عبد السلام انويكًة
يسجل أن ما حصل من انفتاح في علاقة الشعبين الشقيقين المغرب والجزائر نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، كان برؤية تعاون مثمر وصريح بين قيادتي البلدين. لحظة تم فيها استعادة صفاء علاقاتٍ وأخوة وتجاوز ما كان بأثر في إعاقة تفاعلهما، من أجل أفق بنَّاءٍ ورحابٍ جامعٍ وموقفٍ موحَّد على الصعيدين الاقليمي والدولي. كذا بلوغ تعاون ثنائي يخص جميع ما هو اقتصادي واجتماعي وإداري وعسكري، فضلاً عن النظر في تسوية ملفات شائكة عالقة كانت تشغل رأي المنطقة المغاربية العام، خاصة منها مسألة الحدود وقضية أقاليم المغرب الصحراوية التي كانت خاضعة للاحتلال الاسباني.
قضايا ثنائية مغربية جزائرية ورهانات كانت بحاجة لتشاور وزيارات قيادات البلدين، لعل منها تلك التي قام الرئيس الراحل هواري بومدين الى المغرب في يناير من سنة ألف وتسعمائة وتسعة وستين وقد انتهت بعقد معاهدة أخوة وتعاون وحسن جوار، ولعل منها أيضاً تلك التي قام بها الراحل الملك الحسن الثاني الى تلمسان بالجزائر قادما اليها من وجدة عبر مركز “زوج بغال”، خلال ربيع سنة ألف وتسعمائة وسبعين.
ولفهم ما حصل من تقارب مغربي جزائري ومن تطور في علاقات البلدين آنذاك، من المفيد الاشارة لِما شهدته هذه الأخيرة من أحداث منذ خريف ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، والتي من أسبابها العميقة ما اقتطعه الاستعمار الفرنسي من أجزاء ترابية مغربية واسعة تم ضمها لمستعمرة الجزائر، التي تمسكت بما تم بتره من تراب المغرب، علما أنه كان بإمكانه بعد ما عُرف ب”حرب الرمال” خلال هذه الفترة مواصلة زحفه واسترجاع ما سلبه منه المستعمِر لولا حكمة ملك المغرب في خيار سِلم وصلح عوض ما هو سلاح وعنف.
وكان تبصر السياسة المغربية تجاه الجزائر وعياً بوحدة مصير وتطلعات شعبين، قد انتهى بزيارة رسمية قام بها الرئيس هواري بوميدن الى المغرب تلبية لدعوة مغربية، عُقدت على اثرها معاهدة أخوة وتعاون وحسن جوار مع بلاغ مشترك حول أفق عمل البلدين. ورغم أن ما حصل من زيارات وتشاور لحوالي سنة ونصف قد أسهم في تجاوز كثير مما كان عالقاً من مشاكل، فالأمر كان بحاجة لطرح قضايا أخرى ذات طبيعة استشرافية فضلاً عن النظر في قضية حدود تم الاتفاق على تسويتها سلمياً. وهي التي ظلت عرضة لتغيير وتبديل زمن الاستعمار دون علم للمغرب ولا موافقته منه بل على حسابه، كما تدل على ذلك خرائط دولية وأخرى إدارية اصدرتها السلطات الفرنسية بالمغرب والجزائر وفرنسا منذ مطلع القرن الماضي.
يذكر أنه بعد اندلاع الثورة الجزائرية في فاتح نونبر ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين، والتي على إثر موقف المغرب المستقل الداعم لها أقدمت السلطات الاستعمارية الفرنسية على احتلال أطراف ترابية مغربية أخرى لمراقبة طرق تموين الثورة. ولم يكن بمقدور المغرب الحديث الاستقلال استرجاع ما أغتُصب منه إن قديما منذ نهاية القرن التاسع عشر أو حديثاً زمن الثورة الجزائرية، مع أهمية الاشارة لِما كانت هناك من مساومات فرنسية للمغرب لفائدة حدوده شريطة تخليه عن ايواء ثوار الجزائر ووقف دعمهم، ما رفضه المغرب مفضلاً تسوية الملف مع الجارة بعد استقلالها ومع الاخوة الجزائريين بعد تجاوز محنتهم.
