كانت الساعة تشير إلى الثامنة.انتبهت الأم “ناهد” أن طفلتها
“ليلى” لم تبرح غرفتها، فنادتها مرة، ومرات، لكن دون جواب. اعتراها الشك، فانطلقلت كالسهم غير آبهة بالمرض، والعرج في رجلها اليسرى. ولجت الغرفة، فوجدت طفلتها تبكي، وتنظر إلى حذائها البني، وتحاول تلميعه بقليل من الحامض، والزيت، لكن لاشيء تغير. دنت منها الأم، وقالت: “غدا سأرسله إلى العم”صالح” إسكافي الحي، وسيجعله حذاء جديدا، ثقي بي”. نظرت ليلى إلى أمها نظرة إشفاق، ثم وضعت حذاءها في كيس بلاستيكي تحت سريرها. انصرفت الأم، لكن ليلى قامت، وظلت تناجي الحذاء: “هل ستصبح جديدا كما ادعت أمي؟”رد عليها الحذاء: “مستحيل، لاشيء يعود إلى سابق عهده. هل يمكن لمهدك أن ينبعث من جديد؟ طبعا لا”.
ظلت ليلى تحذق في الحذاء، وتتخيل أن له مقلتين كبيرتين ولسانا وشفتين، وقلبا محبا، كما أن بإمكانه المشيَ، والحركة، والنطق تماما مثل الآدميين.
كانت ليلى تسأل، وتجيب في آن واحد، وتوهم نفسها أن الحذاء يرد عليها من خلال تغيير نبرة صوتها.أعجبتها اللعبة، ولم تحس بالوقت يمر.ضاعت الفترة الصباحية ولم تذهب ليلى إلى المدرسة. ظنت الأم أنها مجرد جمرة قصيرة من العناد وتنطفئ، لكن…الأمر كان جديا. قاد أمها الفضول للتنصت عليها، ومعرفة الحقيقة كاملة. ليلى ابنتها الوحيدة، ولايمكن أن تدعها تفرط في دراستها وإلا ستهدم عهدا أبديا قطعته على نفسها مذ غادرها بعلها إلى العالم الآخر. سمعت بكاء تارة، وقهقة تارة أخرى، ولم تتحمل ذلك، فاندفعت نحو الغرفة.
كانت الطفلة مشدوهة حائرة أمام الحذاء.لم تصدق أنه يتحدث معها،يحس بها،ويشفق عليها .همس في أذنها اليسرى: “نامي الآن، وغدا ستعثرين على ضالتك”
منذ سنوات لم تنم ليلى بذلك الهدوء دون كوابيس سببها زميلات المدرسة، فلطالما عيرنها بالحذاء المتآكل،المرتق عدة مرات، الحائل اللون… الذي عجز عن ترقيعه كل اسكافيو المدينة. كانت تحلم بأنها ترتدي فستانا أحمرا رائعا، وحذاء أحمرا جميلا، وفي يديها باقة ورود حمراء. يقف بعيدا عنها الإسكافيون ينظرون إليها في دهشة واستغراب؛ إذ كيف يتحول الحذاء القديم إلى …. آخر جديد، وعلى مقربة منهم تنظر إليها زميلات الدراسة: عائشة، فاطمة، سعاد، وناهد… أكثرهن حقدا وحنقا على ليلى لمجرد أنها لم تتفوق عليها يوما في الدراسة.
في الغد استيقظت ليلى وهي ترتدي الفستان والحذاء ، وتظهر في أجمل حلة كأنها عروس. هرعت إلى المطبخ غير مصدقة ماتراه بأم عينيها. صاحت: “أماه،أماه،انظري إلي”.نظرت إليها والدتها، وفركت مقلتيها الناعستين مثل مصباح علاء الدين، فانبعثت من فيها ضحكات ارتجت لها جدران المطبخ والصالون المجاور، وعانقت ابنتها .أحست الأم وابنتها أن السعادة ابتسمت لهما من جديد، وأن الحلم لم يكن حلما.
القصة مستوحاة من لوحة (صاحبة الحذاء) للرسام الإيطالي أنطونيو روتا Antonio Rotta (1903-1828) .
يحي زروقيمنذ أسبوع واحد
شكرا جزيلا للإعلامية حياة جبروني ولمنبر ها الإعلامي على النشر والتشجيع.مزيدا من التألق لجريدتكم.