عبد السلام انويكًة
بجميع أثاثه وأنشطته هنا وهناك حول هذا وذاك، كان الفعل الجمعوي مدرسته الأولى التي تعلم فيها قيم الانسانية وقيم مجتمع ووطن، حيث ستينات القرن الماضي والكشفية الحسنية كأهم منظمة موازية لحزب الاستقلال آنذاك. هذا ما أورده في مدخل مذكرات مثيرة في حمولتها واحالاتها نتمنى أن ترى النور قريبا، مشيرا لِما كان لجريدة العلم التي كانت تؤثث بيت أسرته يوميا، من أثر في توسيع وعاء مداركه المعرفية وتكوينه عبر ما كانت تحتويه من مقالات لأقلام مغربية متميزة، من قبيل الأستاذ عبد الكريم غلاب وعبد المجيد بن جلون وغيرهم. ولعل ابن البيت الاستقلالي هذا، كان أكثر اهتماما بقراءة ما هو ثقافي في هذه اليومية، قبل انفتاحه على ما كان يتصدرها من افتتاحيات وخطب زعماء وطنيين مغاربة رغم صغر سنه. علما أن والد صاحبنا استقلالي حتى النخاع وبأصول شريفة، حيث كان نقيبا للشرفاء العلويين بتازة “مزوار” بظهير ملكي منحه له الراحل الملك الحسن الثاني، فضلا عن جده الذي كان بنفس الصفة والمهمة بظهير منحه له السلطان المولى يوسف. مع أهمية الإشارة أيضا الى أن والده كان نائب رئيس غرفة التجارة بتازة في أول انتخابات سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، ثم رئيسا لنفس الغرفة نهاية الستينات وبداية السبعينات. وأن أحد أعمامه كان نائبا لرئيس مجلس تازة البلدي، في أول انتخابات جماعية بداية ستينات القرن الماضي. وأن ابن تازة هذا تعرف وهو لا يزال طفلا، على عبد الخالق الطريس اثناء ترؤسه لتجمع عام في بيت أسرته الاستقلالية، بمناسبة أول انتخابات تشريعية مطلع مغرب الستينات، ونفسه البيت الذي استقبل نهاية الخمسينات الزعيم علال الفاسي، وكانت مناسبة سمحت له بالسلام والتعرف عليه عن قرب.
ذلكم هو الأستاذ عبد الكريم الأمراني، الذي أورد عنه أحد رفاق دربه السياسي ويتعلق الأمر هنا بالأستاذ سعيد الطاهري التازي، أنه عرفه منذ حوالي خمسين سنة مشيرا الى أنه أحد أبرز علامات سبعينات مدينة تازة، اسم لا زال ذكره يجري على ألسن مجايليه وقد نشأ على الوطنية وترعرع عليها، وأنه من مؤسسي تجربة الشبيبة الاتحادية بعد المؤتمر الاستثنائي لحزب القوات الشعبية وهو لا يزال طالبا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، مضيفا عنه أنه أحد مؤسسي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بتازة كأستاذ بثانوية علي بن بري آنذاك، وأنه أبلى البلاء الحسن على أكثر من صعيد طردا وسجنا ومحاكمة إثر اضرابات أبريل 1979، قبل أن يشد رحاله صوب الدار البيضاء ويلتحق بجريدة الاتحاد الاشتراكي ثم جريدة الأحداث المغربية انتهاءا بتأسيسه لجريدة صوت الناس. مضيفا عنه أنه بشخصية صلبة ومواقف وكتابات لا مجاملة فيها، فضلا عما يطبعها من جهر برأي لا تأخذه فيه لومة لائم، مشيرا الى أنه بمسار نضالي متفرد وذاكرة سياسية وطنية قوية، فضلا عن حرقة على مآلات نضال ديمقراطي، كونه عندما يحدث الآخر يحدثه بنَفس فيه حدّة صدق ووطنية مستحضرا تاريخا وأحداث وشهداء وقادة، مع أسف على ما ضاع من فرص لتحقيق ما كان منشودا لفائدة البلاد، مضيفا عنه أن مثقف عميق وكاتب وشاعر متمكن يعرّج استشهادا واستعارة بأبيات شعر ووقائع، فضلا عن كونه قارئا نهم تأخذك جاذبية الحديث معه بمتعة لا تتوقف. ولعل الأمراني الذي ارتبط اسمه وصداه وخطه التحريري في الاعلام الوطني، بجريدة الاتحاد الاشتراكي أولا منذ سنوات الطلب حيث سبعينات القرن الماضي، ثم ثانيا بتجربة الصحافة المكتوبة المستقلة من خلال جريدة الاحداث المغربية حيث فترة التسعينات. هو هوية خاصة في زمن اليسار المغربي لعقود من الزمن، بقدر ما كان عليه من اسهامات ضمن خيار وقناعة وحلم بمغرب جديد، بقدر ما يسجل له فضله في تطوير فعل الاعلام المكتوب مع سبقه في تأسيس صحافة مستقلة، ارتبطت بتجربة يومية الأحداث المغربية التي عمل رئيسا لتحريرها، وقد كان بوقع صحفي متميز غير خاف عن سلف وخلف لسنوات وسنوات. سياق