عبد السلام انويكًة
من بصمات القناة الثانية المغربية ذات يوم، ومن ذاكرتها الجميلة الماتعة التراثية الترابية الرفيعة المستوى، برنامج موسوم ب”ابواب لمدينة” وقد كان في حينه ولا يزال حتى الآن بوقع خاص في ارشيف المغاربة الاعلامي المرئي قبل حوالي عقدين من الزمن. ولعل “ابواب المدينة” هذا، كان بجولة باذخة عبر عدد من مدن البلاد التاريخية الأصيلة، بحيث ترك ما ترك من إثارة وإقبال وتتبع وفرجة وثناء وتثمين عال، لِما كان عليه من مادة جاذبة ومستوى أداء واخراج وجديد وتجديد وايقاع، فضلا عن تعريف وابراز لجوانب عدة كانت مغمورة هنا وهناك من حواضر المغرب ومنها حاضرة تازة. ولعل حلقة تازة كما تحضر في ذاكرة أهلها، كانت بشموخ وهيبة وتميز ونوعية ضيوف ومساحة تراث مادي ولامادي فضلا عن فن وعلم وأدب وأعلام. حلقة رغم مرور حوالي عقدين من الزمن عن إعدادها وتقديمها، لا تزال بقدر معبر من اطلاع وزيارة واهتمام على”اليوتوب”.
ويسجل أن من وجوه تازة التي كانت بتوقيع خاص في حلقة تازة هذه، لِما أضفاه عليها من عبق اصول وهوية وتراث وانسانية انسان وثقافة وذاكرة محلية، هناك الحاج محمد بلغيت رحمه الله الذي وافته المنية بتازة ربيع سنة 2008. ُيذكر والشيء بالشيء يذكر كما يقال، أنه قبل إعداد حلقة تازة وتصويرها اتصل بي فريق البرنامج في شخص مقدمه “سعيد بلفقير” أحد علامات نجاحه وتميزه وتألقه الوطني آنذاك، قبل أن أجالسه عندما حل فريق التصوير بالمدينة، في شأن مقترح يخص شخصية تازية أصيلة حاملة لِما هو هوية محلية لتكون شخصية حلقة تازة. علما أن البرنامج كان بفقرات عدة متناغمة شملت فضلا عن شخصية المدينة، ما هو تراث وتاريخ وسياحة ومعالم أثرية وشخصيات تازية عمومية وفنون وأدب وأبحاث وغيرها. وحصل أن اقترحت على برنامج أبواب المدينة هذا، اسم “الحاج محمد بلغيت” قبل اي اتصال مسبق به ولا استشارة له. وعليه، لتأكيد الفكرة وترتيبها وادراجها ولأن التصوير كان سيتم في اليوم الموالي مباشرة لضيق الوقت، كنت مضطرا لزيارة الحاج محمد بلغيت رحمه الله في بيته خلال نفس اليوم في وقت متأخر من المساء (حوالي منتصف الليل)، والحال أن الرجل كان من الذين يفضلون النوم باكرا. وعليه، ما كان لزيارتي من مفاجأة دون أي قلق ولا ازعاج لِما كان يكنه لي من تقدير ومحبة ولِما له من مكان خاص لدي ايضا. هكذا حصل ما حصل عندما بلغه خبر رغبتي في مقابلته لأمر يهمه ويهم تازة عبر ابنه السي نور الدين بلغيت ذات ليل قبل حوالي عقدين من الزمن، وقد استقبلني بابتسامة معهودة ونكتة وقرفشة وحكاية منعشة، قائلا لي رحمه الله: ” اشنو بغيتي عندى أولد انويكًة في هذ الليل”، فضلا عما شابه هذه الحرجات التي كان بنبوغ وتلقائية تازية فيها، هكذا اخبرته بالنازلة وعلى أنه مدعو لتصوير مع القناة الثانية باعتباره شخصية تازية جامعة بين جمال سحنة وأناقة وقبول وهوية. وبقدر ما أبان بداية عن عدم استعداد … بقدر ما اقنعته بعدما اطلعته على محور التصوير ونقاطه بالمدينة العتيقة. فكان جوابه رحمه الله بحضور نجله، “ايوا يصبح ويفتح” محددا معي موعدا صباح اليوم الموالي. وهو ما حصل بعد أن اكتملت الصورة والمهمة المنشودة منه، قبل أن نؤكد لفريق البرنامج ان شخصية المدينة جاهزة للتصوير وأنها ستكون متميزة.
