يحي زروقي
لاأحد من مقربي سعيد يعرف سبب عماه،كل ماهنالك أنه افتقد بصره مذْ كان في سن الثالثة لم ينفع معه علاج،ومع ذلك فقد كافح الوالدان من أجل تعليمه إلى أن أصبح موظفا مكلفا بالأرشيف بوزارة العدالة حيث كان زملاؤه يلقبونه “الدينامو” لقوة ذاكرته في الملفات والقضايا .مات الأبوان،فكان الوريث الوحيد لأملاكه.لم ينقصه شيء لذلك عاش في بحبوحة ومرح ،ومع ذلك لم يفكر مطلقا في الاستقالة من وظيفته.
أمر واحد كان يؤرق سعيدا،أنه كان يعلم تمام العلم أنه يتعرض للاستغلال،والسرقة من زملائه،ومن سائقه” روبيو”،والمستخدم المكلف بشؤون العقار،إلا أنه لادليل لديه.في إحدى الليالي بكى طويلا حينما تذكر والديه،ولاسيما مستغليه الذين لم يبخل عليهم بأي شيء.
بالكاد نام ساعة بعيد صلاة الفجر،وحلم بوالده وهو يمسح على جفنيه،ويلثمه على جبينه.استيقظ نشيطا كأنه نام الليلة كلها،ولم يصدق أنه يرى النور،فاتجه صوب المرآة،فذهل،ثم صاح:”هل أنا أبصر ؟”فبكى،وضحك طويلا إلى درجة أنه نسي موعد العمل،وحار في أمره،فهل يخبرهم بأنه أصبح بصيرا؟أحس بأن هاتفا ينهاه عن ذلك حتى يميز الوفي من المداهن،وحتى يرى الحياة كما هي دون مكياج.اندهش زملاء العمل لتأخره لأول مرة في حياته منذ عشرين سنة.استطاع سعيد أن يحتويَ سره من تحت نظارته السوداء،وظل يواري ابتسماته.شك الساعي في سر ضحكه وهو الموظف الجدي العبوس،فراوغه سعيد بسرعة بديهته.استمر على هذه الحال أسابيع دون أن يغير شيئا من سلوكاته،أو طقوسه….المذهل أنه اكتشف أن سائقه يتاجر بسيارته حيث حولها إلى طاكسي،وأن الفتاة الوحيدة التي أحبها لم تكن ذميمة كما وصفها زملاؤه،ولم يعرف السبب،لكن الشيء الذي اعتبره ضربة قاضية قصمت ظهره،وتمنى لو بقي كفيفا حتى لايرى القبح،والخداع،والقذارة في البشر قبل الجمادات حينما اكتشف بالصدفة أن خطيبته “فلة”وافقت عليه من أجل ماله وحسب،وأنها على علاقة بروبيو.ومن فرط حزنه،وكمده بكى بحرقة تلك الليلة،وغفا قليلا،وحلم بوالده وهو يمسح من جديد على جفنيه،ويهمس في أذنه اليمنى:”حبيبي لاداعي لمقلتين مبصرتين،وقد تأكدت من صدق كلامي”.بمجرد ما استفاق كان كلام الوالد يرن في أذنه مثل الهاتف،واكتشف أنه عاد لأصله،فحمد الله أن الحقيقة أكبر منه،وهو ليس بطماع؛إذ يكفيه ربعها،وظل يصرخ:”لاأريد أن أراكم،تبا لكم،حسبي عصاي التي أتوكأ بها،ونظارتي السوداء التي تجملني”
بعض أحداث القصة مستوحاة من فيلم”صباحو كذب”.