جاء في تغريدة واحد مما عايشه وتقاسم معه المسار الصحفي لسنوات: ” لو اتيحت لي الفرصة لأقول شهادة في حق عبد الكريم، لأني كنت شاهدا على العصر اقصد العصر الذهبي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، لقلت في شهادتي بأن هذا الشخص المسمى عبد الكريم الامراني هو الشخص الوحيد الذي غير وجه الصحافة وفسح المجال لإعلام جديد ملتحف بالجرأة العلمية ومغلف بالانتفاضة في تناول القضايا والملفات الثقيلة. عبد الكريم، كان سباقا في تغيير الكتابة الصحافية من صحافة التقارير إلى صحافة فتح النوافذ على الكل، وإشراك القراء في صياغة فضاء حداثي يحارب الرثابة. عبد الكريم، كان مهووسا بالفكرة مثله مثل الشنفرة حين يتابط حزمة من الكتب والمجلات ليعصرها عصرا، من أجل منتوج طري يحلق به بالقارىء الى السموات العلى، يطوف بك من ملحق إلى آخر وكل يوم وعلى مدار الاسبوع. في عهده كانت المرجوعات صفر، والغريب أنه خرج صفر اليدين حين عصفت السياسة بمسار الاعلام الحزبي، حيث تم إسقاط الماضي بين القيادات على مستقبل الصحافة واثثت إلى صناعة صحف اخرى بالتلكومند للتشويش، وهنا ضاعت الفكرة وتربع الجبناء عليها. ورغم كل ذلك أسس فضاء آخر مع ثلة من الأشخاص وبرهن على تعاليه المهني، وسهر على بناء الاحداث المغربية من تخت الصفر إلى العلى وكان ما كان، حيث حلق بها فوق كل البيوت وعرى حقيقة الجبناء في الضفة الأخرى حيث تركهم مشدوهين إلى التطور السريع للجريدة الفتية. وتدور الايام وطعن مرة اخرى من الخلف، فحمل جثثه وذهب بها كابي ذر الغفاري يطوف بها البراري. كانت هاته شهادتي لم اتيح لي يوما ان أدلي بها لأنك على يديك تعلمنا العزة والشرف، أطال الله في عمرك”.
عبد الكريم الأمراني هذا، كاد أن يكون “اخوانيا” بحسب ما أورده في مذكراته التي نتمنى أن تخرج للوجود قريبا تنويرا لمهتمين فاعلين اعلاميين وباحثين وغيرهم، مشيرا الى أنه قرأ في سن مبكرة للسيد قطب عدة مؤلفات من قبيل “في ظلال القرآن” ثم “معالم في الطريق”…الخ، قبل تعرفه على شخص قال عنه أنه كان بأثر ودور كبير في حياته وقد تحول الى صديق له، ويتعلق الأمر هنا بالأستاذ عبد الرحمن عاشور مدير الإذاعة السابق والاطار أيضا بوزارة الداخلية. وهذا الأخير الذي كان زميلا له في الدراسة بالسلك الثانوي، يقول عنه أنه كان بأثر عميق في تغيير قناعاته وتوجهه الفكري، من خلال ما كان يزوده به من كتب لم يكن سهلا الحصول والاطلاع عليها من قبيل كتاب “مذكرات شي غيفارا” … الخ، وأنه عبر صديقه وما توفر من أثاث فكري، بقدر ما اتسع وعاءه المعرفي خاصة منه المتعلق بالفكر الاشتراكي، بقدر ما تشبع وأعجب بما هو خطاب ثوري متأثرا بشروط موازية، من قبيل ما كان عليه من احتكاك في الوسط المدرسي (الثانوية)، ومن حركة احتجاجية تلاميذية بتازة. وأن كل هذا كان بأثر في توسيع مداركه وانفتاحه، مستفيدا مما عاشه من أحداث وتفاعلات وخبايا قبل حصوله على شهادة الباكالوريا والتحاقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، متى قرر الانخراط في صفوف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فيما بعد)، حيث تعرف بالكلية على أول من تعرف عليه ويتعلق الأمر بالأستاذ “عبد الهادي خيرات”، الذي كان مسؤولا عن التنظيم بالحي الجامعي ظهر المهراز بفاس، مشيرا في مذكراته أنه بتشجيع منه بدأت ثماره الأولى في مجال الصحافة، من خلال إنجازه لأول استطلاع حول الوضع الاجتماعي لأحد أحياء مدينة فاس المهمشة “دوار ريافة”. ولعله الاستطلاع الذي نشر في جريدة المحرر مطلع سبعينات القرن الماضي، قبل أن تتوالى مراسلاته حول جملة قضايا انفتح فيها على الجامعة والطلبة الجامعيين والحي الجامعي، فضلا عن قضايا توجه فيها بالعناية لأحوال مدينة تازة بتوجيه وفضل من الأستاذ خيرات، الذي خلفه بعد انتقاله الى الرباط على رأس التنظيم الطلابي الاتحادي بفاس، فضلا عن اشرافه التام على التنظيم الحزبي بتازة أواسط سبعينات القرن الماضي.
