الملف من انجاز : حياة جبروني
بين اليأس والأمل، بين الانهزامية والانتصار، بين ضبابية المستقبل وتمني النفس بالتمني… تتأرجح فئة واسعة من الشباب المغربي لطالما اعتُبر قوة بشرية مهمة ورافعة تنموية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. والحال، أنهم يجدون صعوبة في الدخول إلى سوق الشغل المحصور إما في عمل غير رسمي لا يضمن الحياة الكريمة، أو عمل بعقود مؤقتة دون مزايا أو ضمانات ثابتة.
والحال كذلك، أن نسبة هائلة منهم لا يثقون في جدوى الانخراط في عملية التنمية سواء تعلق الأمر داخل مؤسسات الدولة أو هياكل المجتمع مما جعل علاقتهم بالمسؤولين متوترة وتفتقد للاحترام.
ومما يزيد في اتساع الهوة، خيبة الأمل التي ابتُلي بها الشارع المغربي الذي رفع بالأمس القريب شعار الربيع العربي حالما وحاملا رُؤى ومؤشرات هامة ترسخ الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية… ليستفيق من نومه الطويل وقد تبخرت أحلامه الربيعية وتحولت إلى ذكرى عَبَرت سريعا كما تَعْبر أحلام اليقظة.
ومن المؤسف جدا ، أن عدد المحبطين واليائسين على اختلاف توجهاتهم وثقافتهم ومشاربهم… لم يُعَبّروا عن فرحتهم بعيد رأس السنة ولم تظهر أي علامات الرضى والبشرى والتفاؤل…. بل تحولت انتظاراتهم للأيام المقبلة إلى ترقب وتوجس وخوف يعكر صفو حياتهم.
ودًّعوا سنة حزينة بكل مطباتها ومشاكلها وأزماتها، مرَّ خلالها المواطن المغربي بمحنة عصبية ونفسية دمرت إحساسه بالطمأنينة والأمان خصوصا في ظل تفشي الوباء الذي أرخى بظلاله الثقيلة على اقتصاد البلاد، فكان الركود والكساد والانسداد أسياد الموقف، فرضوا نمط عيش جديد يتلاءم مع سياسة التقشف والتعطيل، ليستقبلوا عاما جديدا وما هو بجديد، بل تحصيل حاصل وحصيلة وحَصَلٌ وختامها “حَصْلة” خاصة أولائك الذين لا يملكون غير الانتظار.
وبنظرة متفحصة، يتضح لنا حجم السوداوية التي تصبغ بعتمتها وجه مستقبلهم الذي بدت عليه تجاعيد الهم والغم والانهزامية، سلبته جماله وحيويته وتعرض لشيخوخة مبكرة قد تصل إلى حد متقدم من مرض الاكتئاب الذي وصفته منظمة الصحة العالمية ب”داء العصر”.
هذه الظروف والأزمات، كانت كفيلة لظهور ثقافة الأزمة وثقافة اللاأمل وثقافة الهجرة… ثقافات جديدة توازي الحالة الاجتماعية والنفسية لفئة من الشباب فضلوا ركوب أمواج البحر والارتماء في أحضان المجهول يتوقعون إحدى الأمْرين الأمَرَّين، إما الخلاص وإما الهلاك.
ولكن في المقابل إذا ما تناولنا الإشكالية من جانب آخر أكثر عقلانية وموضوعية وربطناها بقراءة متبصرة وثاقبة لما حدث ويحدث، قد يوحي لنا أن قساوة وشدة مرارة الواقع بكل تجلياته وسلبياته ومشاكله التي انزلق الشباب إليها خصوصا خلال الإقامة الجبرية للجائحة العالمية، هذه الفترة أو المرحلة العصيبة التي يمر بها المغرب قد تؤدي إلى ظهور شباب واعد وناهض ومثقف، مكتمل النضج نراهن عليهم حتى في عز الأزمة وعز الخيبة التي مُنيَ بها الشعب المغربي في النخب والشخصيات السياسية التي كنا نعول عليهم.
فالأزمات قد تصنع جيل قادر على مواجهة التحديات والرهانات وتحولها إلى فرص لصناعة المستقبل وامتلاك أدواته.
بالنسبة لي يُعد هذا الملف مادة مستفزة للعمل الصحفي، لتعقيد وحساسية الظرفية التي نعيشها في ظل حكومة جديدة وانتظارات وامال معلقة عليه خصوصا الشباب المغربي القادر رغم علاته وانكساراته أحيانا على “العقاب والتغيير”..
أجريت الحوار مع خيرة أساتذة باحثين مع كل من الدكتورة صفاء قدوري أستاذة علم الاجتماع و الدكتور فؤاد عفاني أستاذ باحث وناقد والدكتور محمد حماس باحث في التاريخ والتراث، كاتب وقاص ..
إليكم نص الحوارات.
د/صفاء قدوري
أستاذة علم الاجتماع بكلية الاداب سايس-فاس
فاس/ المملكة المغربية
س.. أي مستقبل ينتظر شباب ما بعد 2022 في ظل استمرار التخبطات السياسية والاقتصادية والصحية؟
ج.. في الحقيقة تفيد مجموعة من التقارير سواء المحلية (المندوبية السامية للتخطيط) أو الدولية (البنك الدولي) أن المغرب قد حقق في السنوات العشر الأخيرة تقدما ملموسا إن على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي أو السياسي، ففي ظل سياسة النهوض بالاقتصاد الوطني حقق المغرب تطورا في الناتج الداخلي الإجمالي سنة 2021 وصل إلى 5.8 %. أما على المستوى الاجتماعي فقد تحسن مستوى معيشة الساكنة، وتراجعت معدلات الفقر. لكن وبالرغم مما عرفه الوضع السياسي بدوره من تحولات هامة منذ سنة 2011 ساهمت في تعزيز السلم والاستقرار الاجتماعيين، فإن مجمل هذه التطورات (الاقتصادية؛ الاجتماعية؛ السياسية)، قد حملت بين طياتها عوامل اختلالها، ذلك أنها لم تساهم في تمكين الشاب المغربي لتجاوز الإكراهات التي ترتبط بتدبير احتياجاته اليومية سواء على مستوى التعليم أو الصحة أو التشغيل…، فهي بذلك تطورات غير شاملة تساهم في تعميق الفجوة بين الفئات الاجتماعية وتعزيز التفاوتات المجالية، مما تسبب في تعطيل تحقيق العدالة الاجتماعية. إن هذه التطورات لم تحدث تطورا في وضعية الشباب، إذ ظلت المؤشرات المتعلقة بالشباب المغربي بعيدة عن أي تصور يروم إدماج هذه الفئة التي تعرضت لسنوات متواصلة للإقصاء. وزادت الوضعية تأزما في سياق الظروف الصحية المتعلقة بانتشار وباء كوفيد -19، لما نتج عنه من تأثر للتجارة العالمية وتقلب في الأسواق هدد اقتصاديات الدول ووضعياتها الاجتماعية مما ساهم في زعزعة استقرار الأفراد.
