فرق كبير بين هذه المرأة قبل دخولها البرلمان، وبين شخصيتها الآن كما تقول هي بنفسها. فمن أستاذة إلى فاعلة جمعوية، قفزت على سلم السياسة مع حزب رفع شعار تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، احتضنها ليستفيد من جرأتها وصوتها المرتفع لإيصال صوت نسائي إلى قبة البرلمان وكان يهيئها لمناصب أكثر قربا من دوائر القرار، وهو ما كانت تحلم به بالطبع كسياسية متطلعة.
سرعان ما استثمرت البرلمانية المغربية أمينة ماء العينين قربها من المقررين الأوائل داخل تنظيمها السياسي “العدالة والتنمية”. لذلك تم الدفع بها إلى مناصب عديدة، فعينت عضوا في لجنة العدل والتشريع بالبرلمان وعضوا في المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والمجلس البلدي لمدينة تيزنيت، والمجلس الجهوي لسوس ماسة. وهي مسؤوليات تنوء بها الجبال، إذ كيف يمكن الحفاظ على جودة الأداء مع كل هذه المهمات الثقيلة؟
وما بين العام 1980 عام ولادتها في قرية بضواحي مدينة تزنيت، جنوبي المغرب، والمفارقات التي بصمت بها بداية 2019، كانت رحلتها الحياتية تتراوح بين الألم والطموح والتطلع، ومحاولة الانضباط وفق مرجعية سياسية وأيديولوجية تنهل من الإسلام السياسي، وها هي تجذب الانتباه في بداية يناير الجاري بتسليط الأضواء الكاشفة عليها، في مشهد جديد يحمل لمسة أخلاقية وسلوكية كبيرة.
أتت ماء العينين من مدينة تزنيت إلى الرباط راكبة على صهوة جواد الانتخابات في العام 2011 لتستقر في العاصمة كبرلمانية عن العدالة والتنمية، وتعتلي بعدها منصة البرلمان كنائبة لرئيسه. تجربتها مع التيار الإسلامي بدأت أثناء دراستها الثانوية وقد سبقها اطلاعها وقراءاتها لمؤلفات تتعلق بالإسلام السياسي كانت تجلبها معها إحدى صديقتها الطالبة بجامعة أغادير، وفي 1997 انضمت إلى “العدالة والتنمية” وتوالت مسؤولياتها إلى أن انتخبت وكيلة لائحة في جماعة تيزنيت، ودخلت العمل البرلماني الذي تراه “مدرسة حقيقية”.
هناك من اتهمها باستغلال موقعها لاستقدام زوجها، الذي كان يعمل معلما في تيزنيت، إلى الرباط بطرق غير قانونية ليشغل منصب رئيس الموارد البشرية بالوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، التي كان يقودها زميلها الحبيب الشوباني، وهذا الأخير كلفته علاقته بزميلته سمية بنخلدون منصبه الوزاري.
مسائل قد تبدو ضمن حدود الحياة الشخصية، ولكنها في صميم الحياة العامة عند السياسي، إذ لا بد من وضع ما وقع للبرلمانية والقيادية بحزب العدالة والتنمية المغربي ماء العينين عندما ظهرت صور لها بباريس متبرجة دون حجاب، في سياقه السياسي والتنظيمي والهوياتي والأخلاقي، ما دام الحزب يركن إلى منظومة أخلاقية ودينية لتوصيف وتبرير علاقته بالسياسة وتدبير المجال العام، خصوصا بعد ظهور الوزير محمد يتيم عن نفس الحزب الإسلامي بفرنسا صحبة فتاة تصغره بكثير قال إنها خطيبته.
الحجاب السياسي
بدأت القصة بصور عرضتها بعض المواقع والصحف الإخبارية تبرز فيها البرلمانية المغربية بلباس لم يعهدها به أعضاء حزبها والمواطن العادي الذي يراها مترافعة في البرلمان وخارجه مرتدية “الحجاب الإسلامي”. فماء العينين قدمت نفسها دوما كمناضلة وقيادية داخل التنظيم السياسي الذي ينهل من مرجعية وأنماط وسلوكيات الإسلام السياسي في اللباس والأفكار ومنهجية العمل. لكن البرلمانية، حسب الصور المنسوبة لها، ظهرت في بعض الأماكن بالعاصمة الفرنسية باريس وهي متجردة عن لباسها “المحتشم”، منطلقة فرحة وسعيدة.
البعض يرى أنه لا ضير في هكذا سلوك، إذا كانت الصور قد جاءت في إطار الحرية الفردية دون إقحام التعاقد السياسي والأدبي والأخلاقي الذي تم بين البرلمانية والمغاربة الذين صوتوا لها. وبعد الضجة التي رافقت نشر الصور والتي حاولت ماء العينين التطبيع مع تداعياتها، أصبح النقاش حول سلوك البرلمانية تلفّه كل حيثيات المجال العمومي بما له وما عليه، فهي منذ دخولها المجال العام وممارستها السياسة تحت مظلة حزب يتولى الحكومة منذ العام 2012 لم تعد شخصية عادية، بل أضحت شخصية عامة تخضع للمراقبة اللصيقة من كل ذي مصلحة بخصوص أدائها السياسي وسلوكها الشخصي الذي يمتزج بالضرورة مع مواقفها وآرائها.
العلاقة بين الرموز كالحجاب وتجلياتها الدينية ليست مسألة تعسفية أو غير ذات قيمة فالمنظومة الدينية مرتبطة أساسا بالرموز، والحجاب عند المحافظين ومنهم حزب العدالة والتنمية من الأساسيات المرتكز عليها مشروعهم السياسي وأطروحاته الأيديولوجية، بالتالي ما يجمع ماء العينين بقواعدها الانتخابية هو هذا المحدد الذي يختزل منظومة أخلاقية أساسها الصدق والشفافية.
التفاعل مع واقعة الصور الباريسية، سواء من جهة المتضامنين مع ماء العينين كشخص له كل الحق في خلع أو ارتداء الحجاب، أو أولئك الذين تصيدوا فعلتها لتصريف حسابات سياسية باعتبارها تشتغل ضمن المجال العام، لا يغنينا عن الحديث عن ازدواجية في الخطاب عند بعض المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي، والتي يمكن أن تتحول إلى نفاق من الدرجة الأولى، وتتجه بهم إلى نهج خطاب المظلومية كحالة عاطفية نفسية لتخفيف الضغط عليهم.
وهو ما عبرت عنه الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد وزعيمة فيدرالية اليسار الديمقراطي، نبيلة منيب، تعليقا على الصور الباريسية بأن مشروع هذا التيار والخطاب السياسي المُعلن بترشيد الحياة العامة بالأخلاق متناقضان مع ما يمارسه اليوم، ما جعل البعض يعتقد بوجود نخبة سياسية ستأتي بالجديد على جميع المستويات خصوصًا على المستوى الأخلاقي في الممارسة السياسية نظرًا لارتباط السياسة المحترمة بالأخلاق، لكن ظهرت تناقضات لها علاقة بالحياة الشخصية للبعض وخاصة بالنسبة للشخصية العمومية وهو ما جعل هذه النخبة محط انتقاد.
لقد اشتكت ماء العينين من جور ذوي القربى بعدما طالها إهمال رئيس الحزب سعدالدين العثماني في أشغال المجلس الوطني المنعقد مؤخرا، ولم يلتفت إلى محنتها عند تسريب الصور بل أكد في كلمته عدم رضا قيادة الحزب على بعض التصرفات التي صدرت عن أعضاء بارزين فيه قائلا إن “الذين يتلاعبون من أعضاء الحزب بمبادئه لن نتساهل معهم، والمرجعية الإسلامية خيار التأسيس، ولا تراجع عنها”.
سلوك فردي أم سلوك تيار؟
[ ماء العينين تشكو إهمال العثماني رئيس حزب “العدالة والتنمية” لها في أشغال المجلس الوطني مؤخرا، ومن كونه لم يلتفت إلى محنتها عند تسريب الصور.
كشفت التكنولوجيا عن جزء من حياة ماء العينين الخاصة، وكان سببا في تعميق جراحها، حيث قدمت شكوى لدى مكتب الوكيل العام للملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط في العام 2013، بعد أن تمّت قرصنة بريدها الإلكتروني وحسابها على الفيسبوك، لتكشف التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية، أن زوجها هو من قام بذلك لأسباب تخصه ولعله أراد التحقق من سلوك زوجته.
نفس التكنولوجيا كانت حاضرة حين ظهرت ماء العينين في صور أخرى وهي غاضبة برفقة صديقها اليساري جواد بن عيسى، بعد تعرضها لحادث سير في الرباط خلف فقط خسائر مادية، والواقعة أبرزت أيضا تناقضا صارخا في القول والفعل، إذ كان من المقرر أن تترأس جلسة مجلس النواب في نفس اليوم وعللت الغياب بكونها مريضة وأيضا في وجودها مع شخص لا تجمعه معها علاقة شرعية.
فهل هو تمرد على الواقع قد تشكل لديها مبكرا؟ أم هي طبيعة سيكولوجية تدفعها إلى السباحة عكس التيار؟ أم أنه سلوك تيار كامل يقوم على التناقض في ما بين التنظير والتطبيق؟
واليوم تلجأ ماء العينين إلى عبدالإله بن كيران زعيم الحزب ومرجعيته السياسية والتدبيرية والناصح الأمين في مثل هذه الملمات، لتدفع به تداعيات الصور الباريسية. لقاء البرلمانية والزعيم وثقته ودعمه لها أمور اعتبرتها في هذا الوقت ضرورة تمليها “الحرب الضروس” عليها كما تقول، فهو يعتبر بالنسبة إليها، ملجأ نفسيا لها أولا وحماية سياسية ثانيا وحصانة تنظيمية ثالثا.
فتاوى المنقذ بن كيران
عاب بن كيران على ماء العينين أنها لم تأت لاستشارته منذ اليوم الأول، قائلا لها “لو استشرتني لقلت لك: بغض النظر عن صحة الصور من عدمها، ولسْتِ أصلا في موقع مساءلة تجاهها، كنت سأشير عليك أن تقولي: وماذا بعد؟ وإن كنت قد اخترت أن أنزع الحجاب في الخارج أو أرتديه هنا فهذا شغْلي، واللي مزوجني وما عجبوش يطلقني واللي كيتسالني شي حاجة ياخذه، واللي خرقت القانون نتحاكم واللى خالفت شي حاجة من تعاقدي مع الحزب نتساءل، وما دام ارتداء (الفولار) أو خلعه لا يدخل ضمن هذا كله فتلك مسألة شخصية”.
إنها الوصفة السحرية، فما أفرزه اللقاء مع بن كيران كانت له نتائج إيجابية نفسيا وتنظيميا وسياسيا على القيادية الهاربة من تداعيات اختياراتها، فالزعيم أفتى لها بألا تلتفت إلى كل تلك الضجة، وكأن الذين عابوا عليها سلوكها كلهم حداثيون وعلمانيون، خصوم وأعداء، وهذا ما تنفيه خرجات تأنيبية لبعض قيادات وأطر وقواعد الحزب ليس آخرها البرلمانية عن نفس الحزب إيمان اليعقوبي قائلة “ليس هكذا يكون تصرف الشخصية العمومية، قرار نزع الحجاب لا يكون بوضعه في مكان والتخلص منه في مكان آخر، ولم يرشحك الحزب للبرلمان لحجابك، ومن حق من رشحك وصوت عليك أن تكوني صادقة معه”.
لكن الحزب كما جاء على لسان زعيمه الفعلي لن يحاسب البرلمانية على سلوكها الذي يمس ليس فقط أحد الرموز التي تؤسس لمرجعية جل المنتمين للحزب بل كذلك صفة الوضوح والشفافية والمصداقية في العلاقة مع التنظيم والمجتمع. وهذا عكس ما شدد عليه العثماني في أن الحزب لن يساند أبدا من خرج عن المبادئ التي تأسس عليها البيجيدي مهما كانت صفته أو منصبه.
خداع القواعد الشعبية
ماء العينين محسوبة على ما اصطلح على تسميته بـ“تيار بن كيران”. ولا غرابة في لجوئها إليه عندما أثيرت حولها شكوك الالتزام بالمبادئ.
