ياسين لمقدم :
كعادته كل صباح، يمرُّ على نفس الطريق في وجهته إلى العمل. وكباقي الأيام يشعر بنفس الملل وهو يعبر هذه المسافة الروتينية التي يعرف عدد خطواتها، وفارق الوقت بالثواني إن غير مشيته إلى الرصيف الآخر حسب الزحمة أو تقلبات الجو.
نفس الوجوه الواجمة يصادفها في سبيله، وجوه تجار مكفهرة تكنس ما خلفه سكارى الليل ومُشرَّدوه من قناني فارغة وقيء. ووجوه عمال مرتعبة من مجهول زحمة “المُوقَفْ”. ووجوه تلامذةٍ صغار تغالب النعاس وتداري سرعة خطوِ الآباء في توجههم نحو المدارس. كل شيء يبدو له مع كل صباح جديد يُمعِن في الرتابة.
في هذا اليوم، شعر بأن الشيء الوحيد الذي يرى فيه تغييرا كبيرا على غير العادة، ويُضفي نوعا من التجديد على اللوحة البانورامية المهترئة لهذا الشارع، هو تجمُّع أربعة ضِرارٍ في مكان واحد ليتبادلوا الحديث فيما بينهم، بينما تعوَّد على وقوف كل واحد منهم في مكانه الخاص من أجل التسوُّل.
وقف طويلا يتأمل حالهم، ويلتقط أحاديثهم المليئة بالسخرية والتنكيت عن بخل الناس وجشعهم. أشعره تلاحم المتسولين بضيق في صدره وهو يسترجع علاقاته المضطربة إلى الأبد بينه وبين زملائه في العمل. وتذكر أيضا المؤامرات التي يحوكونها لتوريط بعضهم البعض في قضايا مشبوهة. أحسَّ بغصة أمام ودية المتسولين الأربعة، ثم قرر أن يتدخل لتعود صورة الشارع القميء إلى كلاحته.
تقدَّم من المتسولين، ثم قال دون أن ينفحهم بعطاء فعلي: “تفضل، ليس عندي فكة، ولك أن تقتسم هذه الورقة النقدية مع أصحابك“.
في زهو المنتصر، غادر المكان تاركا كل متسول ينتظر نصيبه الوهمي من الآخر. وقبل أن يبتلعه الدرب الموالي، تناهى إلى مسمعه صراخ المتسولين وتبادلهم التُّهم بالسرقة والنصب.
في إيابه إلى منزله، شعر بالراحة حين رأى أن كل بصيرٍ عاد إلى موقعه في صورة الشارع الرتيب…
منيرمنذ 5 سنوات
روعة استاذ ياسين دمت متألقا مبدعا.