(أجرى الحوار: عبد الحكيم خيران – وكالات)
ا ينفك الجدل حول الفصحى والعامية يتجدد. يخبو تارة ثم تعلو أصواته تارة أخرى.
في الحوار التالي، يبسط
الأستاذ الباحث في البلاغة والتراث بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، الدكتور محمد
فاوزي، رأيه في درجة الاتصال بين العامية والفصحى، واكتساح العامية لكثير من
الفضاءات وإقحامها في عدد من المجالات، والدعوات إلى إحلال العامية محل الفصحى في
التعليم والإعلام وغيرهما، وخلفيات هذه الدعوات وأهدافها، ويناقش حجج كل من
المتشبثين بالمحافظة على الفصحى وأنصار العامية …
1- يلاحظ أن كثيرا من المفردات العامية المتداولة في
التواصل اليومي أصلها فصيح. ما درجة الاتصال بين العامية والفصحى ؟
لا بد عند مقاربة موضوع وجود معجم فصيح في لغة التخاطب
اليومي للمغاربة من الأخذ في الحسبان أمرين مهمين، أولهما قوانين تطور اللغات؛
فهذا التطور كوني، واللغات الأوروبية مثلا متحدرة من اللاتينية أو الإغريقية،
وليست فرنسية اليوم هي فرنسية القرن السادس عشر …
والأمر الثاني له شأن بالخصوصية، فعامية المغاربة كما هي متداولة في الحياة اليومية حاليا هي سليلة لغة معيار لا زالت تتساكن معها، لأسباب حضارية وتاريخية. تتساوى في ذلك مع سائر اللغات المحلية في البلاد العربية، وتولَّد عن هذا التشابه في استمرار ملامح العربية المعيار في اللهجات العربية المختلفة مركزية أنوية، حتى في أوساط الثقافة واللغة، يرى بموجبها كل صاحب عامية أنها الأقرب إلى اللغة العربية المعيار.
لذلك فإن الحاجة تدعو إلى إجراء دراسات فيلولوجية واسعة تحصر المدونة اللغوية، وتنهض بتتبع الأصول المعجمية في تاريخ اللغة العربية، وما ظل متداولا منها حتى اليوم، وفق منهج علمي، نذكر من ذلك مثلا ضرورة اعتبار وجود طبقتين من المعجم القديم، لا زالتا تشتغلان في اللهجات المحلية. الأولى ذات طابع وظيفي واضح لكثرة تداولها وقربها من الحياة اليومية، من قبيل: وصل – أخذ – التراب – الماء، إلخ … وتصنف معها جملة من الروابط والحروف والظروف من قبيل: في – على – فوق – تحت … والثانية ذات طابع لا يتضح فيه الإلجاء أو الضرورة، مثل: باسل – حاذق – المفلس – مهيع، إلخ …
والحاجة ملحة في كل دراسة إلى ملاحظة الأصناف الأكثر بقاء من اللغة المعيار، هل هي من الأسماء أم من الأفعال أم من الصفات، وغير ذلك. يفرض هذه الملاحظة كون المعجم بصفة عامة هو الأكثر مقاومة في الاستمرار مقارنة بعناصر اللغة الأخرى كالتركيب والصرف. فالعربية قد اطّرحت الإعراب مع مرور الوقت، واستعاضت عنه بالسياقات المؤشرة على المعنى، وصارت اللهجة المغربية أمْيل إلى التسكين في الكلمات بفعل تأثيرات صوتية من الأمازيغية والقوطية الأندلسية. ومن قبيل هذه الانحرافات عن المعيار في اللهجة المغربية بقاء حرف العطف الواو، ولكن مع تحوله صوتيا إلى “أو”.
ويتخذ كل تطور دلالي للكلمة أشكالا منها تضييق المعنى. فكلمة “الجري”، مثلا، صمدت واستُغني عن كلمات أخرى تنتمي معها إلى نفس الحقل الدلالي مثل: الركض، والعدو، والهرولة … ويعني هذا أن قانون التطور بالحذف والاستغناء يتحكم فيه مدى مرونة الكلمة صوتيا، وقابليتها للاستعمال المجازي، وسلاستها في الانخراط في الخطاطات الصوتية المنمطة في عقل المستعملين الجدد. يفسر هذا مثلا أن “تسلق” لم تعد تستعمل، وبقيت “طلع” تؤدي معناها.