وبالنظر مثلا لمشكلة بطالة الشباب يمكن القول استنادا لوضعية سوق الشغل التي تميزت بارتفاع البطالة في الفصل الأول من سنة 2021 وعدم النشاط خصوصا في صفوف الشباب، أن الشباب هم أكثر الفئات تضررا بالأزمة الصحية باعتبارهم الأكثر حاجة للاستفادة من فرص تحقيق الذات الذي يرتبط ارتباطا قويا بخلق الحكومة لفرص الشغل المؤهلة لتحقيق استقلالهم الاقتصادي. من هذا المنطلق، وفي ظل ضبابية موقع الشباب في برامج الحكومة الحالية واستمرار آمال الشباب المغربي للتطلع إلى مستقبل أكثر تفهما لحاجياتهم المتنوعة والمتعددة، تبدو الحاجة ملحة للتعجيل بتبني قيم استراتيجية كفيلة بخلق برامج حكومية جريئة ومبدعة موجهة للشباب تساير التقلبات الاقتصادية الظرفية، ذلك أن مستقبل الشباب سيبقى مقلقا ما بعد 2022، إذا لم تقم الحكومة باستدراك ما أهدر من زمن، والعمل على تعديل الاستراتيجية المندمجة التي كانت قد أعلنت عنها وزارة الشباب والرياضة، بما يراعي تجدد الحاجات الشبابية وفق الديناميات المجتمعية الجديدة، وبما يسمح بتحديد مسؤوليات جميع الشركاء المعنيين بقضية الشباب، لتهم جميع المجالات التعليمية والصحية والعملية والعلمية والترفيهية… على قدر من المساواة بين المجالات القروية والحضرية وبين الشباب المتعلم وغير المتعلم وبين الانتماءات الطبقية والثقافية المتنوعة.
س.. كيف يمكن علاج الخوف من القادم أو تغيير الأفكار السلبية التي تسيطر على معظم الشباب وتشل حركته؟
ج.. في الواقع لا نستطيع أن نقر بسيطرة الأفكار السلبية عند معظم الشباب إلا من خلال معطيات ميدانية تقدمها لنا التحقيقات السوسيولوجية، لكن هذا لا يمنعنا من القول أن هناك انتشار لبعض الأفكار التشاؤمية بخصوص مستقبل الشباب سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو على مستوى التعبيرات الشبابية الاحتجاجية. فنتيجة لمحدودية التدابير التي تحاول الحكومة اتخاذها، من أجل طمر ملامح الفقر والإقصاء وتغييب مظاهر الغبن التي تسم الواقع السوسيو-اقتصادي للشباب، وأمام تعثر الشباب في مسارات الدراسة أو البحث عن عمل وتعدد طبيعة العوائق التي تقاوم تنفيذ خطط مشاريعهم الشخصية أو المهنية، يسيطر عليهم الشعور بخيبة الأمل. ولعل هذا ما تمت ملاحظته في الاحتجاجات الأخيرة المتعلقة بتحديد سن المترشحين لمباريات التعليم التي أوضحت عمق الصعوبات التي تواجه الشباب ولعل أهمها ما يتصل بالفجوة الحاصلة بين واقع الشباب والقرارات الحكومية. وتمكننا هذه المعطيات من القول بوجود أزمة تواصل وحوار بين الحكومة والشباب. في ظل هذا الواقع تظل الحاجة لتوجيه نظر الشباب للمستقبل بعين للتفاؤل ملحة، ذلك أن إشاعة الأفكار الإيجابية ونماذج قصص الشباب المغربي الناجح الذي تحدى كل الظروف وحقق إنجازات خلاقة في عدة مجالات، تشكل حافزا للشباب من أجل العمل الجاد للمساهمة في التغيير بكل وعي وجدية والتزام.
س.. هل الحالات النفسية والعصبية التي طبعت فئة من الشباب هي نتيجة حتمية لتربية خاطئة؟
ج.. تعد الأسرة مفتاح التحليل السوسيولوجي للمجتمع المغربي عامة، وللمسألة الشبابية على وجه الخصوص، وذلك باعتبارها المسؤولة عن إنتاج العلاقات التي تقوم بوظيفة الحفاظ على استمرارية المجتمع، وأولى الوسائط التي تعتمدها التنشئة الاجتماعية من أجل إكساب الشباب وعيا كافيا يساعدهم على ضبط انفعالاتهم وتعديل سلوكاتهم والحفاظ على توازنهم النفسي والتهييئ للتعامل مع ضغوطات الحياة، من خلال تعلم كيفيات تحرير الإحباطات والسيطرة على التوتر النفسي واستبداد الأفكار السلبية التي من الممكن أن يطورها الشباب إما عن ذواتهم أو عن ظروفهم. حيث أن أي انزياح للبيئة الأسرية عن الأسس التربوية السليمة التي تقوم على مبادئ بناء التفاهم الأسري وعلى الحوار والتعاطف… من شأنه أن يبصم نفسية الشباب مخلفا اضطرابات نفسية وسلوكية لديهم. لكن إلى أي حد يمكن اعتبار حالات الاضطراب النفسية للشباب نتيجة حتمية للتربية الوالدية التي لا تراعي الأسس السليمة؟ في الحقيقة يمكن اعتبار هذا التفسير صالحا في المجتمعات التقليدية التي ترتكز أساسا حول الأسرة كمؤسسة اجتماعية محورية لإعداد وتأهيل الشباب، وإدماجهم في النسق المجتمعي العام عبر نقل المعايير والضوابط الاجتماعية. أما في المجتمعات الحديثة، حيث تتعقد البنيات فإن وسائط متعددة أخرى وفاعلون جدد أصبحوا يصاحبون الشباب خلال مراحل نموهم للمساهمة في إغناء عملية التنشئة الاجتماعية الأسرية، ومن بينها وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الرقمي. استنادا لذلك؛ فإن مصادر توثر الشباب تصبح أكثر تنوعا، وحيث أن للمجال الرقمي مثلا القدرة على أن ينقل الشباب إلى عوالم أخرى تثير اهتمامهم بما يتيحه من فرصة للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم، ونقل الأفراح والمآسي عبر فضاءات التواصل “الاجتماعي”، وعرض الملابس والأنشطة والتنقلات وأماكن قضاء العطل وما يتم تناوله من أطعمة، …، وما ينتج عن ذلك من جبرية حضور الشباب المتواصل في هذه الفضاءات، فمن شأن ذلك أن يولد مشاعر الحزن والحقد في نفوس كل من لم تسعفه إمكانياته المادية أو ظروفه الصحية القيام بمثل هذه الأشياء. انطلاقا من ذلك يصبح للتواصل “الاجتماعي” دورا في حالات اضطراب الشباب.
س.. بعيدا عن تفاصيل المشاكل التي يتخبط فيها شباب اليوم، ألا ترون معي أن المشكلة الأساس تكمن في طبيعة علاقة سطحية وعقلية بالية لاتزال تهمش الشباب ولا تولي اهتماما خاصا لانفعالاتهم وقلقهم… بغض النظر عن طبيعتها بدءا بالأسرة وانتهاء بالمجتمع؟
ج.. تبذل الأسرة جهودا عديدة من أجل إدماج الأبناء في النسيج الاجتماعي، حيث تهتم من خلال عملية التربية بتنمية الروح الاجتماعية لدى الشباب، من خلال تعزيز إدراكهم لشؤون مجتمعهم ومشاكله وظروفه، من أجل تهيئتهم لتحقيق مشاريعهم الشخصية وتقوية روح المسؤولية تجاه وطنهم. لكن في ظل ما تعرفه الأسرة المغربية اليوم من تحولات عميقة ومتسارعة نتيجة التحضر والتصنيع…؛ تعكس إلى حد كبير ما يطرأ من تحولات على المستوى الكلي… تراجعت قدرتها على تلبية احتياجات الشباب وإمكانياتها من أجل العطاء الكافي المادي والمعنوي، وفي بعض الأحيان تتخذ علاقتها بالشباب أبعادا سلبية. حيث تنمو جذور تهميش واستبعاد الشباب في مجالات العمل والمشاركة المجتمعية في البيئة الأسرية… ومن بين العوامل التي تعزز ظواهر تهميش الشباب طول فترة البطالة التي تهدد حاضر ومستقبل الشباب وتزيد من اعتمادهم على أسرهم، وما يرتبط بها من تحديات اقتصادية، كما يواجه الشباب في حياتهم الأسرية ضبطا لحرياتهم في اتخاذ قرارات تتعلق بمستقبلهم. وأمام هذا التهميش غالبا ما تكون ردة فعل الشباب إما التمرد أو الانسحاب. إن محاربة التهميش والهشاشة السوسيو اقتصادية التي يعيشها الشباب لن يتأتى إلا إذا تلقى كل واحد منهم تعليما جيد النوعية يعده للحياة ويشجعه على التفكير النقدي وينمي مهارات سلوكية واجتماعية وعاطفية التي تمكنه من العيش السليم والتعايش السلمي.
س.. أليس من أولويات الدولة الاهتمام بسلامة وصحة الشباب، الرافعة الأساسية للمملكة والبحث عن سبل حقيقية لانتشالهم من الضعف والغبن والضياع كتخصيص مثلا دراسة مركزة وحقيقية لنظرة الجيل الشاب إلى هذا المستقبل بهدف البحث عن المتغير؟
ج.. تؤثر صحة الشباب الجسدية والنفسية على العلاقات الإنسانية وتوافقها، ولعل ما ولده وباء كرونا 19 من ضغوطات نفسية لدى العديد من الشباب قد نبه إلى ضرورة إيلاء الأهمية القصوى للأمراض الجسدية كما الاضطرابات والأمراض النفسية وتوعية الشباب بها لتعزيز استجابتهم الفعالة في حال حدوثها. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى ضرورة إسراع الحكومة المغربية من أجل تعزيز الصحة النفسية في السياسات والبرامج من خلال تنزيل برامج التربية عبر الكفايات نفس-اجتماعية على المستوى الوطني والحرص على استفادة جميع الشباب منها.
ومن بين القضايا الكبرى التي تهدد السلامة الجسدية والنفسية للشباب، والتي تساهم في هدر ثروة الشباب قضية المخدرات، حيث يعد تعاطي المخدرات من قبل الأوساط الشبابية من أكبر المعضلات الاجتماعية لكون الأمر يتعلق بالفئات الحيوية التي يعول عليها في تحقيق الازدهار المجتمعي. وبالنظر لما ينتج عن المخدرات من مخاطر نجدها تهدد منظومة القيم والضوابط الأخلاقية للسلوك الاجتماعي، فضلا عما تخلفه من خسائر بشرية ومالية تتمثل في مبالغ الاعتمادات المالية المرصودة للتصدي لها، ناهيك عن كون الأعراض المرضية التي تنتجها حالة تعاطي المخدرات والمتمثلة في تحريف وخلخلة عملية الإدراك، تشكل حاجزا يعيق توافق الشباب مع الأوضاع الاجتماعية وفي هذه الحالة فإن الشاب يصبح معزولا عن المجتمع. من هذا المنطلق نشير للعلاقة الوطيدة التي تربط الصحة النفسية والجسدية للشباب بظروف عيشهم واستبعادهم الاجتماعي وتهميشهم.
أما بخصوص مقترح الدراسة المتعلقة بنظرة الشباب إلى المستقبل، فأنا أتفق تماما بخصوص ضروريتها، من منطلق أهمية الدراسات الميدانية في فهم تغير تصورات الشباب بخصوص المستقبل بين الأمس واليوم. إن إجراء البحوث والدراسات المختلفة للظواهر الاجتماعية والمشكلات الشبابية والاستعانة بنتائجها في وضع البرامج المناسبة لاحتياجات الشباب واقتراح أساليب تطوير ورفع مستوى الخدمات التي تقدم لهم يبقى مطلبا ملحا يجد مشروعيته في سياق الصعوبات التي تواجه ولوج الشباب للخدمات الصحية.
س.. ألا يعد تعاظم حالات الهجرة واحدة من ردود الفعل الانتحارية لدى فئة من الشباب بعد أن تسربت إليهم مظاهر اليأس القاتلة في غياب تام لأي حلول أو بدائل عملية وواقعية بعيدا عن الوعود المقطوعة وتسويق الوهم؟
ج.. يزداد وعي الشباب بمشاكلهم في ظل الانفتاح على المجتمعات الأخرى من خلال نافذة شبكات التواصل الاجتماعي التي تمكنهم من التواصل مع شباب العالم على اختلاف مستويات اندماجهم وتحقيقهم لذواتهم، مما يخلق حالة وعي بالهوة الحاصلة في شروط الحياة بين الدول النامية والدول المتقدمة في بعض الحالات، وبين الدول النامية فيما بينها في حالات كثيرة. في هذا السياق يحاول الشباب اتخاذ قرار الهجرة التي تكون في حالات كثير ة لا نظامية.
يمكننا في هذا الإطار العودة لأحداث الهجرة غير النظامية الجماعية التي أقدم عليها عدد كبير من الشباب المغاربة مؤخرا، من خلال محاولة اقتحام المعابر الحدودية لسبتة، حيث نقلت وسائل الإعلام حالة اليأس والإحباط التي يعيشها هؤلاء الشباب نتيجة معاناتهم من مشكلات اجتماعية ترتبط أساسا بالبطالة واعتلال نظام الحماية الاجتماعية وقلة الخدمات الاجتماعية الأساسية. حيث شكل العامل الاقتصادي أهم دوافع الشباب استغلال فترة تخفيف مراقبة الحدود والمخاطرة بأرواحهم للوصول للضفة الأخرى.
وفي الحقيقة يتعرض المهاجرون لأنواع عدة من المخاطر تترابط فيما بينها، فبالإضافة إلى ما يهدد سلامتهم البدنية خلال عبور المناطق الحدودية من سرقة أو اعتداء، يختبرون مجموعة من الصدمات النفسية التي تهدد سلامة صحتهم النفسية، فضلا عما يتعرض له المهاجرون من جوع وعطش وبرد وإرهاق يهدد صحتهم الجسدية، وهذا ما يكسب للهجرة غير النظامية خاصية المخاطرة. إن في خصائص المخاطرة والمغامرة هته ما يوحي بمقاومة المهاجرين لأشكال الضبط الاجتماعي من جهة، وما يحيل على ضعف القدرة على التنبؤ بالمستقبل الشخصي وضبط متغيراته، وهو سلوك يستمد مشروعيته من الإطار العام لمفهوم المخاطرة الذي أصبح جزءا مميزا لمظاهر متعددة للحياة اليومية.
إن كل ممارسة شبابية هي تعبير عن المكانة الاجتماعية التي يعترف بها للشاب داخل مجتمعه، ذلك أن إقدام الشباب على تعريض أنفسهم لمخاطر متنوعة تهدد حياتهم هو دليل على محاولة الهروب من واقع اجتماعي معتل من جهة، وعلى رغبتهم الملحة في التخلص من قيود الفقر والهشاشة من جهة أخرى.
س.. وتبقى المسألة الأكثر تعقيدا، هي عزوف الشباب عن المشاركة في جميع مناحي الحياة أهمها المشاركة السياسية، طبعا دون احتساب المتحزبين منهم والذين يسعون إلى إيجاد موطئ قدم في الخريطة السياسية. أليس هذا العزوف وهذا الغياب مقصود كاحتجاج سلمي على شيخوخة المشهد السياسي الذي طالما حاول حرمان الشباب من حقهم في تحمل المسؤولية؟
ج.. شكّلت مشاركة الشباب المغربي في الشأن العمومي، ومنذ عقود، إشكالا سوسيولوجيا حقيقيّا حيث تتأرجح الآراء التفسيرية لحالة العزوف الشبابي عن هذه المشاركة، بين من يرجع ذلك بالأساس إلى انعدام الثقة في التنظيمات الجمعوية والنقابية والمؤسسات الحزبية، وعدم الرضى عن آدائها ومقاومة قادة هذه التنظيمات للكفاءات الشابة؛ وتشبتهم بمواقع تسييرها، بينما يرجع آخرون سبب هذا العزوف لحالة الإحباط التي يعيشها الشباب نتيجة فشل النسق الاجتماعي والسياسي المغربي في استيعاب مطالب الشباب وتمكينهم من تحقيق انتظاراتهم. والحقيقة أن إثارة إشكالية مشاركة الشباب في الشأن السياسي هي فرصة لمساءلة مختلف المؤسسات السياسية وفعاليات المجتمع المدني عن أدوارها في تأطير الشباب وتوعيتهم بأهمية الانخراط في العمل السياسي من جهة وعن النموذج الذي تقدمه الأحزاب عن أخلاقيات الممارسة السياسية.
إن غياب الشباب بالشكل المطلوب عن المشهد السياسي لا يبرهن على رفض الشباب للسياسة بشكل عام، حيث أظهر الشباب المغربي نضجا سياسيا من خلال مشاركته في خلق نقاشات جادة حول الوضعية السياسية وعن تعبيره عن الرغبة في الترشح للانتخابات…، لكن نظرة الشباب للمجال السياسي تتأثر بالممارسة الجارية في الواقع السياسي المحلي، فغالبا ما يعبر الشباب عن رفضهم لبعض المنتخبين الذين لا يتوفرون على الكفاءة اللازمة ولا الحد الأدنى من التعليم.
يتعين على القيادات السياسية العمل بكل مسؤولية لإشراك الشباب في العمليات السياسية الرسمية لصناعة القرارات السياسية وتمكينهم من حقهم في المساهمة في تحمل مسؤولية القرار السياسي، وكذا الوعي بكون مقاومتهم لذلك ستؤدي لا محالة إلى تعزيز مشاعر السخط والاحتقان التي من شأنها أن تؤثر على عمليات إرساء الديموقراطية.
س.. رسالة إلى الشباب المغربي؟
ج.. بالرغم من كل التحديات يتعين على الشباب أن يبقى حاملا لمشعل الاجتهاد والكد، الذي يستمد نوره من التكوين الرصين والعمل الدؤوب، على أمل أن تشرق شمس على مغرب تكافؤ فرص الاندماج والنجاح بين الشباب. حتى يكون المغرب جديرا بشبابه المبدع الخلاق.
د. فؤاد عفاني
أستاذ باحث وناقد
وجدة/المملكة المغربية
س.. أي مسقبل
ينتظر شباب ما بعد 2022 في ظل استمرار التخبطات السياسية والاقتصادية والصحية؟
ج.. بداية، يسرني أن أتوجه بالشكر الجزيل لجريدتكم التي أتاحت لي الفرصة لأعرض عبر منبرها العزيز وجهة نظري في إحدى القضايا الجوهرية لمجتمعنا المغربي. وأستغل هذه المناسبة أيضا، لتهنئة طاقم المنبر وقراءها بالسنة الميلادية الجديدة التي نأمل أن يهلها الله علينا بالأمن والأمان والسلامة.
فيما يتعلق بسؤالكم؛ لا أحب أن أكون ممن يزرعون التشاؤم في النفوس، فأنا أومن بأن المستقبل معطى ولا يمكن دائما توقع مفاجآته، فنحن – على رأي بريغوجين (Prigogine)- لا نستطيع التكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع صناعته. لهذا فاستمرار التخبطات السياسية والاقتصادية والصحية مهما خدم مصالح جهات معينة فقد يكون بارقة أمل لتغيير قادم.. إن واقعنا لم يعد بسيطا وبطيء الحركة.. إنه واقع دائم التحول، وشديد الدينامية والارتباط بالتقلبات المحلية والإقليمية والعالمية.. قد لا نتوقع الكثير من سنة 2022 ولكن الأكيد هو أننا سنراكم من خلالها إما نتائج إيجابية تعبّد الطريق نحو مزيد من الديموقراطية، أو نتائج سلبية ستزيد من منسوب الوعي ودرجة الاحتقان في المجتمع، وبالتالي تحفيز الفئات المتضررة على البحث عن طرق ملائمة لإيصال أصواتها.
س.. هل الحالات النفسية والعصبية التي طبعت فئة من الشباب هي نتيجة حتمية لتربية خاطئة؟
ج.. لِمَ لا نطرح السؤل من منظور آخر فنقول: كيف يتربي أبناؤنا؟
في زمن سابق، كانت تربية الأبناء بأيدي الآباء والأمهات وإن اتسعت الدائرةُ تضم بقية أفراد الأسرة والعائلة، وبالتالي كانت التربية تتم وفق منظومة أخلاقية تؤطرها عادات وتقاليد وقيم مجتمعية يُعدّ الخروج عنها خروجا عن النسق الاجتماعي الكلي. أما اليوم، فقد تعدد المتدخلون في فعل التربية، وقد لا نجازف إن قلنا أن دور الآباء أصبح هو الأضعف في كثير من الأسر؛ فالشارع يربي، والتلفاز يربي، ومواقع التواصل تربي… تيارات جارفة محملة بأنواع شتى من الثقافات والقيم يتعذر علينا التحكم فيها، مما يجعل الأبناء في أغلب الأحيان في مواجهة مباشرة مع عالم غريب.. وكلما اتسعت دائرة الاختلاف والتباين بين واقع الأبناء وبين العالم الوافد/ الجديد طفت على السطح تجليات سلوكية ونفسية لا عهد للآباء بها.. إن عالم التربية يحتاج منا إلى إعادة النظر في كنهه والانتباه إلى متغيراته، كما ينبغي على جميع الشركاء المعنيين أن يتحملوا مسؤوليتهم في العمل التربوي؛ بدءا من تأهيل الأسرة، مرورا إلى إعادة الاعتبار للمؤسسات التعليمية، وصولا إلى التحكم في طبيعة البرامج والمواد التي يتلقها أبناؤنا عبر وسائل الإعلام..
ويكفينا التأمل في معطيات مرتبطة بمحيط أبنائنا لنتوقع حالهم:
– فقد ارتفعت حالات الطلاق بالمغرب بشكل مقلق، اذ انتقل العدد من25852 في 2018، إلى 55470 حالة في 2019. وتشير المعطيات أن حوالي 78٪ من الحالات هي عبارة عن طلاق رضائي.
– الانخفاض الطفيف لمؤشرات الانقطاع الدراسي، إذ انتقلت نسبة الهدر المدرسي في الأقسام الابتدائية، من 2.7% بين 2018-2019، إلى 2.1% سنة 2021.
– تزايد عدد الأطفال المهملين، إذ بلغ عددهم سنة 2019 ما مجموعه 2449 طفلا، مقارنة بسنة 2018 إذ سُجّل 2009 طفلا. وتتوقع إحدى الجمعيات أن يصل عدد الأطفال المُتخلّى عنهم في أفق سنة 2030 إلى 86 ألفا و400 طفل..
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.. لهذا فإن تربية الأطفال لم تعد رهينة فقط بالأسرة بمفهومها التقليدي الضيق، إنما ينبغي تكاتف جهود كل المعنيين بمستقبل أبنائنا. ونلاحظ كيف أن الدول المتقدمة قد طورت منظوماتها التربوية بالاعتماد على كفاءات متخصصة في التأهيل النفسي والسلوكي والاجتماعي.
س.. كيف يمكن علاج الخوف من القادم أو تغيير الأفكار السلبية التي تسيطر على معظم الشباب وتشل حركته؟
ج.. إن التساؤل عن طبيعة وأسباب الخوف الذي يشل حركية شبابنا يتسم بطابع إشكالي؛ وذلك لأن الخوف لم يعد سلوكا ذاتيا منعزلا، بل إن كثيرا منه هو خوف مصنوع تتفنن في تمريره قوى تحب أن تظل ممسكة بخيوط اللعبة، وقد أثبتت الدراسات عن العلاقة الوثيقة بين القلق الاجتماعي والخضوع للسلطة، إذ كلما كثرت التهديدات والخوف هيمن الحكم الأوتوقراطي… وفي أي مجال من مجالات الحياة نحتاج إلى جرعات زائدة من الجرأة.. وشبابنا يحتاج إلى تأطير وتوجيه وكثير الثقة.. عليه أن يمتلك روح المواجهة ليتحدى أشكال الخوف سواء كان خوفا ناجما عن عوامل خارجية أو كان خوفا ذاتيا، وهنا تأتي وظيفة المجتمع المدني ليتولى عملية الإدماج وجعل الشباب أكثر فاعلية.
إن منح الشباب فرصة العمل السياسي وفرصة القيادة يساهم في بناء فئة اجتماعية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، وقد أثبتت وقائع الحياة أن التغييرات الجذرية قادها الشباب لأنهم أكثر وعيا بهموم المجتمع، خصوصا ونحن نعيش نوعا من الانفصام بين صناعة القرار السياسي وحال الواقع الاجتماعي.
س.. بعيدا عن تفاصيل المشاكل التي يتخبط فيها شباب اليوم، ألا ترون معي أن المشكلة الأساس تكمن في طبيعة علاقة سطحية وعقلية بالية لاتزال تهمش الشباب ولا تولي اهتماما خاصا لانفعالاتهم وقلقهم… بغض النظر عن طبيعتها بدءا بالأسرة وانتهاء بالمجتمع؟
ج.. إن مشكل الشباب ينبغي أن ينظر إليه بشكل بنيوي، فقد ارتبط بمجموعة من المتغيرات التي طرأت على المجتمع المغربي، إن درجة الوعي السياسي والاجتماعي الذي تقدمه المؤسسات التعليمية صار ضئيلا جدا مقارنة بمراحل زمنية سابقة. إن أغلب شباب اليوم أصبح يعاني من استفحال ظاهرة البطالة، كما أن نسق الحياة المعاصرة أصبح يستهلك طاقة الشباب، فصار أكبر همنا الحصول على شقة وسيارة وضمان العيش اليومي.. وزيادة على كل هذا لا يمكن أن نلغي السبب الذي أشرتم إليه؛ فالعقليات المتحجرة مازالت تهمش الشباب وغير قادرة على تفهم انشغالات وطموحات هذه الفئة، خصوصا حينما نجد شبابا يفكر بشكل مختلف ويؤمن بضرورة التغيير.. فالفرص غالبا ما تُتاح أمام الذين لا يشوشون عن النسق السائد ويدورون في فلكهم.. إن تتبع معدل أعمار القادة السياسيين في بلادنا يبين لنا مدى ضعف الفرص التي تتاح للشباب، في المقابل أن الشباب يجدون في القطاع الخاص فرصا أكبر لإثبات مؤهلاتهم، لأن القطاع الخاص يؤمن بالمردودية والإنتاجية ولا يقدس مبدأ الأقدمية في المنصب,
س.. أليس من أولويات الدولة الاهتمام بسلامة وصحة الشباب، الرافعة الأساسية للمملكة والبحث عن سبل حقيقية لانتشالهم من الضعف والغبن والضياع كتخصيص مثلا دراسة مركزة وحقيقية لنظرة الجيل الشاب إلى هذا المستقبل بهدف البحث عن المتغير؟
ج.. لا يمكن إنكار مسؤولية الدولة في هذا السياق، كما لا يمكن أن ننفي أيضا المجهودات التي تمت مراكمتها، خصوصا على مستوى مؤسسات التعليم العالي، سواء تعلق الأمر بالجانب الصحي أو بنوعية العرض التربوي، وإن كان ذلك لا يرقى لا إلى مستوى تطلعات شبابنا، ولا إلى مستوى ما تم تحقيقه في الدول المتقدمة.. إن الأمور تقاس بخواتيمها، وجامعاتنا مازالت تفرخ أفواجا من العاطلين وهذا يكشف عن التباين بين طبيعة التكوين ومتطلبات سوق الشغل، وكثير من الشعب تخرج سنويا عددا كبيرا من الطلبة يفوق حاجة المجتمع.. ولهذا نلاحظ أن معدل البطالة يظل مرتفعاً لدى الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و24 سنة إذ يشكلون نسبة 31٪، بينما تبلغ نسبة الأشخاص العاطلين الحاصلين على شهادة 18.7٪.
إننا، فعلا نحتاج إلى استراتيجية حقيقة تروم النهوض بواقع الشباب، وهذا لن يتم إلا بإشراك الشباب في التدبير والتسيير، لأنهم الأدرى باحتياجاتهم الآنية والمستقبلية.
س.. ألا يعد تعاظم حالات الهجرة واحدة من ردود الفعل الانتحارية لدى فئة من الشباب بعد أن تسربت إليهم مظاهر اليأس القاتلة في غياب تام لأي حلول أو بدائل عملية وواقعية بعيدا عن الوعود المقطوعة وتسويق الوهم؟
ج.. قال أحد بلغاء العرب القدامى: الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله، كما أن أطيبَ الثمار بواكيرها، وما بكت العربُ على شيء كما بكت على الشباب، وما بكى الشعراءُ من شيء كما بكوا من المشيب”. إن اكتمال الطاقة البشرية وتوهجها يكون في فترة الشباب، لذلك لا أظن أن هناك وضعا مأساويا أكثر من حالة شاب يضع حياته في مركب مطاطي ملقى في غياهب البحر والأمواج تتقاذفه.. حالة يكون احتمال الموت فيها أكثر من احتمال العيش. إن الهجرة السرية تعبير صارخ عن فقدان الأمل واليأس. ومن العبث أن نظل مكتوفي الأيدي حيال ظاهرة خطيرة كهاته.. الشباب رأس مال لا يقدر بثمن، وتكوينه وتعليمه يكلف خزينة الدولة مبالغ مهمة فلماذا يتم التفريط فيه بكل هذه السهولة؟
الجميع يعرف أسباب الظاهرة وحيثياتها، والحل الأمثل لمعالجتها ليس هو المقاربة الأمنية، بل توفير احتياجات الشباب الأساسية كالصحة والتعليم والعمل.
س.. وتبقى المسألة الأكثر تعقيدا، هي عزوف الشباب عن المشاركة في جميع مناحي الحياة أهمها المشاركة السياسية، طبعا دون احتساب المتحزبين منهم والذين يسعون إلى إيجاد موطئ قدم في الخريطة السياسية. أليس هذا العزوف وهذا الغياب المقصود كاحتجاج سلمي على شيخوخة المشهد السياسي الذي طالما حاول حرمان الشباب من حقهم في تحمل المسؤولية؟
ج.. الواقع السياسي هو صورة مختزلة تلخص حالة الشباب المغربي، فتمثيلية الشباب في المشهد السياسي ضعيفة جدا. كشف بحث للمندوبية السامية للتخطيط أن 1% فقط من الشباب المغربي منخرطون في حزب سياسي، ولا تتعدى نسبة المشاركين منهم في اللقاءات التي تنظمها الأحزاب السياسية أو النقابات 4%. وهنا يمكن أن نتحدث عن الغياب والتغييب، لأن من ينظر بتمعن في واقعنا يرى أن فئة من الشباب اختارت الانزواء ولم يسبق لها أن حاولت خوض غمار العمل السياسي، أما الفئة التي طالها التغييب فهي التي حاولت ممارسة العمل السياسي ولكن جوبهت بمقاومة الزعامات التقليدية. وبسبب حداثة التجربة وقلة الحنكة السياسة انزوت هذه الفئة وتراجعت إلى الخلف.. لكن في هذا السياق أود الإشارة إلى نقطة قد تكون ذات أهمية، وهي أن تحولا كبيرا قد طرأ على قنوات التعبير عن الآراء والمواقف، فلم تعد ممثلة في الأحزاب والقنوات السياسية التقليدية، بل استحدث شبابنا فضاءاتهم الخاصة وشكلت مواقع التواصل الاجتماعي آلية مهمة لتشكيل وعي الشباب من جهة وللتعبير عن المواقف من جهة ثانية.. ونؤكد هنا بأن جل الحركات الاحتجاجية الحديثة خرجت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي.. لهذا أكرر ما قلته مسبقا وهو أنه لا يمكننا أن نتكهن بما سيقع في المستقبل.. وأنه لا ينبغي أن نتغاضى عن حضور الشباب في مجتمعنا، قد يكونون في حالة يمكن أن نسميها حالة صمت أو انزواء أو تهميش ولكن الأمر المؤكد أنها ليس حالة موت.
س.. رسالة إلى الشباب المغربي؟
ج.. ختاما، لن أجد نصيحة لشبابنا خير مما قاله شاعر النيل حافظ إبرهيم مخاطبا شباب الأمة:
رِجالَ الغَدِ المــَأمولِ إِنّا بِحــاجَةٍ .. .. إِلَيكُم فَسُدّوا النَقصَ فينا وَشَمِّروا
رِجالَ الغَدِ المــَأمولِ إِنَّ بِلادَكُـم .. .. تُناشـدُكُم بِاللَهِ أَن تَتـَذَكّـروا
عَلَيــكُم حُــقوقٌ لِلـــبِلادِ أَجَلّـــُها .. .. تَعَهُّدُ رَوضِ العِـلمِ فَالرَوضُ مُقفِرُ
قُصارى مُنى أَوطانِكُم أَن تَرى لَكُم .. .. يَداً تَبتَنــي مَجـــداً وَرَأسـاً يُفَـِّرُ
فَكــونوا رِجــالاً عامــِلينَ أَعِزَّةً .. .. وَصونوا حِمى أَوطانِكُم وَتَحَرَّروا
إن الشباب هم أمل هذه الأمة، ورغم العرقيل التي تعترض سبلهم، إلا أن لهم من الإمكانيات ما لم يتوفر للأجيال السابقة، فقط هم بحاجة إلى بعض الثقة في قدراتهم، وإلى تحليهم بالجرأة لكسر قيود الجمود والتهميش، وإلى من يشد بعضدهم ويوجههم
د. محمد حماس
باحث في التاريخ والتراث،
كاتب وقاص .. وجدة/ المملكة المغربية
-أي مستقبل ينتظر شباب ما بعد 2022 في ظل استمرار التخبطات السياسية والاقتصادية والصحية؟
لا أعتقد أن الآفاق واضحة بالنسبة للمجتمع ككل، خاصة فئة الشباب الذين هم عمد هذا المستقبل. لأن الشباب المغربي الآن له مؤهلات علمية، وشواهد أكاديمية تخول له ولوج سوق الشغل، لكنه يصطدم بسياسات التهميش واللامبلاة من طرف الجهات التي أوكل إليها تدبير الشأن العام، جهويا أو وطنيا، وبالتالي تفاقمت ازمة العطالة، وتنامى الشعور بانعدام الثقة بين أطراف المجتمع، وخاصة الشباب الذي يتقدم به العمر دون أن تتضح لديه الرؤية … لا يمكن إقناع شابة أو شاب جاوزا الثلاثين من العمر بالانتظار، خاصة وأن الأمر يتعلق بشباب محتاج، ينتمي لفئة اجتماعية هشة ..
