إنجاز : ذ . الغزيوي بوعلي ،مختبر اللغة والفكر
قبل ان يبشر نيتشه بأفول الأصنام ،كان الفيلسوف الالماني هيجل بشر بنهاية الفن جاعلا من هذا الاخير أعلى أشكال الحياة فهو إطار تزيين للتاريخ ،فالروح المطلقة بدورها تتجاوز التاريخ ويتجسد عبره ،مستندا مقوماته من هذا المعنى ،لذا رأى هيجل ان هذا التطابق هو نهاية هذا الفن ،لكن الشعر بدوره اتخذ عدة تأويلات وتنظيرات ،فأصبح هو الجرح والأنين ،والسعادة والنظم والممارسة الذاتية ،فلا يسجنه أحد يقارق الذات والوجود والمكانة والزمن ويصنع المفاهيم والأدوات الاضطرابية أينما ارتخل وتوهج ،فهو الذي يتمرد على النوعي واليومي لأن الشكل تفكير في الوجود ،وانفتاح لتشرق الموجودات ويتأسس الوجود رغم انه مسألة الوجود أصبحت في طي النسيان كما يقول هيدج في كتابه ” الوجود والزمن ” فهذه العبارة التي افتتح بها هيجل ” كتابة الوجود والزمن ،فهي الملانة عن فلسفة جديدة تنقل الفلسلفة من الانسان والذات عقدا ووعيا وإرادة وقوة الى الوجود المنسي ،أي يريد اعادة طرح الوجود كبعد بعيدا عن اشكالية الذات وما صاحبها ،من اسئلة ما ضوية ماذا يمكنني ان اعرف ؟
ماذا يتوجه علي ان أفعل ؟ وهذا التصور الذي هو جعل الانسان في مركز الكون ولكن سرعان ما فقد صولته بظهور الثقة التي اخدت مركزا لتقول الحقيقة عن الذات نظرا لفشل الوصول لذاته لأن لتفكير يعد ممكنا في ايامنا هذه الا في النوع الذي خلفه اختفاء الانسان كما يقول فوكو في كتابه ” الكلمات والاشياء ص 353 ” اذن كيف نتجاوز ثنائية الذات والموضوع من خلال اللغة ؟
فالثقة هي الفهم والتفسير فهي التي تجعل الوجود يدخل الخارج الى بيت اللغة لكي يستغنى بها الشاعر لأن الشاعر في علاقته بالثقة هي علاقة حدوث وتوقع ،وليس نعتية ولا ظرفية ولا اسمية ،فالشيء الماهوي هو الذي يأخذ بعده الاصلي ،لان الشاعر يسكن شعريا ،ولكن كيف يمكن ان يتعمم بشكل دائم على الشاعر محمد بلمو ؟ إننا نسكن الأرض المكتضة بالناس فلا نعرف المكان المناسب لقول الشعر ،لذا تبقى الذات الشاعرة البلومبية تبحث عن منطقة تكون كحنين وكطيران في الهواء مرفوضا كهروب داخل حلم عقلاني ،بل يظهر لنا كمنطق أدبي وكوسيلة تثقيف داخل هذا النمط ،فالشاعر بلمو يفكر في كينونتنا كسكن وكشعر لقصائده و هي بمثابة السكن لهذه الانا /الوجودية ،ولأن اللغة الشعرية هي التي تتكلم مع العالم الخارجي ،مستجيبا لما يسمعه ويفهمه ،إذ يستوقفنا أمام كينونة الشيء لتعرض علينا الوجود بشكل مباشر ،ولتحدد لنا التجربة التي يخوضها بلمو الشاعر مع اللغة ،كوجود ينتظر الحمل للتعبير عنه وحمله الى الجمال ،والمعجزات ،لذا يحاول ان يستوطن العوالم الممكنة ( الموت ،الحياة ،الوجود ،البعث …) حتى تكون وتكتسب كينونتها لمواجهة التسلط – والسلطة والكون ،وعبر هذه المواجهة تأخذ نبرة تصورية تتعلق بالتفكير والتساؤل إذا ما كان الشعر قادر بتلخيص هذه الذات من الإرتجاج المرتد ،بأن الشاعر في حواره مع العالم كان يسعى الى تحقيق امكانات جديدة لحياة كائن