هكذا جاء توقيع اتفاقية الرباط من قِبل الملك الحسن الثاني ورئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس صيف سنة ألف وتسعمائة وواحد وستين، وهذا ما حصل قبل استقلال الجزائر وقبل هجومها على مراكز حراسة مغربية بحاسي بيضا وتينجوب بعد استقلالها خريف سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، ما كان سيؤدي لقطيعة شعبين شقيقين جارين ولفتنة بينهما لولا ما رام اليه التعقل في خيار سلم بين الإخوة لتثبيت حق مهما كان بيِّناً.
ولعل من مشاكل حدود البلدين والتي كانت بحاجة لدورهما وجهودهما معاً لحلها، هناك اقاليم المغرب الصحراوية المحتلة من قِبل اسبانيا إثر اتفاقيات سرية لها مع فرنسا، ما ظل يدعو لاسترجاعها منذ استقلاله وفق ما يضمن وحدة ترابه من اتفاقيات دولية ومعاهدات. الا أنه أمام ما طبع سياسة اسبانيا من مكر وأطماع بعد ما كتشف وتبين بالمنطقة من غنى معدني، اضطر لعرض قضيته على منظمة الأمم المتحدة عام ألف وتسعمائة وستة وستين، وقد اقرت بما يخدم صالحه لحل القضية وانهاء وضع احتلال اسباني لأقاليمه الجنوبية. وعوض ما كان منتظرا من اسبانيا تجاه القضية ضمن مناخ سياسي مناسب، صدرت عنها تصريحات علنية بمحافل رسمية حول كونها أجرت استفتاء بالصحراء وأن أعيان قبائلها أعلنوا تبعيتهم لها في مدريد، ناهيك عما لجأت اليه من تفتين للحمة دول المنطقة الثلاث المتاخمة، والتي تفطنت لدسائسها عندما تشبثت بكلمتها حول أهمية تحرير الصحراء المغربية وانهاء الاحتلال الاسباني لها.
ومن القضايا الأخرى التي عمقت تقارب قيادات البلدين، الى جانب قضية تصفية الاستعمار الاسباني من الصحراء المغربية التي كانت تشغل رأي الشعبين العام. نجد ما ارتبط بعلاقات ومتغيرات سياسية جديدة طبعت وضع المنطقة المغاربية خلال هذه الفترة، كذا ما يخص موقف البلدين من القضية الفلسطينية وتطوراتها ومسألة أمن البحر المتوسط. كل هذا وذاك من الملفات الاستراتيجية دعت لأهمية تشاور قيادات البلدين وتبادل رأي ومقترح خلال نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، من أجل ما ينبغي من وحدة صف وتعاون وخطة عمل في اطار ما تقتضيه أخوة شعبين جارين خدمة لتطلعاتهما ومصالحهما المشتركة.
هكذا توجه ملك المغرب الحسن الثاني الى الجزائر لإجراء لقاء مع الرئيس هواري بومدين في ربيع ألف وتسعمائة وسبعين، رحلة كانت من فاس الى تلمسان لِما هناك من شبه ومشترك ثقافي حضاري وارتباط أسري بين مدينتين تاريخيتين. وهكذا جاء التعبير على عمق علاقة بين بلدين أورد صوبها جلالة الملك: “اننا عملنا على أن تكون معاملتنا لشقيقتنا الجزائر تتسم بتلك السمات ألا وهي نقاء الضمير وصفاء السريرة، وها نحن نجني ثمار سياستنا واستقامتنا.. ومما يزيدنا ايمانا بسداد خطتنا هو اننا نتقاسم مشاعر واحدة، ونحرص كل الحرص على أن تبقى مكاسبنا في مأمن من عبث العابثين وأن لا يجد اليها طريقاً من تسول له نفسه المغامرة بمستقبل شعوبنا.” ومن جملة ما أورد صوب هذه العلاقة الرئيس الجزائري أيضاً:” انني غير قادر على ايجاد العبارات اللازمة للتعبير بكل صدق ووفاء عن هذه اللحظات.. ما عملناه اليوم ولو في ظروف قصيرة ليس كل ذلك إلا بشرى بالنسبة لنا بأن مستقبل شعبينا وبلدينا أصبح في أمان تام، فبفضل النية الحسنة المتوفرة لدى الطرفين استطعنا أن نخلق جواً من الصفاء والاخاء والمعاملة الصريحة..اتمنى أن تنمو هذه النتائج المحصل عليها تحت رعاية جلالتكم ورعاية حكومتكم وتحت رعايتنا ورعاية حكومتنا..”
