عبد السلام انويكًة
غير خاف ما كانت عليه من تدفق رفيع وإغناء على امتداد عقود من زمن مغرب الاستقلال، فضلاً عما كانت عليه أيضا من روح مغربية اصيلة بقدر ما أثثت مجداً فنيا حقيقيا بقدر ما كانت بحضن مجتمع، ناهيك عما كان لها من دور تنشئة عبر نص وأداء ولحن. تلك هي أغنية مغرب أمس العصرية التي تفضل مساحة واسعة من فنانين ومهتمين وباحثين واعلاميين وغيرهم، نعت ما كانت عليه خلال ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي بفترتها الذهبية، التي باتت لحظة تحقيب عند كل حديث عما هو فني طربي مغربي رصين. ولا شك أن ما كان من نمط فني شرقي متدفق آنذاك، كان بأثر فيما حصل ومن ثمة نشأة أغنية مغربية طبعها ايقاع اسهامات لا تزال شامخة عابرة للزمن. هكذا كانت أغنية مغرب أمس، ومن هنا ما تأسست عليه وأغنت به وتجلت عبره وشهدته من نشوة طرب وسمو قبل أن تهوى لِما هوت اليه.
ولا شك أن ما تزخر به خزانة المغرب الفنية من نصوص أغنية رفيعة عن زمن ذهبي، بقدر ما يقتضيه من فخر واعتزاز بقدر ما يطرح من سؤال يخص ما كان عليه سلف أغنية مغربية، من تراكم وحس فني وتنشئة وروح وطن وتأصيل، ما ينبغي أن يكون عليه خلفها من تعزيز لِمسار وإغناءٍ لتجارب ومن ثمة لحضارة بلد. هكذا كانت مقومات أغنية مغرب أمس التي جعلتها بحضن كبير مستمر، ليس فقط لِما كانت عليه من قيمة مضافة وبصمة معبرة وهيبة فنية واشعاع وروح مغربية، انما أيضا باعتبارها إرثا رمزيا في ذاكرة مغرب ومغاربة.
وليست الاغنية المغربية كل ما قد يُتخيل صوبها من قِبل هذا وذاك، بل تلك التي أثثت فترة مجد في زمن مغرب فني راهن، وارتبطت بلحظة رفيعة جمعت بين أدب ولحن وأداء، سمح ببلوغ ما بلغته من عرش وسمو. بل هي ما تحفظه الذاكرة كإرث بمثابة جبل شامخ يطل من موقع عال عبر دفئ تعبير ورقي كلمة ونبوغ لحن وأداء وعظمة روح، كيف لا وروادها بهيبة اسم ووقع في ذاكرة بلاد لن يقفز تاريخها الفني عن حفظ مقامهم.
إن الأغنية المغربية التي تزال تشد سمع المغربي أينما حل وارتحل، رغم أنها نِتاج خمسينات وستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، هي ما يُؤرَّخ لها بمؤسسيها وعمالقتها ورموزها ممن كان يحسب لهم حساب هنا وهناك. وهل يخفى قمر من أثث زمنها الذهبي من قبيل أحمد البيضاوى وعبد الرحيم السقاط وعبد القادر الراشدي ومحمد بن عبد السلام وعبد السلام عامر..، كذا عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني واسماعيل أحمد ومحمود الادريسي وعبد المنعم الجامعي وعبد الواحد التطواني وفتح الله المغاري والمعطي بلقاسم وابراهيم العلمي ونعيمة سميح وغيتة بن عبد السلام وماجدة عبد الوهاب..، ناهيك عن طاقة تعبير أدبي رفيع ورافع من قبيل أحمد الطيب العلج وعبد الرفيع جواهري وعلي الحداني وغيرهم كثير، ممن انتقل الى دار البقاء رحمة الله عليه وممن لا يزال قيد الحياة أدام تعالى عليه نعمة صحة وعافية.
انها جزء لا يتجزء من تاريخ مغرب راهن لارتباطها بما كان عليه البلاد من نهضة بعد الاستقلال، فالاغنية المغربية لِما كانت عليه من عناية ومواكبة لم تكن تختلف عما كان من ورش مفتوح هنا وهناك، فكان شأنها شأن ورش طريق وحدة تم شقه لربط شمال البلاد بجنوبها نهاية خمسينات القرن الماضي بعد فترة حماية. ولا شك أن الأغنية المغربية من خلال اعمالها وأعلامها كانت في مستوى مرحلتها، لِما قدمته من أدوار طلائعية رفيعة وما أسدته من خدمة صوب وطن وابداع وفن واشعاع، كذا ذوق رفيع وحس فني وتنشئة انسان ومواطنة.
