- مصطفى قشنني
كان من الضروري انتظار اسدال الستارعلى خيمة المعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي احتضنت العاصمةُ الإدارية الرباط، دورته الثلاثين، وكان من الضروري انتظار تجميع الأوتاد والعتاد، من أجل ابداء ملاحظات في صميم برامج وفعاليات المعرض، في إطار نقاش هادئ لا يُفسد للود قضية، نقاش هو من معين ما واكب المعرض المذكور من معارضة قوية مكوّنة من جيوش الغاضبين من المثقفين والباحثين والمبدعين والأكاديميين الألمعيين، الذين يساهمون في اغناء الثقافة المغربية والعربية والإنسانية بشكل كبير، والذين سجّلوا استياءهم العام من هذا “الحدث الثقافي” السنوي الذي أسعد المحظوظين وهُم أقلية قليلة دأبت كل سنة على الإستفادة من ريع ما يجود به سدنة المعرض من جزيل العطايا ووافر الإكراميات، وإستاءت له وتذمّرت منه قبيلة المثقفين، وقد سبق – في زمن مضى – أن أكّدنا من أن هذا المعرض المركزي في رؤيته – إن كانت له رؤيا – وفي ضيوفه المقتصرين على مثقفي ومبدعي المركز ( الرباط الدارالبيضاء مراكش وما جاورهما..)، مُمعن في التغييب الشبه التام لبقية الأطياف والجغرافيات الثقافية الوطنية، وهذا الميز والإجحاف ظاهرة عُرفت بتصاعد مدِّها وتكريسها من مدة، لكن خلال دوراته الأخيرة تحديدا فقد بدا للعيان هذا المنحى الإقصائي التصاعدي الغير مستساغ والذي تسبب في أعطاب تنظيمية لا حصر ولا عدّ لها. ومن المؤكد، أن السر في تجاهل الوزارة الوصية على القطاع لغضب واحتجاجات النخب المثقفة الفعلية والحقيقة، نابع من فقدانها للبوصلة الثقافية وضبابية الرؤية لديها، ناهيك عن افتقارها إلى الحدّ الأدنى من الحنكة والحسّ بالمسؤولية الثقافية الملقاة على عاتقها. وما تقتضيه من مقاربة تدبيرية تشاركية فعالة مجدية وذات أبعاد استراتيجية تستحضر مختلف مكونات الهوية الثقافية المغربية بأبعادها وجذورها وروافدها المتعددة، بعيداعن الإصطفافات الإيديولوجية والإلغائية والشوفينية…
وفي نظرنا فإن هذ التوجه المقلق في تدبير عرس ثقافي سنوي ينتظره المثقفون والمبدعون والنخب بفارغ من الصبر، إنتهى بإحباط وتذمر لا حدود لهما. ذلك أنه في الوقت الذي تستفيد فيه فئة قليلة محظوظة من كعكة المعرض كل سنة، دون وخز لضميرها – إن وُجد – فهي من يطبخ البرنامج ويُدبّر ماله و لوجيستيكه، ويقترح الضيوف من الأصدقاء والخلان، الكثير منهم يعتاشون من الثقافة ويقتاتون منها ولا علاقة تجمعهم بالإبداع إلا ما يرتبط بالخير والإحسان، وهذه الشلّة أصبحت تفرض طوقا نشازا وتكالبا شرسا، ليس فقط على دواليب المعرض بل امتدت أذرعهُ إلى كل ما له علاقة بالمجال العام لدعم الثقافة من معارض ومهرجانات وسينما ومسرح وموسيقى ونشر وكتاب ومواسم…في أغلب هذه المجالات حاضرة بقوة حديدية. ولا أعتقد أن في الأمر ما يدعو للاستغراب والاستهجان، في ظل جهل مطبق للفاعل السياسي بجدوى الثقافي كأهم محرّك للفعل التنموي والإجتماعي والحضاري للأمم والدول.
إن تنظيم معرض الكتاب، كما هو متعارف عليه في العديد من الدول شرقا وغربا، ومن خلال العديد من التجارب، يُسند تدبير فعالياته، – بعيدا عن منطق الزبونية والإخوانية والانتهازية والولاءات القبلية والعرقية والسياسية-، إلى نخبة وطنية تحظى بالتميّز والاجماع في المشهد الثقافي، ومُلِمَّة بطبيعة الأسئلة الجوهرية المتداولة فيه ومحيطة بما ينفع الناس ويؤطر وعيهم ويستهوى أفئدتهم، نخبة مؤثرة في صناعة القرار وإثراء المجال الفكري و الإبداعي الذي تشتغل فيه، بالنظر إلى ما تختزله من رؤية شمولية واسعة وعقلانية ثاقبة، وإلمام نافذ باختصاصاتها الثقافية ومسؤوليتها الأخلاقية في إنجاح المهام الموكولة إليها.
بعكس هذا المعرض الذي من مظاهر البؤس المقيت، الذي مُني به ، أنه فُرض عنوة على فضاء مختنق يكتنفه الحصار والزحمة والاختناق من كل حدب وصوب، خيمة السندويتشات والأكلات الخفيفة والعصائر والمشروبات أوسع بكثير من فضاء الكتب والعروض الثقافية، غياب التصور المقْنِع للبرنامج العام الذي جاء حافلا بالفوضى واللخبطة و”التلباق” والتكرار والتداخل وحضور وهرولة أشخاص بعينهم في فعاليات متعددة ووضع فقرات على مقاس “مرضيّ عنهم” إلخ …
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على مزاجية واضعيه وغياب الرؤية التدبيرية والحس الاداري للعمل الثقافي لديهم، فلا يُعقل في معرض دولي، غياب الأسئلة الحقيقية والمركزية حول اشكاليات الكتاب والنشر والتوزيع، والوضع الإعتباري والإجتماعي والإقتصادي للكاتب المغربي وحقوق المؤلف؟ وغياب النقاش عن الإطار المتجاوز والعقيم الذي يتمّ من خلاله اختيار ومنح جائزة المغرب للكتاب؟ وأسباب عزوف كبار الكتاب عن اقتراف فعل الكتابة؟ واللجوء الثقافي للعديد من المبدعين المغاربة إلى دور النشر والمنابر العربية لنشر ابداعاتهم والترويج لها، بعدما سُدّت في وجوههم أبواب الداخل؟ وأسباب انحصار ومُحاصرة الفعل الثقافي في وسائل الإعلام المُموّلة من لدن دافعي الضرائب؟ وعن جدوى الكتابة في الزمن الرقمي؟ وأي دور للمبدع في زمن الذكاء الإصطناعي؟ أسئلة جوهرية غابت أو تمّ تغييبها بشكل تعسّفي، خلاصة القول ما الجدوى من تنظيم المعرض إذا غابت في خضمه طرح ومناقشة الأسئلة الثقافية الحارقة والمُستفزّة والواخزة؟.
أما الحديث بلغة الأرقام عن دور النشر الحاضرة والتضخيم في أرقام الزوار والضيوف وطوابير الحشود من خلال الإستعانة بأطفال المدارس على وجه الخصوص لملء الثقوب والفراغات، وفتح المجال أمام من هبّ ودبّ من الدخلاء والمتطفلين وأشباه المثقفين، لم يعد مجديا بالمرّة، بل أدى إلى اختلاط غث المعرض بسمينه وانتصار الهجنة والغثاثة على حساب ما ينفع الناس من الثقافة والإبداع الفاعل والمؤثر والباني.