لم يكن بعد ،إنه يسعى الى مجاورة محنة المعاصرة التي عبر عنها في الديوان ،وهذه هي الرؤية البنيوية كما عبر عنها ليفي شتراوس في كتابه مدارات حزينة ،ص 447 حيث يقول : ” ان الشعرية منتشرة بالتأكيد على هاوية الفناء الوشيك ،فالبحث عن حقيقة وجود عند الشاعر بلمو لا يتأتى الا من داخل اللغة التي هي علامة موت الانسان المعاصر وبهذا المعنى نرى ان الشعر يبحث عن الشاعر والوجود يبحث بدوره عن الموجود ذاته كما يرى هيجل ” هيجل ضد هيجل ص 36 ” فالشاعر في هذا الديوان يأخذ البعد اللغوي بعدا استرجاعيا للماضي المقدس ( الطفولة – اريح – الموت – الحياة – الاندماج – السمو …) وكتجسيد لبنيوية الانسان في العالم ،وكإيقاع يندمج في جغرافية القصائد الممتدة الى الارض المنتظرة ،فهي التي تعيد ترتيب تضاريسها وفق ايقاع منتوع يبدعها الشاعر الذي يجوس تحت ظلال اللغة .
إن حاجة الشاعر الى اللغة مثل حاجته الى اكتشاف نسيان الطفولة – الادب – اريج – الكتابة – الحرية ،حيث تنتشل هذه التيهات من حالة الوجود الى حالة الكينونة ،فاللغة الشعرية البلومبية تسيق هذا الجسد الفاني لاستيطان الكون ،لأنه يسعى دوما الى دواوينه المدروسة سلفا الى إعادة المعرفي الى الكينوني حسب هيجل في كتابه ( هيدج ضد هيجل ) ترى بن عبد العالي ص 54 ،وهذا بالضبط ما يهدف الى تأسيس ( الدازين ) ذلك الذي يتزامن كحاضر بين المستقبل وما مضى في توحدها ،إن معنى اللغة يكمن في كونها قابلة للتساؤل وللتواصل على الدوام ، لأن أصالة الشعر عنده يكمن في وضع عناوين لإثارة المشاكل واستفزاز القارئ لا في إلتماس الحلول لها وله ،ولجعله يكابد الدهشة الشعرية، وأن يكون قادرا على الانتظار ولو طال العمر كله .
فقراءة متأنية لما هو مكتوب قد تمكننا من تحصيل فكرة مهمة عن المسار الذي اتخذته رؤاه فيما تعلق بعقل خاصة وعليه لا ينبغي فهم كلمة على انها استمرار للفكر في حد ذاته ،بقدر ما تعنى قراءة جديدة لكل التراث النقدي الموجود على ضوء السياق العام الذي نشأ فيه …
فلا مناص إذن حيث التطرق الى الفكر ،من الحديث عن الشعر لا باعتبارها أساس مفهوم التناص فحسب ،بل باعتبارها مبدأ عاما استطاع ان يؤسس منظورا للغة ،حيث انطلق منها لبناء تصوراته النقدية ،بل واعتبارها مبدأ عاما للحياة حيث يصرح ان تكون لغة يعني ان تتواصل حواريا كما يقول باختين ،ولا يمكن فهم هذا المبدأ بمعزل عن التصور الخاص الذي يؤمن به فيما يخص اللغة ،بل أنه أساس فكرة الكتابة حيث ينطلق من فكرته حول اللغة الايداعية ،لكي يعتبرها تدخلا بينذوانيا ،إذن لا ينبغي عزل اللغة عن الطابع الايديولوجي والاجتماعي في شعره ،من حيث انها المولد لفعل التواصل ،حيث تأتي هذه الأهمية الخاصة للكلمة الموزونة من كونها تملك خصوصية تجعل منها أولى وسائل الوعي الفردي ،وهي نتاج وسائل فردية وأداة التعبير الداخلي مثل الوعي ،إضافة الى هذه الخصائص النوعية التي تتمتع بها القصائد خولتها لأن تكون التأريخ الأساسي لدراسة المؤلف والإيديولوجية والوعي والفكر .