لقد انفتحت أغنية مغرب ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، على تراث البلاد فأغنت شأنه وعرفت به، هكذا باتت الآن هي أيضا جزء من تراث أصيل لِما حفظته وحافظت عليه من روح مغربية، بل باتت مرجعاً وذاكرة رمزية جماعية ومدرسة أجيال. دون نسيان ما كانت عليه عبر أعلامها أيضا من دور رافع لشأن البلاد ومكانتها هنا وهناك، وابراز موارد زمنها ومجالها ومشاهدها ونمط وقيم حياة أهلها، ناهيك عن ألوان ايقاعية ومقامات وعظمة كيانات ابداع، ومن ثمة ما كان لها وبفضلها من تقدير واعتبار لمغرب ومغاربة.
ولعل من هندس وطبع بنية أغنية المغرب العصرية هذه، وأسهم في رقيها كلمة ولحنا وأداء يستحق كل إجلال لحفاظه على روحها على امتداد عقود من الزمن، وعندما نقول روح الأغنية المغربية معناه ما هو جوهر وكيان رمزي مجتمعي وما هو أصول وانتماء بيئي أيضا. علما أن لكل شيء روح تحركه وتنطق بهواه وأنه بدون روح الشيء لا يمكن الحديث عن حياة فيه، بل كلما تعثرت روح شيء أو غابت بمعنى من المعاني كلما انتهى هذا الشيء وانتهت معه قيمته وصلاحيته وأثره، وما هو منشود من فائدة رمزية فيه.
واذا كان لكل آلة موسيقية طبع ومن ثمة روح، ولآلة الكمان كما لا يخفى عن مهتم روح تحكم جوهر ما يصدر عن كيانها، تلك التي تستوطن جوفها منتصبة بدقة نوع وصنع ووضع وموضع وتثبيت وتوازن. إذا كان لكل شيء روح ناطقة به وبمعناه وفعله وتفاعله وأصوله، فأين هي روح اغنية مغربية طبعت حياة بلاد وعباد، روح كانت لسان حال عبقرية مغرب وتميز مغاربة، روح شكلت بقناعة فنانين وباحثين واعلاميين ومهتمين، مدرسة باعثة بملامح لا زالت حية، لِما كان لها من وقع في خريطة طرب أصيل، عندما كان الطرب طرباً حقا ونشوة الطرب أدب ولحن وصوت وأداء وأعلام كبار حقا. صحيح أن هناك موجات تنتاب بيت كل فن من حين لآخر لعلها أمر طبيعي كان وسيظل، لكن من المفيد معرفة سبل تجاوز تموج تعبير وعصف عابر، حفظاً لتوازن ذات وموضوع ومن ثمة روح وطن وأغنية، وعيا بأن نِتاج اليوم من جيد هو تراث غد.
ولعل اذا سألنا أهل شأن من رواد ومخضرمين ممن كان منهم باسهامات استحضرت روح الأغنية المغربية في بعدها الحضاري، خلال فترتها الذهبية قبل عدة عقود من الزمن سواء كأصوات وكتاب كلمات وملحنين وموسيقيين وقف لهم الجميع يوما وصفق لهم. اذا سألنا هؤلاء حول حال وأحوال وروح الأغنية المغربية، لا شك أن اجوبتهم سيتقاسمها وعي بأمرين أساسيين ذاتي وموضوعي. فالأول منهما يخص فاعلين معنببن من داخل البيت، وهنا سؤال وقضية قناعة ووعي ومساحة اشتغال وطبع وطبيعة خيار ووعاء حركة وفعل وتفاعل ومبدأ وبالتالي ما لهذا وذاك من درجة مسؤولية ذاتٍ، وأما الثاني فذلك الذي بواقع تتقاسمه طبيعة زمن وحاجة وسلطة ثقافة وميلان ذوق وحس ومؤسسة ذات صلة وغيرها. بمعنى أن ما هو ذاتي وموضوعي هما من كان وراء روح ومجد أغنية مغربية زمن ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، وهذين المكونين هما أيضا من جعل الأغنية المغربية بما يسجل حولها وعليها من غياب روح الى حين.
