رسبريس – عربي 21
في يوم في شهر في سنة..
تهدى الجراح وتنام.. وعمر جرحي أنا أطول من الأيام.. وداع يا دنيا الهنا.. وداع يا
حب يا أحلام.
كان ذلك مطلع أجمل أغنية في الخمسين سنة الأخيرة، والقول
للموسيقار المصري الشهير محمود الشريف (توفي عام 1990).
يتفق كثير ممن عاصروا عبد الحليم حافظ أن “العندليب
الأسمر” كما يطلق عليه عشاقه، غنى هذه الأغنية قبل رحلة سفره إلى الخارج
لتلقي العلاج، وسرى اعتقاد بأن رحلته هذه هي الرحلة الأخيرة، لذلك ألفها مرسي جميل
عزيز، ولحنها كمال الطويل، إحساسا بأنها كتبت في وداعه، وكأنه لن يعود من رحلته
حيا أبدا، كان ذلك عام 1959 .
كان إحساس “حليم” في هذه الأغنية عالي التوتر،
كان صوته ناطقا بالحزن حتى أنك كنت تسمع أصوات بكاء خافت في ثنايا صوته، نظراته
إلى وجه مريم فخر الدين في فيلم “حكاية حب” وهو يغلق جفنيه نصف إغلاق
كانت توحي بأنه على وشك أن يغلق جفنيه في سبات عميق، كأنها سكرة الموت، فيما أصوات
الأمواج تضرب الشاطئ وقت الغروب.
لقد لعبت الناحية التأثيرية والتعبيرية والذوبان في
الكلمة واللحن في وصول أغنيات “حليم” إلى جمهور عريض في الوطن العربي،
ولم يستطع عشرات المطربين الذين عاصروه أن يسقطوه عن عرش الأغنية العاطفية على مدى
25 عاما هي الفترة الذهبية له في الغناء حتى رحيله المدوي في 30 آذار/ مارس عام
1977 .
لم يكن “حليم” الصوت الأقوى في زمانه، ولم يكن
ممثلا عبقريا، ولكنه كان ذكيا، ملتهب المشاعر، أحاط نفسه بكوكبة من الكتاب
والموسيقيين والإعلاميين الذي كانوا جميعا في خدمة صوته، من بينهم محمد الموجي
وكمال الطويل وبليغ حمدي وحتى موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب، فصدقه الناس كما لو
كان يغني بصوتهم هم وليس بصوته.
وربما استفاد “حليم” بسرعة بديهته من ثورة 23
يوليو(تموز) عام 1952 التي قادها الضباط الأحرار لإسقاط الملكية في مصر، فكان ابن
الثورة وصوتها، عبر أغنيات “العهد الجديد” ، “إحنا الشعب”،
“أحلف بسماها”، “عدي النهار”، “البندقية أتكلمت”،
“المسيح” التي غناها للقدس، وغيرها.
نشأ عبد الحليم شبانة المولود عام 1929 في قرية الحلوات
التابعة لمركز الإبراهيمية محافظة الشرقية، يتيما بعد أن توفيت والدته بعد ولادته
بأيام، وقبل أن يكمل عامه الأول توفي والده ليعيش اليتم في بيت خاله.
أصيب في مرحلة مبكرة من عمره بمرض
“البلهارسيا” حين كان يلعب مع أولاد عمه في ترعة (قناة ري) القرية، ومع
الوقت تطور المرض معه فأصيب بتليف الكبد، وكثيرا ما قال عن نفسه بسبب المرض
“أنا ابن القدر” بعد أن أجرى خلال حياته 16 عملية جراحية، و25 رحلة علاج
إلى الخارج من بينها بريطانيا وفرنسا وأمريكا منذ اكتشاف إصابته بالمرض أثناء
بطولته أول أفلامه “لحن الوفاء” مع شادية عام 1955.
بدأ حب “حليم” للموسيقى حين كان يتلقى تعليمه
في كتاب القرية، وبدأت محاولاته دخول مجال الغناء بعد أن أصبح رئيسا لفرقة
الأناشيد في مدرسته، فالتحق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين عام 1943.