ثم إن مداخلة المعجم
القديم للمعجم العامي لا تقتصر على هذا الشكل الطبيعي في تطور اللغة، بل نجده يتخذ
شكلا آخر يمكن نعته بالواعي أو المثقف. فمع شيوع التعليم، ظهر جيل جديد من مستعملي
العامية يُقبل على المعجم الفصيح، والسبب هو أن العاميات، ومنها المغربية، لا تنهض
بالتعبير عن الأفكار المجردة، والفصحى لها ملامح اللغة المفهومية القادرة على
تجريد الفكر واختزال المراجع كما هي في الواقع.
2- يتزايد اكتساح العامية لكثير من الفضاءات وإقحامها
في عدد من المجالات .. في الصحافة المكتوبة والمحطات الإذاعية والقنوات الفضائية
الخاصة، وفي الوقت نفسه يتراجع حضور الفصحى في مجال الإعلام. هل هذه الظاهرة صحية
برأيكم؟
معنى “الإقحام” و”الاكتساح” ينبئ بوجود صراع بين العامية
والفصحى. وهذا يقودنا إلى وضع سؤال فرعي: هل هذا الصراع موجود في سائر اللغات أم
يتفرد به العرب؟ مما يدل على أن هذه المسألة كونية. ففي الفرنسية مثلا، نجدهم
يفرقون بين لهجة التواصل الباريسية ولهجة الجنوب، بل ويفرقون بين فرنسية راقية
أقرب ما تكون إلى لغة بودلير المثالية الرصينة وبين فرنسيات محلية
(langages vernaculaires).
والواقع أن انبثاق لغات محلية عن لغة معيار هو من قوانين اللغة، لكن القضية في صيغتها العربية تُشعر بشرخ واضح بين نمطين من التعبير، ويمكن أن نقول ببساطة ووضوح إنها “خصومة”! ويمكن أن نُرجع هذا الشرخ إلى أسباب عديدة، منها أن اللغة العربية الفصيحة (المعيار) لم تندثر، وواصلت وجودها وانتشارها.
وتنتصب جملة من الفروق تشرح هذا الشرخ. فالفصحى (رصينة – معيار – ذات صلة وثيقة بالثقافة – كتابية – نخبوية)، بينما العامية (شعبية – منحرفة عن معيار – منبتّة الصلة بالثقافة العالمة وإن كانت لها صلة بالثقافة في معناها الأنثروبولوجي – لا تنهض بالتعبير عن الفكر المجرد …).
وإقحام العامية في الفصحى يرجع إلى مرحلة سابقة، وتحديدا في مجال الأدب، عند نجيب محفوظ ويوسف إدريس، اللذين أدخلا بعض التعبيرات العامية في سياقات سردية. ولعل ذلك كان منهما على سبيل الإمعان في الواقعية، ثم حذا حذوهما كتّاب وأدباء، منهم مغاربة، ولكن مع قدر كبير من التكلف والالتباس.
ولا بد أن نفطن إلى أن إدخال أو “إقحام” العامية لا يقف عند حدود الحلية البلاغية أو الواقعية. فهو سلبي من حيث إنه يوضح الفرق أو المفارقة بين شيء وشيء آخر مختلف عنه. إنه تعميق للمشكلة.
وإقحام العامية في مجال الإشهار وملصقات التوعية وبعض الإعلام المسموع والمواقع الإلكترونية الإخبارية ناتج عن توجهات واعية لها خلفية في ما يُعرف بـ “القرب” –إعلام القرب مثلا. وهذا النزوع إلى الشعبية خاضع لنسق ممنهج في مجالات مختلفة تمتد حتى إلى الاهتمام بالعامية في الدراسات اللسانية الأكاديمية وفي السينما والغناء …
وما هذا الجنوح إلى “الشعبية” في التواصل إلا انعكاس لاتجاه واسع وشامل. كما أن هذا الجنوح إلى العامية موجود في طبقة من طبقات التفكير عند أصحابه والدعاة إليه والذين يبررونه بقناعات ونعوت مثل “القرب” و”الشعب” و”الفاعلية في التواصل”، وما شاكل ذلك من نعوت فيها إيحاءات الإيجابية.