لا شك أن ماء العينين تحسب على ما اصطلح على تسميته “تيار بن كيران” ضد تيار الاستوزار الذي اختار الالتزام بقواعد اللعبة، وفضل الاستمرار في قيادة الحكومة ووضع حد لرئاسة بن كيران للحزب، ولا غرابة في لجوئها إليه عندما أثيرت حولها شكوك الالتزام بما يمثله الحجاب من رمزية أخلاقية وسلوكية عند الإسلاميين.
كانت ماء العينين سلاحا في يد بن كيران عندما كان أمينا عاما للحزب، وصوته المسموع بعد رجوعه للصفوف الأخيرة عندما عوضه زميله العثماني على رأس العدالة والتنمية والحكومة الائتلافية، وهي هاجمت كل من سولت له نفسه الاعتراض على ما قرره زعيمها وقدوتها فأشهرت لسانها بكل قوة ضد المعطلين والأساتذة المتدربين والمعارضين داخل الحزب وخارجه.
وليرد لها جميلها سياسيا، قال بن كيران إن ماء العينين “تم استهدافها في قضية الحجاب، وحتى إن كان لباسها صحيحاً فأنا لن أحاسبها عليه”، ووقف ضد قيادات الحزب محذرا من اتخاذ أي عقوبة تأديبية في حقها، معتبرا أن محاسبتها وقوع في الفخ. دون أن يوضح من نصب ذلك الفخ ولا الغاية منه أصلا. لكنه في المقابل أشار إلى أن “جهات مغرضة قامت باستهدافها وتصويرها بلباسها المتبرج، ولو كان الشرع يطبق فيجب معاقبة هؤلاء لأن ذلك يخالف شرع الله”، متناسيا أن ماء العينين تظهر جالسة بمحض إرادتها في وضعية التقاط الصورة.
وهكذا استثمر بن كيران كل رصيده الخطابي ليدافع عن ماء العينين لابسا جبة الحداثيين والعلمانيين عندما قال “أنا ماشي شغلي حتى في الشذوذ الجنسي رغم أنني أستنكره، وما عندي حتى مشكل يمشي راجل مع لمرا، لكن اللي ماشي مسموح به هو المجاهرة بالمعصية، وهي التي يعاقب عليها الإسلام”.
ويبدو أن لماء العينين نظرية في العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، والمعروف أن هذين الفصيلين مختلفان حد التناقض في المرجعيات الأيديولوجية والفهم السياسي للديمقراطية والحكم والعدالة الاجتماعية، إذ ترى أنه صار لزاما في الوضع الذي وصلنا إليه اليوم أن يؤمن الإسلاميون والعلمانيون معا، بالحاجة القائمة إلى مرحلة انتقالية يؤجل فيها الاحتكام إلى الصناديق لحل الخلافات، ويعمق فيها الحوار والنقاش.
لماذا هذا التوجه؟ تجيب ماء العينين بالقول “كي نرتقي بوعينا الجماعي إلى مرحلة قبول كل طرف بوجود الآخر باعتباره مكونا أساسيا لا يمكن إقصاؤه أو مصادرة حقه في الوجود لمجرد الاختلاف معه”. لكن منيب زعيمة الاشتراكي الموحد شددت على أنَّ المسألة لا تتعلق بالأشخاص سواء ماء العينين أو غيرها، ولكنها تتعلق بتيار سياسي في المغرب يحمل خطابًا ومشروعًا مجتمعيًا غير معلن عنه، انكشف أمره منذ مدة، عقب ظهور التناقض الكبير بين الخطاب والممارسة، مؤكدة على أنَّ مشروع الإسلام السياسي من بين أدوات اشتغاله “نوع معين من اللباس” والذي يعتبرونه اللباس الشرعي بخاصة بالنسبة للمرأة التي عليها وضع “الحجاب” وتغطية “الشعر”، في مشهد يعكس كيف أن الإسلاميين استقووا بعمقهم الشعبي وتفوقهم الانتخابي، لينقلبوا على قيم ناخبيهم ذاتها بعد وصولهم إلى السلطة…..
“من انجاز محمد ماموني العلوي عن صحيفة العرب اللندنية”.