وحين عرض عليه السفر في بعثة حكومية إلى الخارج فضل أن
يعمل مدرسا للموسيقى قبل أن يقدم استقالته من التدريس من أجل الالتحاق بفرقة
الإذاعة الموسيقية عازفا على آلة الأوبوا (آلة نفخ خشبية) عام 1950.
وسيلتقي عام 1951 مجدي العمروسي الذي سيكون له دور كبير
في مسيرة حليم ككاتب ومؤرخ لمسيرة “حليم” الفنية والشخصية، وفي تلك
الفترة سيلتقي أيضا بمكتشفه الإذاعي حافظ عبد الوهاب الذي سمح له باستخدام اسمه
“حافظ” بدلا من شبانة.
ووفقا لما نشر عن حياته فإن عبد الحليم أُجيز في الإذاعة
بعد أن قدم قصيدة “لقاء” كلمات صلاح عبد الصبور، ولحن الطويل عام 1951،
في حين ترى مصادر أخرى أن إجازته كانت في عام 1952 بعد أن قدم أغنية “يا حلو
يا أسمر” كلمات سمير محجوب، وألحان الموجي، وحين غنى “صافيني مرة”
ألحان الموجي عام 1952 لم يتقبل الجمهور الأغنية، ولم يكن الناس على استعداد لتلقي
هذا النوع الجديد من الغناء.
وحين أعاد غناء “صافيني مرة” في العام التالي،
يوم إعلان الجمهورية، حققت الأغنية نجاحا كبيرا وعرفت الجمهور بصوته بشكل جيد.
قدم “حليم” أكثر من 230 أغنية. وغنى بصوته فقط
في أفلام قليلة هي: “بعد الوداع”، و”بائعة الخبز”، و”أدهم
الشرقاوي”، كما قام ببطولة المسلسل الإذاعي الوحيد “أرجوك لا تفهمني
بسرعة” مع عادل إمام. شارك “حليم” في 16 فيلما كان آخرها “أبي
فوق الشجرة” مع نادية لطفي والذي أحدث ضجة كبيرة مع بدء عرضه في دور السينما
عام 1969 . وكان “حليم” يحضر لتقديم قصة “لا” للكاتب مصطفى
أمين على شاشة السينما ورشح نجلاء فتحي لبطولتها ولكن القدر لم يمهله.
نسجت حوله كثير من حكايات الحب والزواج، من بينها زواجه
من الفنانة سعاد حسني، وهو زواج يحمل أكثر من رواية غير مؤكدة، كما أن صديق حليم
المقرب الملحن الطويل نفى في أكثر من حوار صحفي أي علاقات حب أو زواج في حياة
“حليم”، وقال إنها كانت سطحية لم تأخذ من قلبه وعقله شيئا.
ونفى العمروسي زواج “حليم” من سعاد حسني، ونقل
عن “العندليب” قوله “إن المسألة مجرد صداقة لأنه يرتاح إلى بساطتها
ومرحها، ولم تتطور إلى زواج غير معلن بسبب مرضه وظروفه الصحية التي تمنعه من
الارتباط بزوجة”.
قدمت حياة “حليم” في أكثر من عمل فني من بينها
فيلم “حليم” عام 2006، إخراج شريف عرفه، وقام بتقديم شخصيته الفنان
الراحل أحمد زكي. كما قدمت شخصيته في مسلسل “العندليب” وقام بدور
“حليم” الفنان شادي شامل.
ورغم مرور نحو 44 عاما على رحيله فلا تزال أغنيات
“حليم” إلى جانب أم كلثوم، تتصدر قائمة الأكثر مبيعا من الفنانين
الراحلين في سوق الأشرطة الغنائية.
ولا يزال “العندليب” يشكل رمزا من رموز الحب
والرومانسية والوفاء في العالم العربي.
“حليم” جزء رئيسي من الذاكرة الفنية
والوطنية والعاطفية لثلاثة أجيال على الأقل في الحياة المصرية والعربية: جيل
الخمسينيات والستينيات وجزء كبير من السبعينيات، وربما سيبقى لسنوات طويلة رمزا
لزمن العواطف والمشاعر الملتهبة التي أسرتنا في أكثر من أغنية من بينها “في
يوم في شهر في سنة” التي كانت السبب وراء بقاء عرض فيلم “حكاية حب”
لأكثر من 25 أسبوعا متتاليا.