علي سعادة
كان بندقية لم تعرف لها بوصلة سوى فلسطين، كانت وجهته دائما صوب “أرض البرتقال الحزين”.
قلمه كان خنجرا في خاصرة الاحتلال جعل منه هدفا مقلقا للموساد الإسرائيلي.
تأتي ذكراه دائما مع هجير صيف يوليوز لتذكرنا أشلاؤه التي تناثرت في منطقة الحازمية قرب بيروت بأن ثمة شخصا ما يدق جدران الخزان، لم يعد “أبو قيس” و”أسعد” و”مروان” يكتمون صرخاتهم وأنفاسهم في خزان مياه “أبو الخيزران”.
أسطورة صنعت أسطورة أخرى، بين أنامله نمت وكبرت ريشة فنان لا تقل عنه إبداعا وتشردا وتمردا وتوقعا لموت سيأتي قريبا إما بسيارة مفخخة، أو برصاصة تنطلق من كاتم صوت.
ذات صباح زار مخيم “عين الحلوة” في لبنان ووقعت عيناه على رسومات على الجدران رسمها لاجئ صغير يدعى ناجي العلي، وقرر وقتها أن يأخذ رسوماته، لينشرها في مجلة “الحرية”، ومن هنا ولدت إيقونة أخرى في فضاء الإبداع العربي والفلسطيني.
كيف يمكن تصنيف غسان كنفاني، المولود في عكا عام 1939 إبداعيا، وكيف تمكن شخص رحل بعمر 36 عاما أن يكون: حزبيا، مثقفا، صحافيا، قاصا، روائيا، سياسيا، مناضلا، كاتبا للأطفال، شاعرا، رساما، عاشقا، مؤرخا، كاتبا مسرحيا، معلما، رب أسرة، وصاحب قضية، وأن يتوج كل ذلك بالشهادة؟
كيف عاشت كل هذه الشخصيات في جسد واحد؟ أية معاناة حقيقية كان يعيشها حين كان يكتب أو يقرأ أو يرسم وفي موازاة كل ذلك كان يقرأ بنهم لا يصدق. كان يقول إنه لا يذكر يوما نام فيه من دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن 600 صفحة، كان يقرأ ويستوعب بطريقة استثنائية.
في ذلك يقول بيار أبي صعب: “نحسب أننا أمام كتيبة من المؤلفين، وليس كاتبا فردا. إن غسان كنفاني يترك لنا صورة كاتب واظب على الكتابة طوال حياته، لا بد أن هذا الرجل تخلى عن النوم والعطلات والسفر واللهو، ووهب حياته كلها للكتابة وحدها، وإلا كيف يمكن تصديق عدد كتبه، وعدد الأسماء المستعارة التي كتب بها. لابد أن صاحب “عائد إلى حيفا” وجد وصفة سرية لمضاعفة سنوات عمره من دون أن يتغير عددها، ليتمكن من إنجاز كل هذه الأعمال”.
عاش غسان كنفاني طفولته في يافا التي اضطر للنزوح عنها كما نزح الآلاف من الفلسطينيين بعد نكبة 1948، وبعد رحلة نزوح طويلة من يافا، إلى عكا، إلى لبنان، إلى حمص، فالزبداني، استقر به الحال في بيت متواضع وقديم في حارات دمشق القديمة: الشابكلية وحي الميدان، وحي الشويكة، حيث شارك أسرته حياتها الصعبة. فعمل والده المحامي أعمالا بسيطة. أخته عملت بالتدريس. هو وأخوه صنعوا أكياس الورق، ثم عمالا، ثم قاموا بكتابة “الاستدعاءات” أمام أبواب المحاكم وفي الوقت نفسه كان غسان يتابع دروسه الإعدادية.
وبعد أن تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتبا لممارسة المحاماة أخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحيانا في التحرير الصحافي، واشترك في برامج في الإذاعة السورية، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
بدأ غسان حياته العملية معلما للتربية الفنية في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا). انتقل بعدها إلى الكويت عام 1956 حيث عمل مدرسا للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية. وفي هذه الأثناء عمل في الصحافة وظهرت بدايات إنتاجه الأدبي.
أقام في بيروت منذ عام 1960، وعمل محررا أدبيا لصحيفة “الحرية” الأسبوعية، ثم رئيسا لتحرير صحيفة “المحرر” كما عمل في “الأنوار” و”الحوادث” حتى عام 1969 ليؤسس بعد ذلك صحيفة “الهدف” التي بقي رئيسا لتحريرها حتى يوم استشهاده.
أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1952. في ذات العام التحق بكلية الأدب في جامعة دمشق، لكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، وما لبث أثناء عمله في الكويت أن انتسب من جديد لجامعة دمشق ونال شهادة في الأدب.
انضم غسان كنفاني إلى “حركة القوميين العرب” بناء على دعوة من جورج حبش (الحكيم) لدى لقائهما عام 1953. وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة “الهدف” وترأس تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
على الصعيد الشخصي تزوج غسان من السيدة الدانماركية أنى هوفمن والتي سمعت لأول مرة في حياتها عن الشعب الفلسطيني حين التقته مصادفة، ورزق منها ولدان هما فايز وليلى.
كان غسان متعدد المواهب. وكان إنسانا شفافا يتمتع بحس المرح، وله قدرة لافتة على التعامل مع الآخرين. كان رجلا محظوظا في الحب. كان وسيما، كثيرات سعين إليه، لكنه لم يرتبط بأي حب حقيقي إلا مع زوجته أم أبنائه ورفيقة مسيرته.
مسيرة غسان كنفاني في الصحافة، تكاد توازي حضوره الإبداعي وتفوقه غزارة، فقد كان عاصفة أو أشبه بإعصار في القدرة على التعبير والكتابة والقراءة.
الأدب الذي أنتجه غسان كنفاني يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الفلسطيني، عبر رحلة اللجوء والمنافي. رحلة التشرد والقهر. رحلة المعتقلات، والمقاومة الذي كان غسان جزءا منها ومشاركا فيها كلاجئ وأديب ومثقف ومقاوم. فكتب روايتين ولم يكن عمره قد تجاوز 23 عاما، هما “أرض البرتقال الحزين” و”رجال في الشمس”.
ففي روايته “عائد إلى حيفا” وصف رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا، وقد وعى ذلك وكان ما يزال طفلا يجلس ويراقب ويستمع، ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فكتبها. والتي أنتجت فيما بعد كفيلم.
وحكى في “أرض البرتقال الحزين” قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية. أما “موت سرير رقم 12” فاستوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب مرض السكري الذي أتعبه كثيرا.
وأكثر رواياته تأثيرا في الأدب العربي وشهرة كانت “رجال في الشمس”، التي استوحاها من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت، وعكس فيها عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، وكانت ترمز وتصور لمعاناة الفلسطينيين في تلك الحقبة.
من أهم أعماله التي أصبحت ضرورة في الثقافة العربية: “عالم ليس لنا”، “موت سرير رقم 12″، “أرض البرتقال الحزين”، “رجال في الشمس”، فيلم “المخدوعين”، “أم سعد”، “عائد إلى حيفا”، “الشيء الآخر”، “العاشق، الأعمى والأطرش”، “برقوق نيسان”، “القنديل الصغير”، “القبعة والنبي”، “الباب”، “القميص المسروق”، “جسر إلى الأبد، “ما تبقى لكم”، “من قتل ليلى الحايك؟”.
ومن الدراسات التي تركها كنفاني “أدب المقاومة في فلسطين”، و”في الأدب الصهيوني”، و”الأدب الفلسطيني المقاوم”، وترجمت أعماله إلى 17 لغة، وانتشرت في جميع الدول العربية إضافة إلى أكثر من 20 دولة أخرى.
توج غسان كنفاني مسيرته بالشهادة، تلك الشهادة التي كانت حاضرة في تفاصيل حياته القصيرة فقد استشهد بعد انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته حين كان برفقة ابنة شقيقته “لميس نجم” وعمرها 17 عاما. تناثرت أشلاء الشهيد مع الصغيرة لميس، وهي التي كانت أقرب إلى قلبه، حيث كان يكتب لها القصص ويهديها إياها في مناسباتها الجميلة، وكانت “القنديل الصغير”، واحدة من تلك القصص التي نشرت بخط غسان.
عقب اغتيال غسان كنفاني علقت رئيسة وزراء الاحتلال حينها، غولدا مائير، على العملية، قائلة: “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح”، وهي التي أصدرت قرارا في ذات العام بتصفية عدد من أعلام الفلسطينيين وقياداتهم.
تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد والشاهد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء ونشوء المقاومة الفلسطينية.
كان يعتقد أن كل قيمة كلماته في أنها “تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه”.
وفي الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس ويتفرج بعض آخر، كان هناك بعض أخير يقوم بدور الخائن، بحسب كنفاني.
وحين طرح سؤال: “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟” فقد أجاب بنفسه على السؤال “الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”.
نعم غسان، الوطن ألا يحدث ذلك كله. ألا تنتهي حياتك قبل أن تكمل ما بدأت به.