لقاء تلمسان هذا كان ببلاغ مشترك تضمن جملة معطيات تخص علاقات البلدين وقضايا تعاون بينهما، منها ما ورد حول الأراضي المغربية المحتلة من قِبل الاسبان أي “الصحراء المغربية”، وما تعلق بأهمية تنسيق البلدين لتحريرها وتصفيتها من الاستعمار. مع الاشارة لِما حضي به هذا اللقاء من اهتمام لدى الرأي المغاربي والدولي العام، خاصة ما حصل من اتفاق بشأن تعليم حدود البلدين في نطاق احترام سيادة كل بلد وسياسته ووحدته الترابية.
ولعل من جملة ما تناولته الصحافة عن هذا اللقاء ما جاء في جريدة “العلم” المغربية التي أوردت:” المغرب يعاني من مشكلة أراضيه التي تغتصبها اسبانيا وقد كان فشل محادثات وزيري خارجيتي المغرب واسبانيا في الرباط، دليلا على أن اسبانيا متمسكة بالصحراء المغربية وبسبتة ومليلية التي تزعم صحفها الموجهة، بأنها لن تكون موضوع مفاوضات لأنها تمثل قطعاً محررة من اسبانيا ما وراء البحر المتوسط، والتي انتزعتها من الامبراطورية الاسلامية في الأيام الغابرة، كما لن يكون اقليمنا الصحراوي الذي لا علاقة له بالمغرب هو الآخر موضوع مفاوضات”.
في نفس الاطار أضافت جريدة العلم:”إن المناورات الاستعمارية تضرب في كل جانب، ولهذا فإن المغرب يجب أن يعمل على استرجاع كل أراضيه المغتصبة. ومن شأن الجزائر التي تَمتِّن علاقاتها مع المغرب(اجتماع تلمسان) أن تسند المغرب في نضاله من أجل تحرير أجزاءه المغتصبة..إذا كان المغرب قد مني دون سائر البلاد التي تحررت أخيراً بتمزيق أراضيه الوطنية، فإن دور المغرب العربي الأول العمل يداً في يد لتخليص المغرب من هذه الراسبة الخطيرة من رواسب الاستعمار التي لا تمس بكيان المغرب فحسب ولكنها تمس بكيان المغرب العربي بأسره.”
وحول لقاء تلمسان جاء في تعليق بعيون وكالة الأنباء الجزائرية:”إن القرارات التي انتهى اليها رئيسا الدولتين جاءت تعبيراً صادقاً عن ارادة البلدين المشتركة في ايجاد الحلول للمشاكل التي بقيت لحد الآن معلقة، فقرار انشاء لجنة مشتركة لوضع المعالم الحجرية على خط الحدود..وقرار تأسيس شركة جزائرية مغربية لاستثمار معدن كًارة الجبيلات، ثم العزم على العمل المنسق بينهما في تحرير الأراضي المحتلة من طرف الاسبان(الصحراء المغربية)،..كل هذه القرارات تشكل عوامل جديدة من شأنها أن تدفع الى الأمام التعاون بين المغرب والجزائر.”
يظهر أنه خلال فترة الستينات والى غاية لقاء تلمسان في بداية سبعينات القرن الماضي، لم يكن هناك سوى استعمار اسباني للصحراء وانشغال مغربي بأهمية استكمال وحدة البلاد الترابية بتحريرها من الاسبان مع وعي جزائري رسمي بعدالة القضية وحق المغرب في استرجاع أقاليمه الصحراوية، ولم يكن هناك أي حديث جزائري عن أي شعب صحراوي ولا عن أي “بوليزاريو”، بل حديث عن تنسيق عمل بين البلدين لتحرير المنطقة من الاسبان بدليل ما جاء في تعليق وكالة الأنباء الجزائرية السابق الذكر عن لقاء تلمسان.
ماذا حصل لجزائر بداية سبعينات القرن الماضي وما الذي جعلها تنقلب كلية بعد لقاء تلمسان بفترة وجيزة، ولماذا ما لجأت اليه من سيناريو عوض ما تم الاتفاق عليه وكان قناعة لها آنذاك حول عدالة قضية وحدة المغرب الترابية. أية حسابات طبعت سياستها تجاه ملف وقضية ومن تمة تجاه مغرب مد يده لإخوة وجوار في لقاء تلمسان لاسترجاع صحراءه من الاسبان. أليس ما انزلقت اليه الجزائر فضلاً عن هشاشته وفقر أساسه، كان سوء تقدير أضاع رهان شعوب بلاد المغارب في النماء والوحدة منذ زمان. ألم يكن ما طبع الجزائر من عبث سياسي ومكر موقفٍ ومتاهاتٍ ووهْمٍ تجاه قضية مغربية ترابية عادلة، بأثر فيما كانت عليه منذ عقود ولا تزال من تخبطٍ وهدر ونزيفِ ذاتٍ كذا تفويت فرصٍ وحلم تعاون بين شعبين شقيقين.
إن مشترك الشعبين الرمزي من تراث وتاريخ وثقافة..ومعارك تحرير ضد المستعمر وكفاح من أجل الاستقلال الى عهد قريب، دليل على ما هما عليه من ذخيرة ماضٍ داعمة لحاضر ومستقبل معاً. فضلاً عن موقع جغرافي استراتيجي رافعٍ لِما ينبغي أن يكون لكسب رهان تنمية بلادٍ وعِباد، في زمن تكتل وتعاون وتكامل عوض كائن البلدين من تنافر وشتاتِ كلمةٍ وخلاف، في الأصل هو نتاج فترة استعمار وإرث مستعمِر عبث بتراب منطقة ومن تمة بحدود بلدان، لإبقائها حبيسة نزاع دائم وانقسامية وفُرقة مهما حصل من استقلال ولشغلها عن ورش تنمية شعوبها بإفشال توحيد كلمتها. فكان ما كان إثر كل هذا وذاك من علاقات غير طبيعية وخلاف بين البلدين لعقود من الزمن، وكان ما كان من انزلاق جزائري ونهج غير محسوب العواقب والتبعات تجاه صالح المنطقة حاضرها ومستقبلها ككل، كذا من ردود فعل وموقف غير مؤسَّسَ ولا تبصُّري تبنته الجزائر تجاه عدالة قضية بلد جار في استكمال وحدته الترابية “قضية الصحراء المغربية”.
هكذا سقطت الجزائر في مكر مستعمِر وفخ إرث استعماري، فكانت سياستها بأثر كبير في خلق فُرقة بين شعبين شقيقين وتشتيت كلمة وهدر زمن وحلم وتطلعات شعوب منطقة، وهكذا أتت على رهان بلدين جارين في مغرب كبير قال عنه يوما الرئيس هواري بومدين لمَّا زار المغرب في شتاء ألف وتسعمائة وتسعة وستين:” وإذ اشكركم يا صاحب الجلالة وأهنئكم على هذه المبادرة التي اتخذتموها والتي أتاحت لنا لقاء سيكون ولا شك، خطوة هامة نحو زيادة توطيد العلاقات بين البلدين ولبنة جديدة في صرح بناء المغرب العربي الذي كان من أعز أهداف صاحب الجلالة والدكم المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه.” مضيفاً :” وإذا كانت تلك الجهود الجبارة (الكفاح المشترك ضد الاستعمار) قد أرجعت للمغرب كامل حقوقه، فقد أفادنا ذلك بطريقة مباشرة في الجزائر..إذ مكن المغرب من المساعدة لثورتنا المسلحة والمساهمة بطريقة فعالة في التعجيل بالانتصار..والشعب الجزائري لا ينسى أبداً لشقيقه الشعب المغربي، كل ما تحمله معه من أعباء ومحن وناله منه من تأييد ومؤازرة إذ كان الى جانبه ملكاً وحكومة وشعباً.”
بعض فقط من ذاكرة شعبين شقيقين كان ينبغي أن يكونا في غنى عما هما عليه الآن من طبيعة علاقات وشتات كلمة وفُرقة كلمة وإغلاق حدود..، لو استثمرت الآلة السياسة الجزائرية فيما يخدم خير بلدين جارين عوض ما يفرقهما ويسهم في هدر زمنهما، ولو استثمرت فيما يخدم وحدة تراب ولحمة المنطقة وتقويتها ولَمِّ شملها وليس تفكيكها وتجزئتها وإنبات وحِضن ما يهدد مصيرها وكيانها وسلامها وسلامتها، ومن تمة إضعافها بهدر مواردها وإفشال أوراشها وإفقار وتيئيس شعوبها، ولو استثمرت أيضاً فيما ينفع بلاد المغارب ويدفع باتجاه تحقيق تطلعاتها وبلوغ ما هو عالق منشود لديها من رهان وحدةٍ وأحلامِ تنمية وتعاونٍ ورخاءٍ وازدهارْ.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث