عبد السلام انويكًة
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
بشكل مباغت مهول حصل يوماً خلال سنوات أربعينات القرن الماضي الأولى، قصف مدفعي وإنزال عسكري أمريكي عنيف عبر المحيط غرباً، تجاه عدد من مدن مغرب الحماية شهر نونبر من سنة ألف وتسعمائة وإثنتين وأربعين. وضع طارئ بقدر ما أفرح معارضي الحماية الفرنسية من المغاربة بقدر ما أغضبهم أمر مقيمها العام نوكًيس الذي دعا للمقاومة والتجنيد معاً. هجوم أمريكي شدته وقوة ترسانة معداته جعلته بخسائر ثقيلة بلغت حوالي ألف قتيل وألف جريح، مع حصيلة مماثلة أمريكية فضلاً عما ترتب من تدمير لأرصفة ميناء البيضاء وبنيتها.
ورغم ما تبين منذ الوهلة أولى من عدم تكافؤ وضع القتال عُدة وعتاداً، تمكن نوكًيس من تدبير صمود لثلاثة أيام كبد خلالها الأمريكان خسائر معتبرة، وفاء لِما كان قد وعد به واخلاصاً منه لحكومة فيشي، مع قناعة كانت لديه مسبقاً حول خيار المقاومة لا غير رغم ما كان عليه الانزال من مباغتة ورعب على شواطئ المغرب. ففي الوقت الذي علم فيه بخبر الواقعة عبر نائب القنصل الأمريكي بالرباط، سقطت أولى قنابل الأمريكيين بمطار المدينة غير بعيد من قصر السلطان، وعلى إثر ما حصل من رد عسكري فرنسي شديد فقَد نوكًيس كل طائراته ودفاعه الجوي، حيث اضطر استراتيجيا لنقل مقر قيادته الى فاس في اليوم الثاني من الهجوم تاسع نونبر من نفس السنة. علما أن معارك الطرفين على تراب مغرب الحماية استمرت الى غاية الحادي عشر من نفس الشهر، لتتوقف إثر توجه نوكًيس لمركز قيادة فرقة الأمريكان بالمحمدية(فضالة)، قبل انتقاله على عجل الى الجزائر للقاء “ازنهاور” قائد عملية الانزال العام وتسليم سلطاته مقابل حماية مصالح فرنسا، حيث عين “جيرو” قائداً عاما للقوات الفرنسية بشمال افريقيا وظل نوكًيس مقيما عاماً.
ولعله من المفيد الاشارة الى أن فكرة تدخل الأمريكان في شمال افريقيا، بدأت تتبلور منذ انهزام فرنسا وتوقيعها هدنة مع ألمانيا عام ألف وتسعمائة وأربعين. وزاد من تخوفهم ما كان يروج حول امكانية تسرب الألمان عبر اسبانيا الى جبل طارق وبالتالي تهديد مصالحهم بالمنطقة. هكذا بدأت تتجه الأنظار صوب المغرب لموقعه الاستراتيجي، وهكذا بدأ التنسيق الأمريكي الانجليزي لتحقيق نزول على شواطئه، وهكذا تحولت الدار البيضاء الى مرتكز في هذه العملية العسكرية على أساس أنها تشكل نهاية خط حديدي يصلها بشرق المغرب، ما استغلته القوات الأمريكية براً مقابل اعتماد القوات الانجليزية على البحر بالمقابل.
وكانت القوات الأمريكية قد غادرت شواطئها في اكتوبر ألف وتسعمائة واثنتين وأربعين بقوات بلغت خمسة وثلاثين ألف جندي، قبل توجيهها لضربات مدمرة استهدفت تجهيزات فرنسا الشاطئية على أرض مغرب الحماية في ثامن نونبر من السنة نفسها. وعلى إثر ما تعرضت له الدار البيضاء من خراب فضلاً عن عدم تكافؤ قوة قتال، انسحب نوكًيس الى فاس تعبيراً منه عن رفضه لِما حصل من إنزال أمريكي داعياً سلطان البلاد لنفس الاجراء لكنه رفض.
ولعل من جملة ما ترتب عن عملية الأمريكان العسكرية فوق التراب المغربي زمن الحماية، الى جانب ما سجل من خسائر بشرية شملت أزيد من مائتي قتيل مغربي وأزيد من مائتي جريح كذا أكثر من مائة مفقود، هناك اقحام المغرب في حرب عالمية ثانية وبالتالي ما حصل من تقارب مغربي أمريكي دون إلغاء لدور فرنسا ووجودها في البلاد. ونظراً لِما ظهرت به فرنسا من ضعف وتراجع فضلاً عن انهزامها أمام القوات الألمانية وخضوعها للاحتلال النازي، انفتحت آفاق الحرية أمام المغاربة ومنهم السلطان ومن هنا ما كان من اتصال وتواصل.
يذكر أنه بعد ما عرف ب”التصريح بالمبادئ” التي دعا اليها روزفيلت تم الاتفاق على ميثاق الأطلسي، وكان سلطان المغرب محمد بن يوسف قد أشار في مناسبات عدة أن خير ما يقدم الحلفاء للبلاد حريتها واستقلالها. ومن أجوبة الرئيس روزفيلت خلال لقاء أنفا الشهير حول ما يخص المستعمرات الفرنسية ومنها المغرب، ما جاء من تعجب له حول سؤال قال بكون المغرب مِلك لفرنسا مشيراً الى أن الذين يسكنونه هم مغاربة، وهل يحق لفرنسا أن تملك غير أراضيها مضيفاً أنه بأي قانون وأية قاعدة تاريخية يتم هذا الاحتلال.
ومقابل ما حصل من مقاومة فرنسية لاستقلال المغرب، كان الانزال الأمريكي من وجهة نظر سياسية مغربية مناسبة لتحقيق الاستقلال ذلك، وفي هذا الاطار ورد أن سلطان المغرب عبر عن عدم سماحه بتحول البلاد الى ميدان حرب، وأن نوكًيس إذا كان يريد محاربة الأمريكان فليحاربهم في عرض البحار. ويتبين أن لقاء أنفا كان صدمة قوية لفرنسا بأكثر من اشارة، لعل منها مقابلة روزفيلت لسلطان البلاد دون مقيم عام في تجاوز لنص وثيقة الحماية، بل في ختام اللقاء كانت هدية السلطان المغربي للرئيس الأمريكي خنجر من ذهب، مقابل صورة ضمن اطار فضي من قِبل روزفيلت. وكان شارل ديغول قد أورد في مذكراته أنه علم باستقبال الرئيس الأمريكي للسلطان المغربي، للخوض في حديث قال عنه أنه لا ينسجم مع اطار الحماية الفرنسية.
ومن قيادات المغرب السياسية لهذه الفترة من زمن مغرب الحماية، من قالت بأن إنزال الأمريكيين بقدر ما طمأن المغاربة من خطر أي توسع اسباني واحتلال ألماني، بقدر ما حفز الوطنيين على التحرك بشكل أقوى مما كان رغم عتاد الفرنسيين وقمعهم وسوء معاملتهم. وكانت أشغال لقاء أنفا التاريخي بين الأمريكان والإنجليز قد استمرت مدة عشرة أيام من عاشر يناير ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين الى رابع وعشرين منه، وبالنسبة للمغاربة أهم حدث طبع هذا الموعد السياسي، كان هو حضور سلطان البلاد في مأدبة عشاء بدعوة من روزفيلت، الذي أعلن بهذه المناسبة أن النظام الاستعماري عفا عنه الزمن وبات محكوماً بالزوال، مع ما ورد حول طرح السلطان لقضية استقلال المغرب والتي تمت تزكيتها. وكانت المقابلة السلطانية للرئيس الأمريكي بأثر معبر أشعرته بمكانة ودور في المعادلة السياسية، وما حصل خلالها من تجاهل أمريكي لسلطات الاقامة الفرنسية جعلت روزفيلت يشارك الوطنيين المغاربة كفاحهم من أجل الاستقلال. ويتبين أنه شجع سلطان البلاد للمطالبة به عند نهاية الحرب على الأقل وربما أكد له ذلك.
بل من مغاربة هذه الفترة الدقيقة من زمن البلاد السياسي، من وصف واعتبر إنزال الأمريكان رحمة من السماء وسعت ما كان ضاق بهم ذرعاً من جوع وعرى وما نشأ عنهما من ويلات. وورد أن الولايات المتحدة الأمريكية حليفة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، جلبت مواد بكميات كبيرة جمعت بين حبوب وحليب وسكر وقهوة وصابون وفواكه وخضر، بدأ الناس على إثرها يطوفون في أسواق وبيدهم أدرع وأمتار من ثياب بألوان مختلفة كان الناس يعتمدونها لستر عرائهم.
والى جانب توجه الأمريكييين لكسب عطف وتقرب المغاربة ونخبهم وعياً منهم أنهم يتواجدون في بلد مستعمَر من قِبل الفرنسيين، كان من جملة أثر إنزالهم العسكري بالمغرب ما حصل من تمثل في المطالبة بالاستقلال، بعد ما تعرضت له هيبة الاستعمار الفرنسي وما أصابها هنا وهناك من التراجع. وعليه، توحد كل من حزب الاصلاح الوطني بقيادة عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة المغربية بقيادة المكي الناصري، فأصدرا بياناً طالبا فيه باستقلال البلاد. وفي يناير من سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين طرح الحزب الشيوعي المغربي حق البلاد في الاستقلال، كما خرج السلطان محمد بن يوسف عن تحفظه أيضاً لمَّا رفض مغادرة الرباط بطلب من نوكًيس في نونبر من سنة ألف وتسعمائة وإثنتين وأربعين، بل خلال يناير من السنة الموالية التقى الرئيس روزفيلت بحي أنفا بالدار البيضاء دون وسيط إلزامي(مقيم عام) بموجب معاهدة الحماية.
هكذا شكل لقاء أنفا منعطفا حاسما في تاريخ العلاقات المغربية الفرنسية، بحيث لم يعد مطلب المغاربة يقتصر على ما هو إصلاحات بل استقلال بلادهم كمسار سرعت به واقعة الانزال الأمريكي. وهكذا بدأ أيضاً عمل التنسيق بين الوطنيين عن المنطقة الخليفية والسلطانية معاً لترتيب ما ينبغي في هذا الاطار، موازاة مع تحركات سلطانية لرفع ايقاع هذا الرهان هنا وهناك بالبلاد من خلال سلسلة زيارات لعدد من المدن، كالتي شملت وجدة على الحدود الشرقية بعد حوالي أربعة أشهر عن الانزال الأمريكي واللقاء مع روزفيلت.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث