تشهد أحزاب اليمين المتطرف صعودا جديدا عبر دول أوروبا ويدعمها الشعور بفقدان الهوية ورد الفعل الشعبي العنيف ضد ارتفاع مستويات الهجرة والسياسات المناخية المكلفة وغيرها. ويقول ماتيو إيلاردو، الباحث لدى مركز ران لدراسات المخاطر، في تقرير على موقع ستراتفور إن التآكل المستمر للممارسة السياسية التقليدية في أوروبا المعروفة باسم الطوق الصحي (الذي تعمل فيه الأحزاب السياسية الرئيسية على عزل القوى المتطرفة وتهميشها) زاد من تمكين أحزاب اليمين المتطرف من التغلغل أكثر في الحكومات الائتلافية في مختلف أنحاء القارة.
وتجبر القيود المادية حتى الآن أحزاب اليمين المتطرف على تخفيف مقترحاتها الأكثر تطرفا عند توليها السلطة، في حين لا يزال من المتوقع أن يبقى يمين الوسط متماسكا في معظم البلدان وفي البرلمان الأوروبي. لكن أوروبا ستشهد تحولات سياسية كبيرة في مجالات مثل المناخ والهجرة وتوسعة الاتحاد الأوروبي، حيث تحاول الأحزاب المعتدلة التنافس مع الأحزاب اليمينية المتطرفة الصاعدة من خلال إشراكها في الحكومات الائتلافية ودمج مقترحاتها في مساحاتها الخاصة.
وارتفع دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا منذ سنوات، إلا أن هذا الاتجاه أصبح واضحا لأول مرة خلال أزمة 2008 المالية العالمية التي شهدت فرض العديد من الحكومات الأوروبية تدابير تقشفية قوضت الثقة في الأحزاب والمؤسسات السياسية الرئيسية ووفّرت أرضا خصبة للأحزاب الشعبوية عبر الطيف الأيديولوجي.
وساهمت أزمة الهجرة من 2014 إلى 2016 في تسريع هذا الاتجاه، حيث رأى العديد من الأوروبيين أن ارتفاع تدفقات اللاجئين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط يهدد الهوية الوطنية والسلامة العامة. ويكتسب هذا الاتجاه الآن المزيد من السرعة على خلفية رد الفعل الشعبي العنيف ضد ارتفاع مستويات الهجرة، والشعور بفقدان الهوية وسط التركيبة السكانية المتغيرة بسرعة في أوروبا، وهيمنة اليسار الليبرالي الثقافية الملحوظة، وارتفاع تكاليف المعيشة والتحول إلى الطاقة الخضراء.
ومكّنت هذه الخلفية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت على هامش المشهد السياسي من دخول الحكومات في جميع أنحاء أوروبا. وأصبحت إما على رأس الائتلافات الحاكمة (كما هو الحال في إيطاليا) أو من الشركاء الصغار (كما هو الحال في فنلندا والسويد). وبينما لم تستطع الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسبانيا والدنمارك وبولندا حشد الدعم الكافي في الانتخابات الأخيرة لدخول حكومات بلدانها، إلا أنها سجّلت نتائج قوية في اتجاه من المتوقع أن يتسارع خلال 2024.
انتخابات عالية المخاطر
ستشهد أوروبا في 2024 العديد من الانتخابات الرئيسية. وستنتخب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة ممثليها في البرلمان الأوروبي في يونيو. وحدد آخر استطلاعات الرأي احتمال أن تسيطر أحزاب اليمين المتطرف على ما يقرب من 25 في المئة من الهيئة التشريعية فوق الوطنية، أي ما مجموعه 169 مقعدا في الهيئة المؤلفة من 705 مقاعد.
وكما من المتوقع أن تفوز مجموعة “الهوية والديمقراطية” اليمينية المتطرفة المشككة في الاتحاد الأوروبي بـ87 مقعدا في البرلمان الأوروبي، مدعومة بشعبية أعضائها الوطنيين المتزايدة، ومن بينهم حزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب التجمع الوطني الفرنسي، وحزب الحرية الهولندي (الذي فاز مؤخرا في الانتخابات العامة الهولندية). كما من المتوقع أن تفوز كتلة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين البرلمانية ذات التفكير المماثل والشاملة لحزب إخوة إيطاليا، وحزب العدالة والقانون البولندي، وحزب فوكس الإسباني بـ82 مقعدا.
وتسجل الأحزاب اليمينية المتطرفة على المستوى الوطني نتائج قوية في استطلاعات دول الاتحاد الأوروبي المقرر أن تجري انتخابات وطنية العام المقبل، وهي تشمل النمسا وبلجيكا والبرتغال ورومانيا. وسجّل حزب الحرية النمساوي في بلاده نسبة تأييد قدرها 30 في المئة وحقق حزب فلامس بلانغ (المصلحة الفلمنكية) البلجيكي 23 في المئة، ويحتلان حاليا المركز الأول. وسجّل التحالف من أجل اتحاد الرومانيين 20 في المئة وحزب تشيغا البرتغالي 15 في المئة ويحتلان المركزين الثاني والثالث.
وأصبح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف على طريق الفوز بانتخابات خريف 2024 ليتزعم حكومة ائتلافية جديدة. وتمكنت الأحزاب المؤسسة في بلجيكا والبرتغال ورومانيا حتى الآن من منع الأحزاب الهامشية من الاستيلاء على السلطة من خلال رفض العمل معها. ولكن استمرار الأحزاب اليمينية المتطرفة في اكتساب دعم واسع النطاق يقوض نجاح إجراءات التطويق التي استمرت لعقود بعد انتخابات الدول الثلاث في يونيو ومارس وأواخر 2024.
ويندثر المحظور الأوروبي القديم المتمثل في توحيد القوى مع اليمين المتطرف في العديد من البلدان، حيث يصعّب تراجع الدعم لأحزاب الوسط تشكيل ائتلافات متعددة الأحزاب يمكنها إبقاء اليمين المتطرف خارج الحكومة. ويحظى حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يعد حاليا ثاني أكبر حزب في البلاد بدعم 21 في المئة بين الناخبين الألمان ويحتل المركز الأول في الولايات الشرقية، مثل ساكسونيا (32.5 في المئة)، وتورينغن (34 في المئة) وبراندنبورغ (32 في المئة) التي ستجري الانتخابات في سبتمبر المقبل.
نظرا للتجارب التاريخية والتقاليد السياسية المتنوعة في أوروبا، يتغير معنى كون المرء يمينيا متطرفا من بلد إلى آخر، وهو ما يزيد من تعقيد استخلاص استنتاجات عامة حول ما قد يعنيه عودة اليمين المتطرف للمنطقة بأكملها. ورغم وجود قواسم مشتركة مثل وجهات النظر المناهضة للهجرة ومستوى عدم الثقة تجاه المؤسسات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي، إلا أن أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية لا تتشارك في نفس الأفكار. وتميل أحزاب اليمين المتطرف في شمال أوروبا على سبيل المثال إلى أن تكون أكثر تحررية وتحفظا ماليا، في حين غالبا ما تدعم سياسات أكثر حمائية وتعارض حدود الإنفاق التي تفرضها القواعد المالية للاتحاد الأوروبي في الجنوب.
واعتمادا على تاريخ البلدان أو جغرافيتها الفريدة، قد تكون الأحزاب اليمينية المتطرفة مؤيدة بقوة لحلف شمال الأطلسي أو تفضل علاقات أكثر إيجابية مع روسيا. ويصعّب هذا التباين على الأحزاب اليمينية المتطرفة المختلفة في جميع أنحاء أوروبا تنسيق العمل وتشكيل منصة سياسية متماسكة على مستوى الاتحاد الأوروبي، خاصة مع أيديولوجيتها المتجذرة عادة في القومية المتعارضة بطبيعتها مع مفهوم الهيئة فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي التي تتطلب التسوية واتخاذ القرار الجماعي.