إن واقع الديوان رهين بوظيفته باعتباره علامة لغوية ،وهو ما يمنحه أهمية في دراسة هذه القصائد ،كونها أكثر قدرة على التمثيل الواقعي والخيالي ،حيث أنها العلامات الوحيدة التي لا تتميز بالحيادية اتجاه أي وظيفة ايديولوجية ولا فكرية ،ما يمكنها من أن تقوم بأدوار فنية ايقاعية وكذا دلالية ،وباعتبارها أداة للوعي النقدي الذي ينبغي دراسته على أنه علامة /اجتماعية .
لقد تبنى الشاعر بلمو التفاعل الكلي بوعي للكلمة حتى تكتسي هذه الأخيرة دلالة جديدة تنظاف الى الدلالات الانسانية .
لأن تحول القصائد الى ملفوظات جعلها تمتلك منطقا داخليا يعبر من خلاله عن حالة نفسية ما وتتأسس العلاقة الحوارية هنا بين ثقل الكلمة وسلطتها الحالية ،وهو ما يمتجسها حيوية وديمومة وسط هذا التفاعل المستمر داخل الأنساق الشعرية ،فالقصائد إذن هي التفاعل الذي يمنح للكلمة سلطتها المتعددة على امتلاك الأنا الوجودي الداخلي ويمنحها أيضا توجها جديدا ومضاعفا نحو خطابها وخطاب الآخر المختفي والمظهر ،لأن الكلمة حسب كريستيفا un mot plien كونها موجهة الى الانسان والكون . والممكن والأسطوري والرمزي ،لتعيش الذات الشاعرة تعددها وتنوعها الانطولوجي ،فليس من الممكن ان تعمم الشاعر بمعزل عن فكرة التلفظ الشكلي والدلالي ،ما دام كل قصيدة تحيل على قصائد سابقة وتقيم جدلا معها وتقترن بانتقالها من متلق الى آخر ،ومن مجموعة اجتماعية التي اكتسبتها خلال رحلتها الخيالية .
إن رحلة الشاعر في هذه القصائد تمكننا بتحديد وضعيتنا دون ربطها بوضعيات أخرى ،ما يجعل القصائد تمتلئ بردود أفعال وإجابات على أسئلة وجودية وكشريك خطابي متجه نحو الموضوع ذاته ،فمحمد بلمو جعل أسئلة تتبلور في شكل نظريات ،تأثرت بسياقات وفضاءات متنوعة حيث يقول : ” يغتال صوتي الرخو /كأن الخمر لا يصحو / من هوائي /كأني أضحك ملئ الأرض /من جنون القبل ” ص 22
وانطلاقا من المقطع يقوم بالدرجة على الوصف والتفصيل حيث تتقدم فيه التفعيلة بشكل مباشر ،إذ ينهض على مجموع القيم الصوتية التي تولدها المفردات ،ويقول في هذا العدد أيضا ،لن توقفوا ناركم ” ص 21
فالبحث في جنيالوجيا الخطاب الشعري الجمالي والغني باعتباره تثكيفا للمعطى النفسي والإنفعالي ،يقتضي منا بالضرورة البحث عن الدينامية المؤسسة لهذا الفعل الابداعي الشعري والبحث أيضا عن مصدر هذه الطاقة الخيالية التي يصفها باشلار بأنها الطاقة الإيجابية في المبدع ،وبالتالي فتحليل بلاغة هذه اللغة الشعرية في تضاعينها الأسلوبية والدلالية تجعلنا نقترب من كل تمظهرات الا شعور الباطني لفهم مصدر وضعيته الرمزية واللغوية ،والاستعارية والمجازية ،ويقول :
