مصطفى قشنني
مظفر النواب، الذي ودعناه إلى دار البقاء، ظاهرة شعرية قلّ نظيرها في الشعر العربي منذ الملك الضليل وحتى محمود درويش، سيمتها البارزة هي الشراسة والقسوة في الهجاء والنقد اللاذع للحكام العرب ولأنظمتهم ولشعوبهم أيضا. وأكثر من ذلك المجازفة الخطيرة في تعريتهم وتجريحهم وجلد ذواتهم
“يا حكاما مهزومين
ويا جمهورا مهزوما
ما أوسخنا..
لا أستثني أحدا”
عرفه الجمهور العربي منذ قصيدته “قراءة في دفتر المطر” في أواخر الستينات من القرن الماضي وكذا ملحمته الشعرية الموسومة ب”وتريات ليلية” والتي تختزل شعر النواب الموغل في الهجائية خاصة قصيدة “الانتفاضة” و”القدس عروس عروبتكم” والتي تعري خيانة الحكام العرب وتقاعسهم وتفريطهم في أهم قضية عربية وقومية وإنسانية في العصر الحديث على الإطلاق، إنها فلسطين الجرح والحصار والمكابدة والتحدي والرفض للعدوان والاحتلال “القدس عروس عروبتكم/فلماذا/أدخلتهم كل زناة الليل حجرتها/ووقفتم تسرقون السمع وراء الأبواب/لصرخات بكارتها/وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا/وصرختم فيها أن تسكت/صونا للعرض/ فما أشرفكم/اولاد القحـ….. هل تسكت مغتصبة/اولاد القحـ…./لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم/إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم/تتحرك دكة غسل الموتى/أما أنتم لا تهتز لكم قصبة(…).
إنه شاعر الثورة والتمرد والتحريض، ويرى البعض أنه تنبأ ب”الربيع العربي” منذ عقود مضت وما سيصاحبه من تداعيات موجعة ضمن مجموعته وتريات ليلية حين قال “سيكون خرابا سيكون خرابا سيكون خرابا، هذه الأمة لابد أن تأخذ درسا في التخريب”
اشتهر النواب بقصائده المسجلة بصوته على الأشرطة والتي كانت تُتَداول داخل الجامعات ومقرات الأحزاب اليسارية والنقابات وخلال التظاهرات المنددة بالإمبريالية والصهيونية والرجعية، وعلى لسان كل الثوريين كانت قصائد النواب تشعل الفضاءات العامة والساحات(…) النواب شاعر ثائر على اللياقة ومتحلل من المعايير وغير محتكم إلى الدين أو الأخلاق فيما يُنشد ويقول، كسر قوالب الاحترام وخرج عن المألوف والجاهز والرثيب، وهو الذي قال: “يتهمني البعض بأني مبتدل وبذيء، اعطيني موقفا أقل بذاءة مما نحن فيه” ردا على أولئك الذين كانوا يستنكرون عليه بذاءته وابتداله ويستكثرون عليه سلاطة لسانه و لذاعة وقسوة انتقاداته(…) النواب شاعر مفعم –أيضا- بحب الحياة، مشحون بالأحاسيس الإنسانية الصادقة، منتصر للمستضعفين.
عاش حياة ضنكة وغربة مركبة جسدتها بعناية فائقة قصيدته “في الحانة القديمة”، “سبحانك كل الأشياء رضيتُ/سوى الذل/وأن يوضع قلبي في قفص/في بيت السلطان/وقنعت بكون نصيبي في الدنيا/كنصيب الطير/ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان وتعود إليها/وأنا/ما زلت أطير/ فهذا الوطن/الممتد/ من البحر إلى البحر/سجون متلاصقة/ سجّان يمسك سجان”.
كتب مظفر النواب، ملحمته الشعرية الخالدة بدمه، الحرية كانت دوما همه، الوجداني والإنساني والسياسي، وشكل منجزه الشعري ثروة ضخمة لا توازيها سوى ثروة الجواهري والسياب، وبالرغم من ذلك تعرض لحصار نقدي قاسي ومجحف ولصد ورفض من قبل سدنة مؤرخي الشعر والأدب العربي الحديث، الذين تجنبوا محطة هامة من شعر النواب، والتفوا عليها خشية من أن يلحقهم سخط الأنظمة العربية المتسلطة، وعلى رأسها أزلام نظام البعث، الذين كان يقضّ مضجعهم ويكدر فرحهم –هذا الشاعر- عن طريق صولات وجولات اشعاره، داخل أسوار الجامعات ووراء قضبان السجون، وأقبية التعذيب العربية.
النواب كان شاعرا بلا وطن، فاتخذ من كل الأوطان العربية وطنه، وخبر كل أشكال التعذيب والحصار والتشرد –إنه سيزيف الشعر العربي الحديث- فجاء منجزه موازيا لتجربته في الحياة متسما بالجسارة والرفض والمداهمة والإقدام والطاقة التدميرية التفكيكية لصنمية السلطة والمؤسسة بمفهومهما المتعدد.. إنه شاعر متمرد خارجي صادم أنشد في خضم سياقات سياسية وثقافية واجتماعية متعددة على طول وعرض الوطن العربي الممتد كتابوت من الماء إلى الماء، فكان النواب متماهيا مع حريته وهويته، وكان شعره بماثبة سجال هجومي صدامي مستفز إلى حد التوتر مع كل ما هو قائم تابث رتيب ساكن دائري مغلق، مسكون باليقين والعدمية والطوباوية .