بعض من ذاكرة ونشأة وتنشئة وبدايات مسار الأستاذ الأمراني الصحفي، هذه المدرسة السياسية والفكرية والإعلامية معا التي طبعها ما طبعها من نكران ذات وقد نهل منها الكثير بشهادة كثير، وطبعها ما طبعها من كلمة حرة منذ حوالي نصف قرن. مدرسة غرست في جيل سبعينات القرن الماضي التلاميذي، حب الانتماء السياسي للفكر اليساري (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، الفترة الحرجة التي تم فيها اعتقاله عدة مرات ومحاكمته حيث قضى فترة في السجن، فضلا عن توقيفه عن العمل الى جانب عدد من المناضلين قبل قرار عفو عام. دون نسيان أن الأمراني التازي هذا، كان جسرا لإلتحاق مساحة هامة من شباب تازة بالشبيبة الاتحادية، ما جعل المدينة لسنوات وسنوات واحدة من قلاع المغرب الاتحادي. وقد أحيط بتقدير خاص في مدينته تازة ولا يزال، وكذا خارج تازة هنا وهناك رغم اختلاف البعض معه في مواقفه حول هذا وذاك داخل البيت الاتحادي. كتاباته الصحافية كانت بصدى واسع ضمن الملف الاسبوعي لجريدة الأحداث المغربية، خاصة صفحته الشهيرة الموسومة ب “ضد التيار” كل يوم سبت. هكذا هو الأمراني، طاقة وقامة اعلامية وطنية اعطت الكثير والكثير للصحافة المغربية منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، عبر جريدة المحرر وما أدراك ما المحرر، ثم جريدة “الاتحاد الاشتراكي” وما أدراك ما يومية الاتحاد الاشتراكي حينئذ، وعبر أيضا “الأحداث المغربية” وما أدراك ما الأحداث المغربية أفق التعبير المستقل لاحقا والتي كان رئيس تحريرها، وقد جعلها في صدارة مشهد المغرب الصحفي المكتوب لسنوات وسنوات. اسم بهوية خاصة رافقته في مشواره ومساره السياسي والاعلامي، ناهيك عن تفرد ما تميز به من جدية عمل في دربه الصحفي، فضلا عما طبع شخصه من قيم تفان واخلاص وحرص على صدق فعل ودفاع عن ذات واستقلالية. يُشهد له بتكوين فكري وسياسي وكذا لغوي رفيع ضمن جيل مخضرم، فضلا عما طبعه من نزاهة فكر وقناعة ونظافة يد وحب وطن. صريح واضح تلقائي متعفف بصفات حميدة في سلوكه كما حال أخلاق بيت جميع أسرته. لا يعرف غير كلمة حق ولو على حساب ذاته ورزقه وحياته. عُرف ولا يزال في تازة حيث نشأ وتفاعل وعمل ذات يوم ب”القلب الكبير” و”القلب الأبيض”، كيف لا وهو ينتمي لأسرة تازية اصيلة عريقة ميسورة شهيرة بالمدينة، جمعت بين أعيان وعلماء وفقهاء. بحيث كان مفروضا أن يكون مسار الرجل مختلفا تماماً، كأن يكون رجل سلطة أو عاملاً بل في موقع أكثر من ذلك، علما أن وضع عائلته وعلاقتها وتماسها بدار المخزن منذ القرن التاسع عشر كانا يؤهلانه لذلك.
مركز ابن بري للدراسات والابحاث وحماية التراث