” ستفاجئهم يا قيتاري / من صليك / تصمد الأطلال / من جبنهم / تضحك أشجاري /تدحر فلولهم /على متاريس أوتاري ستفاجئهم ” ص 35
فالشاعر أمد هذه الكلمة بسحر الرغبة التي هي مصدر الرمز لتتحول الكلمة ضد العالم ،فهذه الايحاءات ليست إلا وسيلة لإجراء تعارضات تمايزية ،وتركيبات ضرورية ،إنه بالأساس تعبير غير مباشر ،بمعنى أن الكلمة هي وسيلة الذات للتعبير عن الواقعي عبر محفزات الخيالي ،ويقول في هذا المقالم : ” صدقوني / أنا لا أكتب /فقط أعلن النفير / في استعارتي / كي أقف وي وجه ظالمي ” ص 73
انطلاقا من هذا البوح إنه يعد انعكاسا لحقيقة الحياة وتغيرات الذات الاجتماعية ،حيث يقدم لنا الشاعر موقفا دقيقا من الآخر في اتساعه وسموه وتنوع لغاته مع عقد موازنات بينه وبين الخارج ،ويقول ” عندما أموت / أمشي وحيدا / أحفر قبري بأظافري /لأن أبي / كان فلاحا عظيما / علمني كيف اتبادل الحديث /ص 68 .
فالشاعر جعل الذات وسيلة تتكلم عبرها اللغة ،باعتبارها آلية ثانية من آليات اشتغال الذات الا شعوري في الإبداع ،فيعمل على استبدال العمليات النفسية لموضوعها الخاص بموضوع آخر داخل نفس السلسلة الدالة كما يقول ج لا كان : ” فالقصائد كالهمهمات ،وأيتها الأحزان ،مهلا وجرى الذي جرى ،وعودي أريج كي نرقص ،وطعنات سحيقة ،ويريد الجثث ،وعندها أموت ،ولا أكتب ،والأمل لا يموت ،ولا أكتب ،فهذا التنوع الشعري جعلت ذات الشاعر مصحوبة باضطرابات نفسية ،حيث تشير الى هذيان وارتياح في الشعور فيقوم بأعمال كأنها تمثل ماضي أيامه وتسمى هذه الحالات أوهام العمل ،لأن الشاعر يصور هذه الذات المعكوسة على صفحة : ” مرآة زجاج مهشم ” لتشرك مع جميع أشكال التواصل الاجتماعي المبني على التفاعل بين الذوات بمقومات مشتركة ،ولتشكل ما يمكن تسميته بعملية التواصل التفاعلي ،ولكن هذه القصائد تقدم حالات وجدانية شعورية سواء الإيجابية او السلبية منها ،ستعكس نفسها على طريق تواصلنا بالعالم الخارجي ويقول ” لك وحدك أبوح صديقي ،بلوعتي للموت واشتياقي ،وبالترياق المر جين لا تفلت من مقاصل الظلم أعناقي ،بئس الذين صادقتهم يوما بأهم البلد ،وما ولد ” ص 52
وتعد عملية وعي الذات مطلبا جوهريا لرؤيتها من الناحية النفسية – الاجتماعية – لأن الوعي بالذات في حقيقته ليس سوى عملية ارتداد الأنا الى فضائها الحيواني لمعرفة أنواع هذه الذوات إما بالذات العمياء blind ،او المفتوحة open self ، او المقتنعة hidden self ،و الا واعية un known self .