وحتى لا نغرق في تشخيص حال وأحوال أغنيتنا المغربية وما باتت عليه منذ حوالي عقدين من الزمن، من المهم مساءلة الآن والنحن بما يفيد أهل شأن من معنيين حول ما الذي يمكن القيام به حتى لا نقول انقاد ما يمكن انقاده، وعيا بما للأغنية المغربية من موقع حيوي وذاكرة رمزية جماعية ومظهر حضارة. ولعل الأمر يقتضي تجارب وتطلعات وكلمة أهل شأن ومقامات قراءتهم وتقديرهم بكل مسؤولية، ما قد يحصل من خلال نظر ومناظرة وطنية بكاريزمات فنية حقيقية رصينة، في أفق ميثاق لتقاسم ما ينبغي من تشارك والتفاف وانصات، لنُظم تدبير وسبل ورش وأدوار مؤسسات فضلاً عن مسؤولية معنيين كل من موقعه.
ونعتقد أنه كي تعود روح الأغنية المغربية الى مكانتها وهيبتها، ينبغي التقاط اشارات ماض ومن خلالها سر ما أسس لِما كان عليه هذا الماضي من روح أغنية هي الآن مرجعاً يشهد ويسمح بالحديث عنها وذكر عظمتها. اشارات بحاجة لقناعات ووعي فضلاً طبعاً عما هو أثاث ذاتي وموضوعي رافع لأفق. وفي هذا الاطار يمكن تلمس ما طبع أغنية الأمس من فن من أجل الفن، لا لشيء غير اثبات ذات ووطن من أجل تراث وتاريخ وذاكرة رمزية، وهذا أمر بحاجة لجهد ذاتي ولتصوف إن صح التعبير لإعادة ترتيب معنى الفن في علاقته بالذات عند الحديث عنهما. كل هذا وذاك من أجل قيم اشتغال فنية ونبل أبعاد وهيبة وقدسية رسالة، مع أهمية الاشارة الى أنه لثقل مسؤولية كلمة فن وفنان فهما بحاجة لمن يفقه قيمتهما ويستوعب طوق تاجهما وسبيل روحهما.
ومما ينبغي استحضاره في علاقة بأغنية مغرب أمس، ذلك الذي يخص درجة انصاتها لذاتها في بعدها المجتمعي الحضاري، ناهيك عن انصاتها لذات ابداع وفن وتعبير وبلاغة وقضية وانسان وانسانية وزمن وامتداد وتلاقح ووطن ومن ثمة لمسؤولية. وهنا ألم تكن قطعة القمر الأحمر مثلاً بإنصات لذاتها، باعتبارها لوحة فنية طربية مغربية اصيلة متكاملة جمعت بين أدب عبد الرفيع الجواهري البليغ ولحن عبد السلام عامر البديع وصوت عبد الهادي بلخياط الرائع، ألم تنصت هذه الوثيقة من طرب مغرب أمس لضفاف تعبير وخلود وجمال ورقة بيئة وصدق صورة. لروعة مقامها وروحها ومن باب “وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين”، تقول ببلاغة تعبير :“خجولا أطل وراء الجبال وجفن الدجى حوله يسهر ورقراق ذاك العظيم، على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر وفي موجه يستحم الخلودُ وفي غوره ترسب الأعصر. خشوعا أطل كطيف نبي وفي السفح أغنية تزهر توقعها رعشات الغصون، يصلى لها ليلنا الأسمر على الربوات استهام العبير تعرى الجمال شدا الوتر. وشقراء من عرصات الضباب يعب السنا طرفها الأحور، لقد ظمئت روحها للضياء وفي بلدتي أكوس تسكر وقلبها مل ليالي الضباب وفي ليلنا أنجم تنشر، تسائلني حلوة اللفتات ومن شفتيها الشدى يقطر أفي مرجكم تولد البسمات وأفي ليلكم قمر أحمر. ورقراق موجاته أغنيات امن سحره تنبع الأنهر وعزةُ هامات هذى الجبال، أفي صخرها يرقد القدر وهذي المرعى الخصاب اللوحي في ارضكم معبد أخضر، تسائلني حلوة الوجنتين يسائلني طرفها الأحور وفي السفح تاه عبير الأماسي وفي أفقنا يسهر القمر”.
أين نحن الآن من أدب وزجل غنائي كان وراء روح أغنية بقدر عالٍ من سمو وصور ومعاني، أين نحن الآن من قول بديع كان رافعا لزمن وبهاء أغنية مغربية. أليس الانصات للذات من خلال سحر تعبير من مكامن عظمة طرب وأغنية مغربية أصيلة ملأت حب وسماع ملايين المغاربة ولا تزال بسلطة وقع على القلب والروح معاً، رحم الله عبد السلام عامر وزاد الله في عافية عبد الرفيع الجواهري وعبد الهادي بلخياط ذاك القمر.