ولا بد في هذا السياق من طرح السؤال المعرفي: هل انحسار الفصحى وإفساحها المجال للعامية في تلك المجالات ناتج عن شعور بفشل الفصحى وبأنها لم تعد قادرة على تحقيق التواصل؟ سؤال تقتضي الإجابة عنه التجرد من كل التصورات العاطفية، وإخضاع الجواب والتقديرات إلى منطق علمي حسابي وواقعي.
وأخيرا، فإن نزعة “شعبية التواصل” تدفعنا إلى ملاحظة أنها انتشرت وما فتئت تنتشر، في وقت تتحمس وتتعاظم فيه الدعوات إلى الحفاظ على “لغة الضاد” ومناهضة دعاة التدريج.
المسألة، فيما يبدو، تتعلق بخلل عميق، خلل لا يمكن تصنيفه إلا ضمن قهقرى حضارية.
3- تظهر بين الفينة والأخرى دعوات لإحلال العامية محل الفصحى في التعليم
والإعلام وغيرهما. ما رأيكم في هذه الدعوات وخلفياتها؟ وهل لهذه الدعوات علاقة
بحال الفصحى، إذ يشتد هديرها كلما كانت حال العربية في ضعف وهوان، ثم تخبو قليلا
كلما بدا على سحنة العربية شيء من الصحة والعافية، كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين؟
لا أعتقد أن الدعوات إلى استعمال العامية في التعليم
والإعلام تشتد أو تخبو كلما وهنت الفصحى أو تقوّت. فالوهن والقوة في اللغة مسألة
أجيال. أما الدعوات فقد تتخذ شكل هبّات تتحكم في خيوطها جهات ذات مرجعيات وخلفيات
سياسية أو إيديولوجية. فالفرق واضح.
وهناك وجهان لهذا الجدل. الأول يمكن أن ننظر منه إلى القطبين من حيث الغايات الجادة والبعيدة التي يقدم أصحابها الأدلة من أجلها. فأصحاب التشبث بالعربية يرون أن هذه اللغة تزخر بإمكانات واسعة لاستيعاب المعرفة والعلم. وهي من الناحية الرمزية رصيد حضاري. ولا تخلو هذه النظرة برمزياتها من قدر من العاطفة، وغالبا ما تنتصب خلفياتها وراء توجس من الآخر ممثلا ليس في لغته وحسب، بل وكذلك بما يمثله تاريخ الصراع الحضاري معه، لذلك غالبا ما تصحب أدلتهم مسألة المؤامرة.
أما القطب الثاني فيقدم من الأدلة ما ينتمي إلى العملية والفعالية و”البراغماتية”، وأن الفصحى لم تعد لغة أمّاً بدليل أننا نحتاج إلى تعلم مبادئها أولا، وهذا عائق. ولا يخلو موقف هذه الفئة أيضا من حماسة واندفاع، قد نفسرهما بكون العامية لغة تطرح شفاهيتها وشعبيتها كثيرا من الأسئلة عن قدرتها على استيعاب العلم والمعرفة.
وكلتا الفئتين لا تقدمان مشروعا عمليا واسعا لتفعيل هذه الدعوة/النظرية. صحيح أن تجربة تعريب التعليم قام بها خبراء على مدى سنوات، ولكن الحقيقة أن نتائجها كارثية على أكثر من صعيد. فالأجيال الأخيرة تبين أنها لا تتقن العربية، كما أنها أجيال لا هي “وحيدة اللغة”، ولا هي تتقن ما ينبغي أن يكون وما هو شائع في الدول الأخرى، وهو اللغة الثانية.
