “الإصلاح”، المفهوم الذي لاكه المغاربة باختلاف تكوينهم الثقافي، وموقعهم الطبقي، ومرجعيتهم الأيديولوجية طيلة القرن الـ19، لدرجة أصبح معها “مبتذلًا” في وعيهم الجماعي، والأمر نفسه حصل مع مفاهيم من جنسه مثل “الانتقال الديمقراطي”، الذي أصبح “نكتة” للتنفيس الشعبي يتناوله (المداويخ) كما يفهمونه في زحمة غلاء الأسعار، وبؤس الخطاب السياسي، وفشل مشروعنا التنموي، كما أقر بذلك ملك البلاد، لا كما تنظر إليه نخبنا القابعة في أبراجها العاجية.
عمومًا، هناك محطات من تاريخنا الراهن يمكن الوقوف عندها لحظة تأمل، تفاعلت فيها البُنى الفوقية بالبُنى التحتية، أثرت وتأثرت كما يرى ماكس فيبر، ولم تحسم من طرف البنية التحتية كما بشرت بذلك الماركسية. وقد بدا ذلك جليًا حين وصلت رياح الربيع للسواحل الأطلنطية خرج المغاربة، دون إذن من أي أحد، طالبين التغيير؛ الكرامة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
في الواقع ترجع جذور مقدمات القطيعة -في تقديري- إلى بداية التسعينيات حين اعترف الدستور المغربي في ديباجته بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميًا، خطوة مهدت للتعامل الخاص، الذي ستنخرط فيه الأمة المغربية بعدما وصلتنا الهزات الارتدادية للزلزال الديمقراطي الذي ضرب المنطقة، الربيع العربي، الذي عُلقت عليه آمال كبيرة، وتسبب -بفعل فاعل- بجروح غائرة في جسد أمة حالمة بغد أجمل، عازمة على كتابة التاريخ من جديد، زادها شباب أرّق الفاعل السياسي، ودوّخ المشتغل على ذهنيات الحركات الاجتماعية.
وهي لحظة، لعمرك، من الصعب تجميعها في الزمن السياسي المغربي، وهي للأمانة فرصة كان بإمكاننا أن ندخل بها الأزمنة الجديدة، لولا متاجرة حزب سياسي بها، مفوتة على البلاد والعباد فرصة، وحده الله يعلم كم يجب علينا أن نجمع من تراكمات نوعية ثانية، لنحدث مثل تلك القفزة النوعية، التي تضافرت لها شروطها الخاصة سنة 2011، وحركت مياها راكدة.
حتى الصورة الغرائبية للمؤسسة الملكية (دار المخزن)، التي تحتاج إلى سيميائي بارع لتفكيك جزيئاتها، أعاد تركيبها المغربي الجديد، مميزًا بين التقليد والحداثة، واجدًا خيطًا رابطًا بين السلطان أمير المؤمنين الملك، الذي هو نفسه رئيس الدولة.
هذا الطرح الإشكالي المتداخل (الغرائبي) المغرق في القدسية جعل “جسد الملكية” عند المغربي القديم شخصية أسطورية منزهة عن كل ما يعتري الإنسان من علل، معززة بنص دستوري جعله شخصه “مقدسًا”؛ ملك لم يُسمع شيئ عن مرضه في حياته وعندما مرض مات، (الحسن الثاني)، وآخر عندما تم نفيه شوهد في القمر (محمد الخامس)، والاقتراب من عالمه إما يتسبب في (أعطيات أكريمات…)، وإما في (درب مولاي الشريف وتزمامارت).
المغربي الجديد وضع حدًا لهذه الثنائيات، بتعاون مع الملك الجديد الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويمرض ويعالج في المغرب وخارجه، ويشاهد متكئًا على عكاز، ويبث حفل زفافه على شاشة الإذاعة والتلفاز، ومن يومها من اعترض موكبه يعرض نفسه للمساءلة القانونية، وفي دستور 2011 يجب احترامه لا تقديسه.
من اطلع على الصورة التي قدم بها السلطان تاريخيًا، ويعي مكانة المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، التي راهن عليها البعض، سيدرك أن هذه التحولات العميقة، وبعض التمظهرات البسيطة، لعبت دورًا في تشكل ما أطلقنا عليه “المغربي الجديد”، الذي انتقل من مرحلة “الملك هو القانون” إلى مرحلة “القانون هو الملك”، وبدأ يحتكم للعقل والمنطق، بعدما أقاله في الغالب الأعم، طيلة القرون 15-16-17.
لذلك لم تكن الذهنية المغربية معنية طيلة القرن الـ18 بما عرفته مصر من مقدمات “يقظة”، ولا فرنسا من “ثورة”، لكن في المقابل تأثرت عميق الأثر بأفكار “رجعية”، مثلتها “الحركة الوهابية”، رغم أنها زرعت في غير مناخها، في جو متسامح، لعبت فيه الزاوية والطرق الصوفية أدوارًا مؤسسة، شكلت حسنًا المشترك.
المغربي الجديد ارتقى بهذا الحس وكاد يجعله سليمًا مائة بالمئة، بفضل الصحافة الوطنية التي لعبت أدوارها كاملة، حتى التسعينيات من القرن الماضي، وبعيد حكم الملك محمد السادس، وهو ما يسائل صحافتنا الراهنة، وإن كنا لا نعدم أقلامًا تحترم نفسها، وسط جيش “عرمرم” من المتاجرين، ما جعل المغاربة يقبلون على “الصحافة المواطنة” التي استطاع معها تقرير مصيره الإعلامي، بعيدًا عن الحبر المسموم لكهنة المعبد، أو مقص الرقابة.
ومع ذلك، فالمغربي الجديد واع بخطورة التقنية في زمن العولمة، لذلك يتعامل معها بانتقائية، وبحس نقدي عال، تصلب مع تراكم التجارب، فانتقل من إثارة المواضيع في العالم الافتراضي دون تطبيق واقعي، إلى تمرين بعث الروح في شعارات فيسبوكية، سرعان ما تحولت إلى حركات احتجاجية ذات نفس طويل، وهو ما كان ينقص المغربي القديم. على كل حال، فإن المغربي الجديد لم يستشر عندما اختار المؤرخون محطات بعينها لتحقيب التاريخ، ولذلك فلا تهمه كثيرًا الذهنية المحقبة عربيًا وغربيًا، المتخنة بما هو أيديولوجي، بقدر ما هو عازم على تحطيم عبئ الماضي، بذهنية بعيدة عن النقش على الأحجار، أو الكتابة على الجلود وورق البردى، أو حتى على اختراع غتنبروغ، وإنما على ألواح إلكترونية، وبالأبعاد الثلاثية، وبكل اللغات الطبيعية، “المداويخ” قرروا كتابة التاريخ، وكأنها اكتشفت بالكاد سنة 2011