الحاج محمد بلغيت التازي الذي أثث حلقة تازة من برنامج”ابواب المدينة” أحسن تأثيث، من مواليد نهاية ثلاثينات القرن الماضي بمستوى دراسي معبر قبل استقلال المغرب، تدرج في عدد من المهام والأدوار الادارية هنا وهناك، الا ان ما طبعه وطبع وجدانه، عشقه المبكر لكل ما هو تراث فني مغربي اصيل، وبخاصة طرب الآلة الأندلسية التي احاطها بكثير من الجهد والاهتمام والبناء والإغناء والغيرة والدعم والجمع على هذا المستوى وذاك. عناية بدأت منذ ستينات القرن الماضي، وقد تزايدت أكثر من خلال جمعية كانت هي الأولى من نوعها محليا في هذا الاطار”جمعية هواة الموسيقى الأندلسية”، التي تحمل مسؤولية رئاستها منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حتى مطلع تسعيناته. وفضلا عن طرب الآلة كان الحاج محمد بلغيت رحمه الله، عاشقا فاعلا في حقل فني المديح والسماع، بل يسجل له أنه كان بأثر في توسيعه وتأطيره من خلال ما كان عليه من مشاركات هنا وهناك، ضمن مهرجانات وطنية كانت بما كانت عليه من أهمية ودرجة وصدى، من قبيل المهرجان الوطني لفن المديح والسماع لجمعية ابي رقراق، فضلا عن إحداثه لجمعية كانت بدور ترسيخ ومشتل واشعاع، وهي الجمعية التي كان يشرف عليها “مجموعة الفتح لفن المديح والسماع بتازة”.
بعض مما كان عليه الحاج محمد بلغيت في علاقته بتراث وثقافة وطرب تازة الأندلسي ومديحها وسماعها في سنواته الأولى، وبعض مما كان عليه الرجل من خدمة لهذا الأثاث عندما جعل بيته لسنوات وسنوات قبلة لكل تفاعل وفعل وإعداد واستعداد وتمرين وإغناء واستقبال وبرمجة…، وكذا ملتقى لكل مثقف وموسيقي وزائر في كل مناسبة مناسبة كما هو غير خاف عن كثير. علما أنه ولد رحمه الله وسط أسرة بتقاليد وعادات أصيلة تازية، ضمن أجواء روحية تحديدا منها ما هو مديح نبوي وأناشيد دينية وتراتيل قرآنيةوسماع. كيف لا ووالده رحمه الله كان من مريدي الزاوية الوزانية، يزورها باستمرار للارتواء بما يطيب القلب والنفس من روح مديح نبوي. وهو ما جعله يؤسس تقليدا خاصا لاحياء ليالي روحية شبه اسبوعية كان يقيمها بشكل منتظم في بيته بتازة. ولعل طبيعة الوسط الأسري هذا، كان بأثر في عشق الحاج محمد بلغيت لكل مديح وسماع فضلا عن عشقه ايضا لطرب الآلة الأندلسية، التي اجتهد في حدود إمكانه لحفظ اشعارها وتتبع مواعيدها وأعمال رجالاتها، الذين تقوت علاقته بهم بعد تأسيس “جمعية هواة الموسيقى الأندلسية بتازة”. وهي العلاقات التي تمكن عبرها من اسماع صوت المدينة وتجاربها هنا وهناك محليا جهويا ووطنيا، لدرجة تحقيق تسجيل بعض الصنائع الأندلسية بالاذاعة والتلفزة المغربية مطلع ثمانينات القرن الماضي. وعليه، ما يسجل للرجل من فضل ضمن هذا المستوى وذاك خدمة لتازة وثقافتها وتطلعاتها الفنية التراثية. تحديدا ما أحاط به فني المديح والسماع من عناية وحضن واجتهاد وجمع وتجميع وتحفير ودعم، لدرجة أن ما جاء لاحقا من مشهد واضافات وعطاء وبروز، هو نتاج جهد سلف كيفما كان شأن وسقف بصمة هذا السلف.
وعيا بما كان عليه الحاج محمد بلغيت، من حس فني وعشق موسيقي أندلسي وولع بالمديح والسماع ومن دور في تأثيث ما كانت عليه تازة من مشهد، ارتأى المعهد الموسيقي في بادرة نبيلة من مديره آنذاك الأستاذ عبد اللطيف المزوري ذات رمضان قبل ربع قرن بالتمام والكمال، تنظيم حفل تكريمي ضمن برنامج رمضاني” عشر ليال وليلة من حدائق التراث بتازة”، بتنسيق مع المندوبية الاقليمية لوزارة الثقافة بتازة من خلال مندوبها آنذاك الأستاد محمد بلهيسي. حفل تكريمي رفيع المستوى ليلة 24 رمضان من سنة 1999 برحاب رياض اسرة الغيساسي بالمدينة العتيقة، وقد أطره طلبة وأساتذة معهد تازة الموسيقي وجوق طرب الآلة به برئاسة الأستاذ أحمد الشيكي رحمه الله.
بارك الله فيما كانت عليه تازة من عطاء وتدفق بنكران ذات، وفيما كان قائما شاهدا بالمدينة من روح تلاقح وتواضع ثقافة فضلا عن قيم عرفان ومحبة جامعة وتقدير.