والحقيقة أيضا أن الأجيال الحالية باتت تتواصل بلغة عربية مهترئة، ولا نستطيع أن نخفي حقيقة حاصلة بالفعل، وهي أن قاعدة عريضة من المتعلمين في المغرب يكتمون أو يبوحون بحسرة عميقة على عدم تعلم لغة أخرى. ومن ينفي هذا الأمر فكأنما يخفي الشمس بالغربال.
إن الدعوة إلى العامية والدعوة إلى الفصحى تفتقران معا إلى كثير من الواقعية. ويمكن أن نلمس هذا عمليا وواقعيا في المثال التالي: فالطالب بمجرد الخروج من الدرس أو المحاضرة يترك خلفه اللغة العربية الفصحى ويشرع في مراجعة الدرس مع زميله بالعامية حتى ولو كان درسا في الشعر العربي. ويراجع درس الرياضيات إذا كان منفردا على شكل مونولوج عامي لا فصيح.
ولعل البعض يتساءل في هذا الصدد: أليس هذا الانجذاب إلى العامية تعبيرا عما ينبغي أن يكون؟
وهذا الانجذاب الطبيعي إلى العامية ناتج، في تقديري، عن ارتباط الفصحى نفسيا وتصوريا بفضاء وسياق رسميين، وهما القاعة أو المدرج الجامعي. ولهذا فإن بالإمكان طمأنة أصحاب الدعوة إلى العامية بأنها تُستعمل عمليا بنسبة عالية في التعليم إذا قررنا أن فضاء المعرفة لا يقتصر على الثانوية أو الجامعة…
كما يمكن مطالبة أصحاب الدعوة إلى استعمال العربية الفصحى بما يوضح مطالبهم. فإذا كان الأمر متعلقا ب”الحفاظ” على العربية و”التشبث بها”، فهذا يقتضي أن تكون هناك عربية سليمة فعلا ومتداولة، لأن الحفاظ والتشبث يكونان بالأشياء الموجودة وجودا فعليا! وإن كان الأمر غير ذلك، فعليهم تعديل لغة الدعوة وصياغاتها إلى “إحياء” اللغة العربية الفصحى أو “بعث” لغة الدين والأسلاف. واللغة التي ما تزال في طور البعث والإحياء لا يمكن أن تنهض بالتعليم إلا بعد تحقيق هذه الغاية لتكون جاهزة للتعليم، وهذا يتطلب، من الناحية النظرية، أجيالا.
وحاصل القول أن كلتا النظرتين أو الدعوتين تلتبسان إما بالطوباوية والانغلاق أو بالحماسة الزائدة والشعبوية والافتقار إلى مشروع جاد. وهذا لا يعني عدم وجود حل ينهض بالتواصل في التعليم والإعلام. فهناك تجربة ناجحة تعود إلى الأمس غير البعيد، وقد آتت ثمارها وعمّت التعليم والإعلام في أرجاء العالم العربي، وقلما يلتفت إليها أو يهتم بها أصحاب الدعوات، وأعني بها التجربة التي عاصرت النهضة العربية في مصر والشام في فترات من القرن العشرين، حيث تُعتبر هذه الفترة دقيقة وحاسمة في نقل اللغة العربية الفصحى من لغة “عصر الانحطاط” والركاكة إلى لغة عربية فصحى استطاعت تطويع العربية لتصير لغة مفاهيمية عصرية في جل العلوم والمعارف.
أقصد هنا الجيل الذي جعل اللغة العربية أكثر مفاهيمية بفضل اطلاعه المتنوع على ثقافة الغرب وعلومه عن طريق الرحلات الدراسية أو المهنية عند الكتّاب والصحافة في مصر ولبنان وسوريا.
ويمكن سوق بعض الأسماء كطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهما من جيل الرواد وأصحاب المعاجم من اللبنانيين مثل بطرس البستاني ويوسف حتّي والبعلبكيين وأمين المعلوف وغيرهم. فإلى هؤلاء يعود الفضل في نقلة صامتة عرفها تطور العربية لا زلنا نجني ثمارها إلى اليوم.