-كيف يمكن علاج الخوف من القادم أو تغيير الأفكار السلبية التي تسيطر على معظم الشباب وتشل حركته؟
لا يتعلق الأمر بأفكار سلبية، هو الخوف من القادم المبهم. إنه تفكير واقعي. لا يمكن إقناع الشباب بالوعود الكاذبة، والوهم، والسياسات الفاشلة، والبرامج الانتخابية الزائفة التي تنقرض مع نهاية أفول شمس يوم الاقتراع. الأمر أكبر من هذا بكثير، هو خطير للغاية، جحافل العاطلين عن العمل، لا أقصد الوظيفة في أسلاك الإدارة، لكن لابد من خلق فرص شغل حقيقية تجعل الشباب يثق في المؤسسات التعليمية، وأنه يثابر ويجتهد في مجال الدراسات ولا خوف لديه من المستقبل .. فأول دليل على فشل الاختيارات السياسية في مجالات التعليم والتشغيل هي عدم ربط التكوين بسوق الشغل ..
-هل الحالات النفسية والعصبية التي طبعت فئة من الشباب هي نتيجة حتمية لتربية خاطئة؟
التربية تنتهي في أقصى عمرها عند سن 12 سنة، والجهة المنوط بها هذه المهمة هي الأسرة دون غيرها. لأنه من نافلة القول إن المدرسة تضطلع بهذه المهمة. المؤسسة التعليمية تقدم المعارف وتصقل شخصية الطفل والشاب، وتعمل على تكوينهما معرفية وفكريا، إضافة للمحيط. إذا عرفت تربية الطفل تنشئة خاطئة بسبب غياب دور الأسرة، نتيجة سوء معاملة أو تفكك أسري، أو عوز، أو أي إكراه اجتماعي، فأكيد أن الأمر سوف تكون له انعكاسات نفسية سترافق الطفل إلى مراحل متأخرة من عمره. لهذا فالحديث عن التربية يحيلنا للحديث عن الأسرة؟ وعن ظروفها الاجتماعية؟ وكم من شاب أو طفل نشأ داخل اسرة مستقيمة سوية؟ والمجال لا يتسع هنا للتفصيل في الموضوع … بهذا لا يمكن القول إن الحالة العصبية والنفسية للشباب مردها التربية الخاطئة، بقدر ما تعود لظروفه الاقتصادية والاجتماعية، الشيء الذي يؤدي لعدم الاستقرار النفسي، فيولد العنف واليأس والاكتئاب ويفاقم حالات الانتحار .. لأن الشاب يصبح عالة على أسرته وعلى المجتمع، فيتحول إلى لغم قابل للانفجار في أي حين ..
-بعيدا عن تفاصيل المشاكل التي يتخبط فيها شباب اليوم، ألا ترون معي أن المشكلة الأساس تكمن في طبيعة علاقة سطحية وعقلية بالية لاتزال تهمش الشباب ولا تولي اهتماما خاصا لانفعالاتهم وقلقهم… بغض النظر عن طبيعتها بدءا بالأسرة وانتهاء بالمجتمع؟
لا يمكن فصل الأمرين للعلاقة الجدلية بينهما، فوضعية الشباب، الاقتصادية والاجتماعية، أفضت للمشاكل، وأدت كذلك للتعامل غير الواعي معهم من طرف عدد من الجهات، بدءا من الأسرة التي أضحت ترى في بناتها وأبنائها، الذين أنهوا مشوارهم الدراسي ولم يجدوا شغلا، عبئا حقيقيا، وخيبة أمل، ثم المجتمع الذي لا يبالي بوجود هذه الفئة، بل يرى فيه الفشل والعجز … هذا عن الشباب المتعلم الحاصل على شواهد دراسية عليا، أما عن الشباب الذي غادر دراسته مبكرا أو لم يلج مدرسة، أولئك منهم الذي أوجد لنفسه صنعة أو حرفة، او مشروعا اقتصاديا، أو سفرا خارج الوطن … ثم هناك فئة الشباب التي ترفض العمل، فتعيش على دخل أسرها، وتتعاطى أنواع المخدرات، بدء من التدخين إلى الخمرة وما إلى ذلك …
-أليس من أولويات الدولة الاهتمام بسلامة وصحة الشباب، الرافعة الأساسية للمملكة والبحث عن سبل حقيقية لانتشالهم من الضعف والغبن والضياع كتخصيص مثلا دراسة مركزة وحقيقية لنظرة الجيل الشاب إلى هذا المستقبل بهدف البحث عن المتغير؟
مؤسسات الدولة تهيمن عليها نخب “سياسية” ترعى مصالحها، ومصالح أبنائها، وقد نسجت علائق واسعة وأخطبوطية داخل وخارج الوطن يستحيل اجتثاثها. فئة استحوذت على دواليب الدولة، هي التي تدبر الشأن العام .. سلامة الشباب تنطلق من الأسرة السليمة التي لا تعاني العوز والفقر المدقع والبطالة، والمرض، وانعدام السكن، وتكدس أفرادها داخل حجرة واحدة … ثم المدرسة العمومية التي طمست معالمها، وأبيدت أدوارها. لأنه بدون إصلاح التعليم ورد الاعتبار للمدرسة العمومية لا يمكن الحديث عن رقي المجتمع. الأرقام مهولة في المجال الاجتماعي، من تعليم وصحة وسكن وتشغيل. الفئة المهيمنة لا تفكر البتتة في استغلال الشباب باعتبار أن أهم الموارد البشرية هي البشر .. لا يمكن الحديث عن سياسات عمومية دون إصلاح جذري لمنظومة الانتخابات كي لا تظل صورية، ولا يسمح للأميين الجهلة بولوج الحملات الانتخابية وشراء الذمم، ودون ربط المسؤولية بالمحاسبة بمختلف الأسلاك دون استثناء، ولا أحد يفلت من العقاب، وفسح المجال أمام حرية التعبير، والضرب على يد العابثين بالمال العام، من جمعيات بسيطة إلى الصفقات العمومية إلى الميزانيات القطاعية … ليس هناك دراسة تخص وضع الشباب أو المجتمع المغربي وما يعرفه من تحول خطير نحو أفق مظلم .. حرقتنا على أبنائنا الذين كلفونا مالا وعمرا، لم تتحمل فيه الدولة سنتيما واحدا لنجد الأبواب موصدة في وجهه .. طبعا المجتمع به نخبة تضمن العيش الرغيد لأبنائها، وفئة من القطاع الخاص تراكم الثروات ولا دور لها داخل المجتمع، وكأنها غريبة قدمت من كوكب آخر لتنهب وتجمع المام باسم المشاريع أو المهن الحرة أو الديبلومات المهنية والتخصصات، ويكفي هنا ضرب مثل بقطاع الصحة عند الخواص، من أطباء وصيادلة، والمصحات، غير الغلاء؟ نتساءل ما الذي تسهم به هذه النخبة في بناء المجتمع اقتصاديا باعتبار أن رأسمالها من هذا الشعب، ومن هذا البلد؟؟ وهل الفئات الميسورة تؤدي الضرائب وفق معايير مالية حقيقية؟؟ فنحن لا نطلع على الأرقام في إطار الشفافية، فقط داخل لجن البرلمان، أمام فقدان الثقة في مؤسسات الدولة؟؟؟ الدراسة المفترضة يجب ان تأخذ كل هذا بعين الاعتبار؟؟؟ ثم إن كانت هناك نية لإجراء هذه الدراسة، فمن هي الجهة الموثوق في عملها التي سوف تحقق ذلك؟؟؟؟؟ الأسئلة كثيرة والمجال لا يتسع …
-ألا يعد تعاظم حالات الهجرة واحدة من ردود الفعل الانتحارية لدى فئة من الشباب بعد أن تسربت إليهم مظاهر اليأس القاتلة في غياب تام لأي حلول أو بدائل عملية وواقعية بعيدا عن الوعود المقطوعة وتسويق الوهم؟
الهجرة ليست حلا، ولا يمكن نعتها بفعل انتحاري، لأن الشباب يبحث عن الأفضل، بعد اليأس وانسدادا الآفاق في بلده بين أهله .. لا أعتقد أن العيش ببلد آخر سوف يكون أنجع وأفضل، لأنه لو توفر الحد الدنى من العيش الكريم الذي يحفظ للشباب كرامتهم وإنسانيتهم، لن يفكروا في الهجرة البتة. لأن العيش خارج البلد الأصلي سوف يرغم الوافد على الانضباط والامتثال لقوانين وسياسات ذلك البلد، والتي هي في جزء كبير منها، حسب اعتقادي، لا تتماشى وثقافتنا، ناهيك عن السلوكات العنصرية داخل البلدان الأجنبية. هناك اليد العاملة، والأدمغة. أجيال من المهاجرية أنجزت الأشغال الشاقة بأروبا، ورفعت من المستوى الاقتصادي لهذه البلدان، التي احتلت بلدان إفريقيا، ونهبت خيراتها، واستعبدت شعوبها، وجعلتها تعيش التبعية، ولا تزال… فكيف يمكن عن الهجرة كحل؟؟ لا أعتقد ذلك …
-وتبقى المسألة الأكثر تعقيدا، هي عزوف الشباب عن المشاركة في جميع مناحي الحياة أهمها المشاركة السياسية، طبعا دون احتساب المتحزبين منهم والذين يسعون إلى إيجاد موطئ قدم في الخريطة السياسية. أليس هذا العزوف وهذا الغياب مقصود كاحتجاج سلمي على شيخوخة المشهد السياسي الذي طالما حاول حرمان الشباب من حقهم في تحمل المسؤولية؟
لا أعتقد أنه عزوف بهذا المعنى، بقدر ما هو موقف من اللعبة الديمقراطية، والعملية الانتخابية. وهو موقف يقوم على انعدام الثقة بسبب تكرار التجارب المخادعة، وفشل الاختيارات السياسة في جميع المجالات لعقود، ثم اتضاح الرؤية بالنسبة للشباب، والتي هي حقيقة النخبة السائدة التي تخدم مصالحها ومصالح أبنائها دون أدنى اهتمام بمصالح المجتمع. ناهيك عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار .. باختصار لم يلمس الشباب سياسة واضحة تهتم بمصالحه. ثم من جهة أخرى، هناك التهميش، حيث هيمنة فئة كبية من المسنين على العملية الانتخابية. أعتقد أن من جاوز الستين عليه أن يتقاعد ليفسح المجال للشباب. لكن حليتنا أمام من سباهم عشق كرسي المسؤولية، سواء الانتخابية، أو الإدارية، لأن المسؤول الإداري لا يمكن أن يظل جاثما على صدر القطاع الذي يدبه عمرا؟؟؟ لابد من فسح المجال للشباب .. ولعل دليل ابتعاد الدول عن هذه المقاربة هو تمديد سن التقاعد بدل تقليصه ليتولى الشباب المسؤولية، طبعا وفق كفاءة وتكوين واستحقاق، وليس الكم المهمل ..
-رسالة إلى الشباب المغربي؟
لست مخولا لتوجيه رسالة للشباب المغرب أو غيره، موقعي كباحث، يجعل مني مساهمة في بلورة نقاش وطني حول هذا الوضع المزري للمجتمع ككل، والشباب جزء من هذا الكل بما له من خصوصيات المرحلة العمرية. لأنه لا يجب أن نغفل كفاءة هذا الشباب وقدرته، ومستوى تكوينه؟ لأن الواقع يثبت أن عدد ممن يلجون سوق الوظيف قدراتهم المعرفية متواضعة. لا أريد الحديث عن الأسباب هنا، لأن المجال لا يتسع لذلك، إذ لابد من تفصيل وأرقام، فقط نتساءل هل هؤلاء الشباب تلقوا تكوينا يؤهلهم للمسؤولية؟ هل تعليمهم الجامعي والشواهد تعكس مستواهم الحقيقي؟ أتحدث هنا عن الظاهرة وليس الحالة المتميزة والمتفوقة؟؟ الحديث عن الدراسة يجعلنا نثير قضية الغش؟؟ كم حلات الغش المرصودة والمتغاضى عنها؟؟ الأمر يحتاج لمقاربات شتى كي لا يكون هناك إجحاف في حق جهة ما على حساب طرف آخر، ويحكم تحليلنا ذلك الجانب العاطفي …