النواب شاعر أبدع في القضايا الكبرى لوطنه ولأمته، إيمانا منه أنه لاشعر خارج شرط الواقع، فكان ابداعه عاصفا ومدويا ومزلزلا ومجلجلا وراديكاليا ضدا على الواقع العربي المستلب المأزوم، بإعتبار الشعر قوة عناد ومصارعة، وبحث مضني عن الوجود في اللاوجود، الشعر بحث عن مكمن القضايا الكبرى، فكان بذلك –النواب- شاعرا مفردا بصيغة الجمع، فقد انصهرت في قصيدته أوجاع وطنه وهموم شعبه، فكانت (القصيدة) عظيمة فخمة تتماهى مع غبطة الحياة ويقين الوجود وهواجس المصير, يتداخل فيها الهجاء السياسي اللاذع اللادغ والنقد الساخط مغلفا بسخرية سوداء في أشعاره الشديدة المرارة والمثقلة بالهموم والأوجاع التي لم تغادر صوره وتعابيره واخيليته بتاتا (…) لذلك ظل الشاعر النواب طيلة مشروعه الإبداعي شاعر قضية لم تفارق أشعاره التراجيديا الفلسطينية والهموم العربية والشعوب المقموعة وصلف وعنجهية الحكام وتطاولهم في اذلال محكوميهم، وعنادهم في قمعهم والبطش بهم (…) النواب كان ملتزما بالقضايا القومية والإنسانية حد الوجع وأعلى من سقوف الأحزان ,عاش لظى المنافي وتكبّد رطوبة السجون والمعتقلات ليكتشف أن المنفى هو المنفى في الهنا أو في الهناك، وأن القصيدة هي الوطن وهي المنتهى والتخوم.
النواب كان يطلق عبارته النارية من بندقية قصائده الثورية، لتحدث مفرقعات ودوي يهز عروشا ويدكّ أحلام الطواغيت، منذ مايناهز الستة عقود وهو يقترف الشعر السياسي, مستلهما التراث والحضارة العربية بأمجادها ورموزها الثقافية، كل هذا الزخم بوأه عرش “الشعر السياسي” من دون منازع. فتمكن بذلك –النواب- من ضبط بوصلة الوجدان القومي العربي وتغلغل في هوامشه ,على العكس من ذلك تماما اذا وضعنا نصب أعيننا الشاعر نزار قباني الذي أعلن الطلاق مبكرا مع هذا اللون من الشعر السياسي وانزاح عنه منتصرا للسمراء والنهد والارداف الممتلئة (…) معتبرا جميع ما كتبه من شعر سياسي عربي ذهب مع الريح لأن هذا الشعر لاتباث له ولا ديمومة لأنه يغنى على مسرح عربي شديد الإهتزاز كثير التقلب،أنه مسرح تنقلب فيه الكوميديا إلى تراجيديا في ثانية واحدة وتتحول فيه الأفراح إلى جنائز خلال دقائق معدودات لذلك يخلص- نزار ساخرا- إلى أن ” جميع القصائد التي كتبناها بحماس عظيم ليلة الجمعة إنتقلت إلى رحمة الله صباح السبت … وبكل صراحة أعلن أمامكم أن كل الملاحم السياسية التي ملأنا بها الدنيا فرقعة وضجيجا لم تكن أكثر من ريبورتاجات صحفية وضعها التاريخ في سلة المهملات”.
مظفر النواب اختلفت رؤيته عن نزار بشكل مطلق فكان شعره في أوج غزلياته وخمرياته، يلامس الهم السياسي وينتصر للمحرومين والمستضعفين بكثير من الإبداع والعمق وتجسيد المعاناة, النواب كان يكتب متألما باكيا عن تاريخ وحاضر ومصير وطنه وأمته. وقد ظلت روحه تئن تحت وطء ووقع مطارق العذابات والألام طيلة ستة عقود من الزمن العربي, انتخبه الشارع العربي فكان خير من عبر عن اشجانه وأحلامه وأوجاعه، لم يتاجر في قضيته ولم يتودد أو يتقرب لحكامه ولم يمارس الخيانة بشكلها المتعدد ولم يرضخ أبدا للإستعباد أو الإستبداد أوالإستبلاد (…)
نعم، النواب الذي احتل مساحة شاسعة من وعي الأجيال العربية المتعاقبة، ها هو الأن يودّعنا في عزّ كبريائه وشموخه، شجاع في أحلك أزماته الصحية والنفسية والوجودية فتحية إلى هذا الشاعر الصاخب الرائع الذي ملأ الدنيا وأقلق الحكام العرب وشغل الناس..
قدور سويدىمنذ سنتين
انت الاستاذ قشنني تفظح المنكرات التي تح صل بوجدة واقليمها. انت رجل.وصحفي.مقتدر. هنيئا.لك .بهذا الإخلاص لبلدك ووطنك. شكر.لك.