ويبرز ميل أحزاب اليمين المتطرف إلى التخفيف من العديد من أفكارها الأكثر تطرفا بمجرد وصولها إلى السلطة. وأجبرت القيود الجيوسياسية والاقتصادية حكومة رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني اليمينية المتطرفة في إيطاليا، على سبيل المثال، على تبني نهج أكثر واقعية والتخلي عن المواقف الأكثر راديكالية والمتشككة في الاتحاد الأوروبي والمقترحات غير المستدامة اقتصاديا التي أدت إلى فوز حزبها “إخوة إيطاليا” في انتخابات أكتوبر 2022.
التطلع إلى المستقبل
ومن المرجح أن يحدث أمر مماثل في هولندا، حيث من المقرر أن يدخل حزب الحرية اليميني المتطرف إلى الحكومة الائتلافية القادمة بعد فوزه في انتخابات نوفمبر 2023. وقد يضطر إلى تخفيف العديد من وجهات نظره المتطرفة لتأمين دعم شركاء الائتلاف الأكثر اعتدالا، بما في ذلك اقتراحه بإجراء استفتاء هولندي على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وستعمل أحزاب اليمين المتطرف التي ستحقق نتائج جيدة في الانتخابات المقبلة في جميع أنحاء أوروبا لذلك على تعزيز دورها في الائتلافات الحاكمة، بينما ستخفف القيود الاقتصادية والقانونية والمؤسسية والجيوسياسية من حدة أجنداتها السياسية. كما من المتوقع أن يبقى يمين الوسط في معظم أنحاء القارة، حيث ستستمر أحزابه في لعب أدوار مهمة في الحكومات، إما من خلال كونها قوة معتدلة داخل الائتلافات مع اليمين المتطرف، أو عبر الحفاظ على الطوق الصحي من خلال تحالفات مع أحزاب معتدلة أخرى عبر الطيف الأيديولوجي لإبقاء أحزاب اليمين المتطرف خارج السلطة.
سيؤثر صعود أحزاب اليمين المتطرف على السياسة الأوروبية وسياسات الاتحاد الأوروبي حتى لو لم تتمكن من السيطرة على كامل دول القارة. وستجبر ضرورة التوصل إلى تسوية مع الأحزاب الأكثر اعتدالا لتشكيل أغلبيات حاكمة الأحزاب اليمينية المتطرفة على التخلي عن بعض مقترحاتها السياسية الأكثر حدّة (الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو طرد اللاجئين أو التخلي تماما عن سياسات التخفيف من تغير المناخ). لكن نجاحها الانتخابي سيدفع النقاش حول القضايا الملحة، مثل الهجرة وتغير المناخ إلى أنهج اليمين.
وستعمل الأحزاب السياسية الرئيسية على دمج بعض عناصر أجندة اليمين المتطرف على نحو متزايد في برامجها للتنافس مع الأفكار ذات الشعبية المتنامية. وهذا ما يعني أن الحكومات في جميع أنحاء أوروبا قد تتخذ موقفا أكثر صرامة بشأن الهجرة، بما قد يؤدي إلى تشديد إجراءات اللجوء وتقليل الدعم المالي للاجئين، بالإضافة إلى تنفيذ لوائح أكثر صرامة للهجرة والضوابط على الحدود.
كما قد تسعى الحكومات الأوروبية إلى تحقيق أهداف مناخية أقل طموحا، مما قد يؤدي إلى تأخير استثمارات الطاقة المتجددة أو تقليصها، وتخفيف أهداف خفض الانبعاثات. وقد تدمج الأحزاب السياسية الوسطية الخطاب القومي في سياساتها الاقتصادية بطرق تشمل تنفيذ برامج الرعاية الاجتماعية التي تستهدف فئات سكانية محددة من الناخبين بما يوسّع عدم المساواة الاجتماعية، أو من خلال تشجيع السياسات الصناعية الحمائية التي تصعّب على الحكومات الأوروبية التوصل إلى تسويات بشأن مشاريع الاتحاد الأوروبي المشتركة.
وينطبق نفس الشيء على مستوى الاتحاد الأوروبي إلى حد ما. ومن المرجح أن تنتج انتخابات يونيو برلمانا أوروبيا أكثر تحفظا (ولكنه يبقى معتدلا إلى حد كبير)، ومفوضية أوروبية ذات تفكير مماثل.
المصدر: العرب اللندنية