عبد السلام انويكًة
بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين لملحمة المسيرة الخضراء، ينظم منتدى زرياب للموسيقى والفنون بتازة ضمن دورة ثانية له بدعم من وزارة الثقافة، “المهرجان الوطني للموسيقى وفنون العرض” يومي 05 و06 نونبر 2024 تحت شعار “الصحراء المغربية من التدبير إلى التغيير”، وذلك على إيقاع جملة أنشطة فنية منها من هو موجه لفائدة مؤسسات ذات خدمات اجتماعية تؤطرها مكونات للمجتمع المدني محليا، من قبيل جمعية النور لرعاية الطفل والمرأة وجمعية التضامن للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بتازة، فضلا عن سهرة موسيقية كبرى تؤثثها أصوات واعدة شبابية محلية : من قبيل الفنان منصف العماري – نجيب مالي – يحيى العزوزي – أنور الهرمي – وصال النعيم – رضا غانم – عبد السلام الصافي، مع مشاركة شرفية للفنان الفرنسي Pascal Alberola المولود بمدينة تازة. ولعل حدث “المهرجان الوطني للموسيقى وفنون العرض” في دورته الثانية بتازة، هو التفاتة تكريمية نبيلة مستحقة منه ومن خلاله من مدينة تازة، لأحد قيدومي الفعل الفني الموسيقي التراثي الملحوني تحديدا، ويتعلق الأمر بالفنان الحاج نور الدين العماري الذي يسجل له ما كان عليه من موهبة وعشق للتراث الفني المغربي وبخاصة فن الملحون، فضلا عن اسهامات محترمة وبصمة خاصة صوب تازة، ممثلة في قصيدته الملحونية الشهيرة التي لا تزال عالقة منذ عقود من الزمن في ذاكرة اهل تازة “قصيدة الولي سيدي عزوز”. ولعل المحتفى به في مهرجان تازة الوطني للموسيقى وفنون العرض، هو أحد الحفاظ المولوعين المتمرسين لقصائد طرب الملحون، وممن توجهوا بعنايتهم لخدمة فن الملحون من التازيين التراثيين منذ ثمانينات القرن الماضي، وعليه يشهد له ما كان عليه من فعل وعطاء وتميز ملحوني قل نظيره محليا، رغم صعوبة الحديث عن أعلام وشعراء ملحونيين بتازة وهو ما يهم أيضا باقي الاجناس الفنية التراثية بالمدينة، بل ليس سهلا وضع تراجم متكاملة علمية لهؤلاء في علاقة بنهجهم الفني ومسارهم ومشيختهم ومدرستهم وسبل تميزهم وطبع هيبتهم وبصمتهم.
مع أهمية الإشارة ايضا أن الفنان الحاج نور الدين العماري التازي المحتفى به، عنوان ابداعي موسيقي تراثي كان بفضل في رسم وقعٍ لفن الملحون بتازة، بل من رواد الطرب التراثي الذي يستحق كل ذكر واعتبار واكبار ضمن باقي الأسماء الفنية التراثية التي طبعت ماضي المدينة. ومن الانصاف القول أن الحاج نور الدين العماري، هو من الرعيل الفني التراثي التازي الأصيل لِما كان عليه من تملك لمقامات ولمادة فنية تراثية مغربية لحنا وأداء وتعبيرا، فضلا عن موهبة وإلمام بمكامن فن الملحون خاصة واهتمام به لعقود من الزمن وهو ما جعله بغيرة على تراث المدينة الفني، فكان بما كان من إغناء لمشهد وتعبير جمالي فني موسيقي اصيل، ومن اشباع لعشق محبين متعطشين مجتهدا في نشره وتقريبه بجعله ضمن عوائد المدينة الاحتفالية الفنية التراثية، والتي كانت تؤثث ما كان ينظم من مناسبات خاصة وعامة. هكذا شكل المحتفى به احالة فنية تراثية مغربية لِما كان عليه من ولع ملحوني، وعندما نقول ولع الحاج نور الدين العماري معناه ما هناك من صلة له بسماع وذكر ومدح وترديد مواجيد صوفية وغيرها. هكذا كان صوت هذا الفنان التازي الأصيل يملأ سماء المدينة العتيقة وبيوتاتها وأفراحها ومناسباتها واعيادها لسنوات وسنوات، بل كثيرا ما كان المتلقي لصوته الشجي الطربي المعبر من أهالي المدينة يهتز وجدانه حسا وطربا.
