خالد لخصيم
خفت صوت أبواق السيارات المجلجل ، وتوقفت الحركة ثم بدأ الناس يخرجون من سياراتهم ويقفون بإحترام بارز.
وقف عَدَدٌ وافر من السيارات – والتي قد وصل عددها لخمسة عشر سيارةً- جميعًا وقفوا هذه الوقفة إحترامًا لجنازة أحدهم.
وقفتُ كالجميع، وأمعنتُ النظر في ذلك الحشد الغفير الذي كان يسير بخطوات بطيئة خلف النعش المهيب الذي يحمل جثة الميت..!
وأنا أواصل الإمعان في هذه الجنازة تأثرتُ تأثرًا بالغًا وأحسست كأن الميت يقرب لي شيئا..!
إلهي، ماهذا الشعور الغريب..؟ فجأة إنْهَرْتُ وأنا واقف في مكاني، إنهرتُ حتى غدوتُ كورقة ثوث في مهب الريح..!
شرد ذهني وسرى الوهن في جسدي ، وللآسف لم أتمالك ضعفي فوجدت نفسي فجأة أندفع لمرافقة الجنازة..
سرتُ خلفهم وكنت تقريبًا في ذيل الحشد الغفير، دار رأسي وإمتزجت الدوخة بالرهبة..!
قلتُ لنفسي أخيرًا: لقد قمنا بصلاة الجنازة قبل فترةٍ على أحدهم ، وربما هذه هي جنازة من صلينا عليه للتو، أمعقول أن يكون هو..؟ على الأرجح فإن الأمر كذلك.
تضاربت الأفكار في رأسي ، وكنتُ كلما شردت أجد الحشد قد سبقني بخطوات ، فأهرول لألحق به مجددًا..!
مشينا إلى أن بدأت تظهر أعمدة الخيزران وأشجار الخروب على بعد أمتار من المقبرة، هنا وبدون سابق إنذار إجتاحتني رغبة جامحة في لمس النعش، كانت رغبة ضارية ، جامحة ، لاسبيل لكبحها..!
أسرعت الخطى وبدأت أزيح كل من يعترض طريقي بوحشية، كأن لمس ذلك النعش كان ضرورة ملحةً عليَّ إدراكها ولو أرقتُ الدماء.
تعثرتُ مرتين من جراء خطواتي السريعة ، وزاد إشتعال رغبتي حين لمحت الأيدي تمتد للنعش تمسكه..!
من الخلف أوغلتُ يدي وإندفعت بجسمي وسطهم ثم مسكتُ النعش، لا أخفيكم سرًا أنني إستغربت إذ وجدت ثلاثة ممن كانوا يمسكون به ينظرون إليَّ بشفقة ويفسحون لي المجال.
وضعته على كتفي وبدأت أتحسس بخذي الرداء الذي يغطي الكفن، إنسبلت من عيني الدموع فجأة وأنا أحمله بكلتا يدي وأدنو منه برأسي، ترى ما الذي يحصل معي، لما تعتريني كل هذه المشاعر ..؟
وضعناه أرضا حين أدركنا القبر، تأملت تلك الحفرة، حفرة سوداء موحشة كالسرداب، كالبيت المهجور، كالكهف الشاغر ..!
وُضع الجثمان في موطنه الأصلي -التراب- ونحن جميعا أبناء التراب، ثم صُفِّفَتِ اللبنات وغطته بالكامل بعدها.
هنا مرةً أخرى إجتاحتني رغبة جامحة في أن أهيل التراب على القبر، لكن وللغرابة وجدتُ -الحفَّار- يمدني بالمجرف وينظر إليَّ بحزن كأنه يقول لي تفضل وأهل عليه التراب..
فعلتُ ذلك ، فعادتْ مجددا حرقتي لتشتد ودموعي لتنسبل..
كنت أسمع صوت الفقيه يقرأ ما تيسر من القرآن وأنا منهك بكل ما أوتيت من قوة أهيل التراب ..
تصبب عرقي، وأحسست بدوخة مضاعفة فإذا بي أجثي على ركبتي وألقي المجرف أرضا ثم أمسك رأسي بكلتا يدي ..
سمعتُ صفيرًا مدويا بداخلي وصوتا يشبه صوت حوافر الخيل وكان هذا الأخير يخفتُ رويدًا رويدًا كأن ذلك الخيل يمضي بعيدًا عني إلى غير رجعة.
فجأة رفعتُ رأسي فلم أجد أحدًا ..!!!!
لقد كنتُ وحيدًا في المقبرة أمام قبرٍ حديث العهد، ترابهُ مبلل بدموع العزاء، وجنباته تؤثثها باقات الورد التي كانت كعربون إعتذار وإمتنان متأخرين لشخصٍ غادرنا للأبد.
لقد كان ذلك القبر هو قبر والدي الذي توفي قبل أسبوع من الآن..!