لا يمكن للإنسان أن يعبر من النهر مرتين، هي المقولة التي ربما أوحت للكاتب العُماني محمد بن سيف الرحبي بعنوان الكتاب “الشمع لا يذوب مرتين” الصادر عن الآن ناشرون وموزعون بعمّان.
والشمع إذ يستعيره الكاتب بدلالتين متضادتين، فهو يشير للزمان والأثر في آنٍ معًا، فالشمع يتلاشى في احتراقه، لكن هذا الاحتراق هو مصدر النور والتنوير.
في عتبة الكتاب هو العنوان يلخص ما أراد أن يقول في العنوان الفرعي للكتاب “تجربتي في الصحافة” التي تنطوي على احتراق حقيقي للأعصاب، ولكنه -دون ارتدادات نفسية للمفردة- يمثل احتراقا لذيذا بما يرى من وهج الحروف والكلمات وهي تشع على الورق في مقالة أو تحقيق أو حوار أو قصة إخبارية أو ما يتصل بفنون الصحافة.
وبعد مشوار طال أم قصر، يقف الإنسان/الكاتب أمام مرآة الذات ليسترجع ما مضى وما راكم، ليتلمس أثر الحبر على يديه مما ترك السمع من سناء، أو مما تركت الفراشة من أثر بحسب محمود درويش:
أثر الفراشة
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ”.
كإني بالكاتب محمد بن سيف الرحبي يردد معه الصدى ما قال الشاعر وهو يسترجع الصور التي تمر كالخيال لدار جريدة عُمان، وعمليات المونتاج ورائحة (الربر) ولدانته وهي تمسك بالكلام، ثم انتقالها إلى الصناديق الغامضة في (علب) الحواسيب، ومرورها إلى سرادق المطابع وخروجها كسمك يفيض على الشاطئ، وخلال ذلك يستذكر التحولات التشريعية للصحافة وارتداداتها الاجتماعية كشاهد على حقبة من الزمان، وهذه هي أهمية الكتاب الذي لا يمثل سيرة ذاتية، بل شهادة على حقبة للمكان والزمان وارتداداته الاجتماعية.
ويستعيد الكاتب بحنين متسائلا، كيف انفرط عقد السنوات، ولم نقبض على ما يكفي من حياة، وهو يقصد أن هذه المهنة التي تُسمى مجازا السلطة الرابعة تأخذ الكائن وتحولّه إلى ماكنة تركض وتركض وراء أحداث ووقائع، ربما لا تخصّه، ولكنها تأكل عمره.
ويقول قبل ثلاثين عاما اتخذتُ القرار البسيط والعادي أن أختار السير نحو الصحافة، فغرق فيها، ويقول ما حببني في الصحافة، أنك تنتظر كل يوم حكاية، هي هدية كما يسميها، وهي حكاية الكاتب مع ما يتنفسه من حبر الطباعة والزمن الذي يضبط عقاربه مع صوت المطبعة الذي يهدر بأصوات الفرح والحزن والصور.
ومهنة الصحافة، يعني أن تمشي على حبل مشدود بين أن تكون ضد أو مع الحكومة، مستدركا جئنا في الزمن الصعب، من طفولة محرومة، وسرنا في زمن متباين الاتجاهات والتوجُّهات.
ويقول الكاتب: دخلت عالم الصحافة من حيث لا أحد حريص على أن يعلّم أحدا شيئا، وما تستطيع تعلّمه عليك الفوز به باجتهادك، هو نبت من الصخر أو مقارعة للجدران التي تنبني في المؤسسات الصحفية، وفي مواقع الخبر والظلال التي تحكم سير الخبر ولأي سبيل يسير.
هي حكاية شخصية مع الحبر وهدير الماكنات، ولكن الكاتب يراهن على العبور بها نحو العام في ما لا تخون الذاكرة، ويكتب عن القرية والدراسة وبداية العمل، ثم دخوله “بلاط صاحبة الجلالة”.
ويتوقف عند تحولات الصحافة وفضلها عليه وعلى المجتمع الذي يصفها حياة في الحياة، ملتفتا إلى ما يدور في كواليس الصحافة ودهاليزها، مستدركا في “ما بعد الحكاية” وكصحفي محترف، فقد بقي حريصا في ما يكتب أن يتيح المجال فيما قال للتأويل الذي يمكن أن يفهم خطأ، فبقيت حساسية المحرر تمثل ضابطا للرقابة الذاتية التي “تفلتر” الجمل والمفردات والفقرات التي يعي معها أن “مدير التحرير” يفرض علاقات ملتبسة ومرتبكة وشائكة مع كثيرين، في الصحيفة وخارجها.
الكتاب الذي زُين بلوحة للفنان العراقي علاء بشير يقع في 130 صفحة من القطع الوسط مرفقا بصور توضيحية تبين تحولات الطباعة الصحفية في سلطنة عمان.
هي كما يقول الكاتب الرحبي، حكاية بسيطة لإنسان بسيط جاء من قريته وليس في جيبه حتى الأحلام، كي يدعي أنه جاء ليحققها، لم يعرف سوى أن يمضي، وكما يقول: وعشنا وعشنا وعشنا..
عمل في الصحافة لأكثر من ثلاثة عقود، شغل منصب مدير تحرير، وخبير إعلامي بمكتب وزير ديوان البلاط السلطاني، ومدير عام لمؤسسة بيت الغشام ورئيس تحرير لمجلة التكوين.
أسس ملحق شرفات الثقافي، وتولى رئاسة تحرير مجلة الثقافية الصادرة عن مركز السلطان قابوس للثقافة والفنون.
وقدّم تجارب روائية وقصصية ومسرحية وسردية في 27 كتابا، وكتب عمودا يوميا بجريدة الشبيبة وقدم برنامجا تلفزيونيا على قناة عُمان الثقافية بعنوان أسئلة.
صدر له مجموعة من الروايات منها: “رحلة أبو زيد العماني”، “الخشت”، “السيد مرّ من هنا”، “الشويرة”، “اسمها هند”، “حيتان شريفة”، وست مجموعات قصصية، في المسرح وأدب الرحلات والمكان
فاز بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وعدد من الجوائز المحلية في السلطنة.