جدير بالذكر أن الفنان نور الدين العماري، كان بطبع فني تراثي خاص ونكران ذات وارتباط بأصول نشأة، بل بمكانة ووقع خاص في المدينة منذ نهاية ستينات القرن الماضي عبر مسار فني غني باسهامات وتفاعلات عدة ومتداخلة، فقد اجتهد بعصامية خاصة وثابر وجالس شيوخ التراث الفني المغربي لسنوات، وانفرد في جوانب عدة بتعامله مع قصائد كبار أعلام الملحون المغربي، فضلا عما تميز به وتملكه من فصيح أداء وانتاج قصائد من قبيل تلك التي خص بها الولي الصالح “سيدي عزوز”، وهي القصيدة الشهيرة في الوسط التازي منذ ثمانينات القرن الماضي ب “الولي سيدي عزوز مول تازة ودراع اللوز”. مع أهمية الاشارة لِما كان لهذا الفنان الأصيل التازي من اشعاع وإحياء متميز لمواعيد احتفائية داخل المدينة وخارجها، على ايقاع ما كان يميزه ويتفرد به من ملكات صوت وحفظ وتمكن من نفائس قصائد الملحون، فضلا عن غوص في سراديبه وأبعاد معانيه وعبقه الأصيل. ويسجل أنه رغم رصيده ومساره الفني المتميز، ورغم حضوره المحلي كرمز من رموز الموسيقى المغربية التراثية خاصة منها طرب الملحون، ورغم ما كان عليه من بحث وتنقيب وقول مستفيدا مما كان له من علاقات فنية مع شيوخ واعلام المجال بفاس خاصة، ورغم طاقته الصوتية المتفردة الشجية التي كان بامكانه أن يظهر بها ضمن ألوان طربية اخرى، ارتأى منذ بداية مشواره ما هو تراث أصيل،
ولعل قصائد فن الملحون هي برمزيات بلاغة صورة ومكونات جمعت بين تشبيه واستعارة وكناية وغيرها، بل مما طبع نصوص شعراء هذا الفن قدرتهم على انتقاء عبارات ومفردات برمزية اجتماعية وانسانية، سياق نجد فيه تيمات شعر الملحون تجمع بين حب إلاهي وحضرة صوفية روحية وطبيعة ومعنى مشاهد، فضلا عن توسل ومدح نبوي وآخر يخص أولياء وصلحاء. وهنا تدخل قصيدة الفنان الحاج نور الدين العماري التازي الشهيرة” الولي سيدي عزوز مول تازا ودراع اللوز”، التي استهدف بها وبإنشادها استحضار مكانة هذا الولي الصالح في روح المدينة وهويتها، وهذا ليس بغريب عن أهل الملحون منذ قرون فقد كانوا دوما بقصائد تعْرف عندهم ب”قصائد جمهور الأولياء”. ولعل لقصيدة تازة المتفردة حول ضريح وولي تازة الصالح قصة خاصة، ذلك أن صاحبها كان خارج تازة مطلع ثمانينات القرن الماضي في سفرية له، قبل أن يتم الاتصال به في شأن سهرة وطنية كبرى بتازة، بحيث طلب منه عملا فنيا تراثيا يستحضر تراث المدينة، لتأتي اطلالته الملحونية وهذه القصيدة حول الولي سيدي عزوز. ويسجل للفنان الحاج نور الدين العماري ما كان عليه من توفيق، بالنظر لِما كان يتملكه من رصيد وذخيرة تعبير ووصف متميز وإلمام بمشهد تازة العتيقة، بحيث ما طبع قصيدة “الولي سيدي عزوز” جعلها من من أجمل ما تم تقديمه للمشاهد المغربي بعد نقلها عبر التلفزة المغربية، ومن ثمة ما كان عليه هذا العمل الفني من صدى في كل ربوع البلاد، وهكذا تحدثت هذه الرائعة الشعرية عن ولي تازة الصالح الشهير”سيدي عزوز، فأبدع صاحبها وتميز وجعل من قصيدته جوهرة فن الابداع والملحون التازي. بل من جملة ما جعل هذه القصيدة بما هي عليه من شهرة، براعة صاحبها في اظهار محاسن تازة المادية واللامادية، من خلال جولة فنية عبر دروبها وأزقتها وأعلامها وعلماءها وبساتينها وآثارها الشامخة وأمكنتها الروحية. فأبدع في وصف ما تزخر به تازة ومحيطها من صور تم وصفها بلغة صوفية عصامية وحب لمكان وزمان وانسان، وقد نالت هذه التحفة الفنية التراثية ما نالت في وقتها من اعجاب لجان فنية مشرفة عن دار الاذاعة والتلفزة المغربية، ضمن سهرة كبرى بنجوم فنية مغربية كبيرة عام ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين، سهرة كانت من اعظم ما استضافته تازة، بل كانت ملحمة “الوالي سيدي عزوز” من اعظم ما انجز وما قدم فيها حول التراثي المحلي.
يذكر أن اكتشاف موهبة الفنان الحاج نور الدين العماري التازي، تعود لفترة طفولته ولسنوات تمدرسه الابتدائي بمدرسة خالد ابن الوليد بتازة العليا مطلع ستينات القرن الماضي، وكان ممن اكتشف ميوله وتميزه وموهبة هو الحاج محمد البراهمي رحمه الله والذي كان استاذا متمكنا متميزا جدا في اللغة الفرنسية. هكذا كان يستدعيه لجمال صوته ليردد بعض المحفوظات في الفصول من حين لآخر، قبل أن يتم اختياره لتمثيل مدرسته في تجويد القرآن بجامع الأندلس بالمدينة ضمن مسابقة محلية، وقبل أن تبدأ بعض مشاركاته في اعمال مسرحية متضمنة لمقاطع لحنية تعبيرية نهاية ستينات القرن الماضي. بل من جملة ما كان عاملا في ابراز موهبته ما كان يقيمه جوق “الخليفي” رحمه الله من أنشطة احتفالية بالمدينة، علما أن الخليفي هذا كان من الموسيقيين المتميزين ومن العازفين الماهرين على آلة الكمال، بل يعود له فضل طبع تازة بما هو موسيقي حديث قبل إحداث المعهد الموسيقي، لِما كان له من معرفة موسيقية واطلاع وموهبة عزف خاصة استقاها واكتسبها من اساتذة متميزين بفاس. وعن بدايات الحاج نور الدين العماري وعلاقته بفن الملحون، من المفيد الإشارة الى أن جده كان مولوعا ومتعاطيا لهذا الفن وكان شهيرا ب”الشيخ محمد العماري”، وعن مشواره وعلاقته بفن الملحون نذكر ما كان له من علاقات مع أسماء ملحونية فاسية رائدة من قبيل الحاج محمد بوزوبع ومحمد السوسي وغيرهم، فضلا عما لقيه من ثناء وتحفيز اثر مشاركاته في عدد من الأمسيات بحضور شخصيات موسيقية تراثية وازنة. هكذا تأثر بأعمال اعلام ملحون فاس وقصائدهم وهو ما اغنى مساره.
يبقى احتفاء تازة بالفنان الحاج نور الدين العماري التازي في “المهرجان الوطني للموسيقى وفنون العرض” المنظم يومي 05 و06 نونبر 2024 ، بقدر ما يحسب فيه من التفاتة نبيلة غير مسبوقة لمنتدى زرياب للموسيقى والفنون الذي تعلق عليه وعلى مواعيده وتطلعاته الكثير من الآمال، بقدر ما ينبغي من تثمين للمبادرة ومن تحفيز وحرص على استمراريتها واستمرارية رمزيتها ضمن دورات قادمة، لتطل على مزيد مما هناك من رموز وأعلام فنية موسيقية تازية تراثية وعلمية وتكوينية اعطت الكثير والكثير لهذا المجال، في أفق ما ينبغي من اعتبار ورد جميل لتجارب فضلا عما ينبغي من تلاقح بين سلف تازي وخلف.