يُذكر أيضاً عن عظمة وصور شموخ أغنية وطرب ومعزوفات مغرب أمس، ألم تنصت رقصة الأطلس لذات مغرب ومغاربة ولعظمة مشهد وشاهد، رقصة الاطلس التي أثثتها عبقرية عبد القادر الراشدي رحمه الذي لحنها في منتصف القرن الماضي، تحديداً عام ألف وتسعمائة وثمانية أربعين وسنه لم يتجاوز العشرين سنة، عبد القادر الراشدي الذي يعد واحداً من أعظم ما أنجبت ساحة المغرب الفنية أيام صيت وصدى طربه عندما كان بمكانة داخل البلاد وخارجها.
بعض فقط من نصوص وذكرى وشواهد حتى لا نطيل، ارتأيناها لالتقاط ما كانت عليه أغنية ماضٍ من روح وبصمة وأعلام وعظمة وبين كائن الآن الى حين. ونعتقد أنه من أجل روح مفعمة في أغنيتنا المغربية، لابد من اعطاءها تراث البلاد ما يستحق من انفتاح والتفات لتحقيق ما ينبغي من تلاقح وتجديد وإغناء وصدق، علما أن تراث البلاد بقدر ما هو غني ضارب في الزمن بقدر ما هو متجدد دوما، على قياس ما كان عليه فعل أغنية مغرب أمس مع حفظ جوهر نمط ومن ثمة أصول ذات ووطن. وغير خاف ما كان الى عهد قريب من آليات جمع وتجميع لتجارب ببيت تحكيم، لعل منها ملتقى الأغنية المغربية الوطني، الذي لاشك أنه تقليد رفيع في أبعاده، يسجل له ما أفرزه من بصمات كتابة ونص وأعمال لحن ولحظات أصوات، فضلاً عن تحفيز ونفَس وتنافس.
ولعل الى جانب هذا وذاك من أثاث رافع لأغنية مغربية، يصعب القفز على ما أسهمت به الإعلام بكل مستوياته، من مواكبة على امتداد فترتها الذهبية من ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، عبر ما كانت عليه الاذاعة الوطنية والاذاعات الجهوية ليس فقط من خلال ما كانت تحتويه من أجواق، انما أيضا عبر ما كانت عليه من تنشئة وتربية سمع على ذوق فني ومن ثمة على روح تراث، فالاذاعة كانت بيتاً حاضناً لروح تجارب وأعلام وأصالة أغنية مغرب أمس، وعليه ما تحفظه خزانتها الفنية من ذخيرة أرشيف هامة.
يبقى والحديث ذو شجون، أهمية الاشارة الى ركن كان بفضل فيما بلغته أغنية مغرب أمس من درجة، ويتعلق الأمر بمعاهد البلاد الموسيقية الوطنية التي كانت قاعدة خلفية عملية وعلمية رافعة للشأن. ذلك أنها الى جانب ما كانت عليه من تكوين وأطر علمية باحثة بكفايات معرفية مهارية رفيعة، كانت هذه المؤسسات بعدد من مدن البلاد بدور طلائعي في ابراز ما أبرزت من مواهب في دروبها الأولى، من خلال ما كان يؤثث ويوازي برنامج عملها وبالتالي رعاية نشأة وناشئة مبدعة وتصحيح مسارات. فهذه المعاهد التي عبد طريقها موسيقيون مغاربة رواد، كانت بفضل من توسيع ورش الأغنية المغربية وبناء وإعداد موارد فنية ببصمات تحفظها ذاكرة البلاد. ونعتقد أنه بدون انصات لحال وأحوال ما هناك من معاهد وطنية عبر رد الاعتبار لها ولمقامها حتى تستعيد هيبتها، ليس كبنايات إنما من خلال كفايات تكوين وتأطير قارة برؤية وتبصر ونهج بحث وإغناء وبصمة، بدون هذا وذاك لا نعتقد أن هذه المعاهد باعتبارها معادلة أساسية في هذا الشأن ستكون بما كانت عليه، صوب روح أغنية كانت بصدى في مغرب ومشرق خلال فترة ذهبية، بل لن يكون من روح هذه الأغنية سوى ما هو ماضٍ شامخ حي في ذاكرة بلاد وعباد.
باحث عضو بمركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
نورالدين دبدوبيمنذ 3 سنوات
الأستاذ عبد السلام وضع الأصبع على مكمن الداء الذي ينخر الاغنية المغربية انتهى عهد الرواد والفشل في خلق استمرارية بين الجيل الذهبي وجيل من الشباب الحالي ليس بمقدوره تلحين وغناء الشعر والرجل نورالدين دبدوبي