- مصطفى قشنني
تحل ذكرى وفاة الشاعر المصري العربي الراحل أمل دنقل (1940-1983) ،خلال هذه الأيام، في خضم واقع عربي موبوء سيء مطوّق بالغطرسة والتسلط البشع، ومكبّل بتعدّد أشكال الخنوع والخيانات والمسوّغات والتبريرات ومحفوف بآلة البطش والتنكيل الجهنمي الصهيوني التي أتت على أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء والمظلومين العُزّل في فلسطين وفي غيرها من البلاد العربية، تحل ذكرى شاعر الوجه الأسمر القمحي والملامح الحادّة اليقظة والعينين اللامعتين المغسولتين بالدمع ، شاعر الرفض والإنتصار لقضايا المحرومين والمهزومين والمظلومين، شاعروقف سدا منيعا أمام مختلف أشكال الاستبداد والظلم في بلده مصر بلْ وقد كان نصيرا للضعفاء والبسطاء والمقهورين في كل الأوطان، فسمي بأمير شعراء الرفض فكان كذلك وبدون منزع، يقول في أحد القصائد : .
أيها الواقفون على حافة المذبحة / أشهروا الأسلحة / سقط الموت / وانفرط القلب كالمسبحة/
المنازل أضرحة / والزنازن أضرحة / والمدى أضرحة / فأشهروا الأسلحة..وأتبعوني /
أنا ندم الغد والبارحة / رايتي عظمتان وجمجمة / وشعاري الصباح”.
ولد أمل دنقل في صعيد مصر، حيث انبثقت رؤيته الثاقبة لأشكال الميز والتفاوت الطبقي والإستغلال البشع للإنسان المصري من قبل أرستقراطية متسلّطة جشعة، في الصعيد أينعت راديكالية أمل دنقل واشتدّ وهج ثوريته ، ثم انتقل إلى القاهرة مزودا بالثقافة الواسعة التي ورثها عن والده الفقيه الأزهري وتبوأ مكانة ثقافية مرموقة فيها، وقد بدأ حياته قوميا ناصريا إلا أنه في سنوات نضجه انقلب على هذا النظام واعتبر ( أنه لا يستطيع أن يدين بالولاء لنظام يبدأ بفتح المعتقلات أمام مفكريه ومثقفيه) .
لكن رفضه لسلطوية عبد الناصر لم تمنع أمل دنقل من العمل على يسار الدولة، متخذا من الشعر ذلك الإرتباط الوجودي والمنحى النضالي الذي يحدّد معالم بوصلة مواقفه وقناعاته، لتظل الحرية جوهر ما يبحث عنه أمل دنقل طوال تجربته الشعرية..فهي صاحبة السيادة والأولوية المطلقة على الأقانيم المقدسة، حيث الحق بتحقيقها والجمال نتيجة لتحققها، بل هي شرط التحقق العيني والتاريخي للحضور الإنساني كما تؤكد على ذلك زوجته الكاتبة عبلة الرويني..
حمل أمل دنقل هموم الجماهير العربية التي كتب لها أشعاره، وتوجّع لضياع النصر وتجرّع آلام النكسة وما تبعها من خذلان وهوان فكتب على اثر ذلك قصيدته الشهيرة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة:
“أيتها العرافة المقدَّسة / جئتُ إليك مثخناً بالطعنات والدماء / أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة / منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاء / أسأل يا زرقاءْ../ عن فمكِ الياقوتِ، عن نبوءة العذراء/ عن ساعدي المقطوع، وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسة / عن صور الأطفال في الخوذات ملقاة على الصحراء / عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء / فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسة /!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء / أسأل يا زرقاء”.. !!
وقد توّجت هذه القصيدة المعبّرة عن سردية النكسة العربية أمل دنقل الشاعر العربي الثوري الأول على خارطة الشعر العربي، فالمفارقة في القصيدة تجسّد صرخة الشعوب العربية التي صدقت حكامها، ثم اصطدمت بالحقيقة التي أظهرت ضعف هؤلاء الحكام وعجزهم وتخاذلهم، فهم أسود على شعوبهم و في الوغى وعلى العدو نعامة.
رحل جمال عبد الناصر متجرّعا آلام هزيمته النكراء وخلفه الرئيس أنور السادات وبقي الشارع المصري في حالة من الفوران مطالبا بحرب ترد للأمة كرامتها وعزّتها واعتبارها، فكانت حرب أكتوبر التي أعقبها السقوط المدوي في أحضان التطبيع مع الصهيونية الغاصبة للحق الفلسطيني المشروع، هذا الموقف ضرب بعرض الحائط تماما الآمال العريضة للشعوب العربية في التحرير والنصر.
فكانت الصرخة المدوية لأمل دنقل ..
لا تصالحْ / ولو منحوك الذهبْ / أترى حين أفقأ عينيكَ / ثم أثبت جوهرتين مكانهم هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى/ لا تصالح.. ولو توّجوك بتاج الإمارة / كيف تخطو على جثة ابن أبيك/
وكيف تصير المليك.. على أوجه البهجة المستعارة/ كيف تنظر في يدي من صافحوك، فلا تبصر الدم في كل كف / لا تصالح.. فليس سوى أن تريد/ أنت فارس هذا الزمان الوحيد / وسواك المسوخ / لا تصالح “…
لقد لامست هذه القصيدة – التي تعتبر “مانفستو” الثورات والإحتجاجات المدوية في الميادين والساحات العربية – الوتر الحساس للجرح فكانت ولا زالت بمثابة تلك الصرخة التي تصدح مؤججة المشاعر للكفاح ضد مغتصب الأرض والحق الفلسطيني المشروع، ذلك أن دنقل يعتبر الصلح لا يكون إلا بين ندّين حقيقيين، لكن عندما يكون طرف ما غازيا ومعتديا ومحتلا يصبح رفضه أولوية لا تقبل الصلح أو المساومة …
قصيدة”لا تصالح” ليست مجرد عمل شعري صرف، بل هي صرخة مدوية احتجاجية ضد الإستسلام والخضوع للظلم في كل مكان، فهي تتجاوز السياق السياسي المصري الذي كُتبت فيه لتُصبح رمزا ثقافيا وانسانيا يعبر عن رفض الخيانة والمساومة والإنبطاح والتسويات السياسية الغير عادلة، وبفضل أسلوبها السهل الخطابي المباشر، والتصوير الفني العميق، والتكرار الذي يُؤكد الرسالة، استطاعت القصيدة أن تظل خالدة في الوجدان العربي، مستلهمة حرب الباسوس كرمز تاريخي لفهم قضايا العصر الحديث.
ولم تقتصر مواجهة أمل دنقل للسلطة بالشعر، بل امتدت هذه المواجهة إلى الخيبات الشخصية والنوائب، بما فيها المرض الفتاك الذي ألمّ به، فقد أُصيب بالسرطان وعانى منه ما يقرب من ثلاث سنوات، وتجلت معاناته مع المرض في مجموعته “أوراق الغرفة 8” وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام الذي قضى فيه ما يقارب أربع سنوات:
” بين لونين: أستقبل الأَصدِقاء / الذين يرون سريريَ قبرا وحياتيَ.. دهرا / وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقة / لونَ تُرابِ الوطنْ”ْ!
فعندما دخل أمل دنقل مرحلة العلاج، لم يكن المرض بالنسبة إليه مجرد تجربة جسدية، بل فرصة للتأمل العميق في الحياة والموت،تحولت “الغرفة 8 “التي كان يعالج فيها، إلى فضاء شعري رحب، حيث رسم عبر القصائد واقع المرض من الداخل، متناولا الألم كحالة وجودية لا مجرد معاناة جسدية. بل وأكثر من ذلك فقد حوّل الألم إلى طاقة ابداعية خلاقة مُلهمة وصرخة مقاومة ضد الفناء. فقد كان يحتجّ على الموت ويرفض الإستسلام له – هو أيضا – دون مقاومة إبداعية. بل كان أحيانا يسخر منه ويُعري المفارقة الملغزة بين بياض أماكنه (الموت) وسواد التعبير عن حضوره “لون الأسرة / أربطة الشاش والقطن / قرص المنوّم / أنبوبة المصل / كوب اللبنْ / كلّ هذا البياض يذكّرني بالكفنْ / فلماذا إذا متّ يأتي المعزّون متّشحين بشارات لون الحدادْ / هل لأن السوادْ هو لون النجاة من الموت / لون التميمة ضدّ الزمنْ / ضدّ مَنْ؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأنْ؟”
خلاصة القول،إذا كان الزمن هو الناقد الأهم والعامل الحاسم في الحكم على نتاج الشعراء والمبدعين ، فإن المرء لا يجافي الحقيقة بشيء إذا اعتبر أن أمل دنقل هو أحد الشعراء القلائل الذين نجحوا في امتحان الزمن، وتمكنت نصوصهم من الرسوخ بثبات في ذاكرة القراء والمتابعين على المستويين المصري والعربي. ففي حين كان النسيان جاهزاً لتلقف العشرات من مجايلي الشاعر، فإن العشرات من نصوص أمل دنقل، لا تزال نابضة بالحياة وقادرة على الإفلات من أسر اللحظة العابرة لمعاينة عراك الإنسان، العربي بوجه خاص، مع نفسه من جهة، ومع محيطه وسلطاته القامعة وقدره المأساوي من جهة أخرى، كما يذهب إلى ذلك الشاعر العربي شوقي بزيغ.
يحي زروقيمنذ أسبوع واحد
رحمه الله.فعلا أمل دنقل شاعر استطاع من خلال شعره الشفاف أن يصل إلى قلوب الناس البسطاء ويخلد دون تعقؤد أو تعميةلحد الآن.في حين فضل بعض الشعراء الغموض فكان مصير شعرهم الزوال والنسيان.وتبقى قصيدة لاتصالح من معلقات الشعر الحديث.