وهذا التنوع بات واضحا لدينا ،مدى أهمية عملية لا وعي الشاعر بذاته حيث يتواصل مع العالم الخارجي ،فتبقى الكتابة هي الوعاء الأول لمعرفة الذات التي تتضمن كل التجارب والأفكار والطموحات وكذا المواقف ،ومن هذا المنطلق لا تعد عملية البوح مجرد إخبار واستذكار بل إنها عملية اختيارية وانتقائية وافصاحية عن المكونات الداخلية ويقول : ” هل تنصتون لدقائق قليلة ،حين يرتفع الضغط ، الحرارة تذوب الجبال ، تغرق الشواطئ ، يا صبر الجبال ، أين أجد كوخا ، ووسادة ورغيفا لصبري ، الأيدي السرمدي ، والطعنات السحيقة ،تتوالى على هوائي ، تقتات من ألمي ،تنتعل شقائي كي تنتشي . ص 46 – 47
فهذا البوح السري هو اختراق اجتماعي لهذا العالم البلومبي الامحدود ،لأن الحزن والالم المغلق بالرقص والأغنيات جعله يبحث من يخرجه من ضيابه ومن عذابه ،متسائلا عن هذه السيدة التي عادت ملحا ،وأنينا ،متسائلا إذن كيف يلاحق هذا الالم هذا الذات وهي كالنحلة تبحث عن رحيق وراء هذا الورد المندحر ،وعشتار ( أريج ) الساكنة في دمه ،تشق فؤاده والدم المستحيل يتعلم المشيء وراء الفناء كي يستقي ألمه ،وفمها فيها ظلمة ، ولا ماء العذب الزلال ،وحده الذي يبتلع ريق الألم ،ورماد السنين تكسو جسده لكي يملأ الأرض عشقا وبوحا ،ويبدع الفرح والحزن معا . ص 28
لن يبدو تفسير الشاعر معقولا إلا لو ظللنا مصرين على أنه تعريف البوح في البياض هو اكتشاف وإبداع موضوعي ،يبشر تاريخه الى التعريف الذي جاء في الديوان ص 31 – جرى الذي جرى ، حيث يصر على هذا الحضور لكي يكتب بصورة معارضة للتنوير ،لأن الموت سيبوح أمامنا عن أسراره صباحا ومساءا ، وسيختار المكان لكي يدفن فيه ليقف كالشجرة عارضا براعته التصويرية لتقربنا الى قصيدة الخروج لعلاج عبد الصبور وأيضا قصيدة لأهل دنقل ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ” لأن الشاعر يخرج من ذاتيته لكي ينشر هواء الاستعارة في البياض ،وأصابعه ترقص مع الحروف لتخرج متوهجة باحثة عن من يدثره ويطعمه ،هكذا يظل يسير ويتسلل بين خيوط المطر ،ومن شقوق النوافذ المغلقة يتساءل عن هذه الحضارة التي انبثقت من كهف أفلاطون وسرقها بروتيوس وتلقاها الشاعر بلمو ليقف في وجه كلاب الرأسمال المجنون ،يحاسبهم عن خيانة الماء والسماء وعن دخان منازلهم ،كي يصحب الثقب ،ويشهق الحرج ص 46
فالديوان كما ارى ليس وهم خلق الذات لنفسها ،فما نظن أنه حريتنا مثل التحرر الحداثة ليس إلا إذ عانا لقيود علاقات سلطة الكلمة ،ولهذا انجدب الشاعر بلمو الى مشروع الذات لخلق حياة جميلة ، لأنه يعي جيدا أن هذا المشروع الابداعي الخلاق مرتبط بهياكل سلطة الكلمة والجملة ،فالديوان هو مفتاح هذه القضية التي تواجه الذات البلومبية، لانها تحول الفعل الايقاعي السيميتري الى اشكالية كبرى ،تتحدد بعلاقات المجتمع الذي ينتمي اليه ،فهو القادر على الاستجابة للقضايا التي تثيرها بطريقته الخاصة ، ويقول : ” في بهو اللغة أشياء تتزاحم ،تقضم اصابع الكتابة ،كراسي فاغرة أفواهها ،في مربع ضوء بركن حانة منزوية أقنعة مسلحة نهبت الربيع ،من أيدي ثوار ،غمسوا راياتهم في حلم الماء البعيد في الصخور وعادوا مدججين بالأرق ص 27 .
و حتى يحتكم أي خطاب نقدي الى تاريخيته الخاصة ،سيكون لزاما علينا أن نمر عبر مراحل تشكله وتأسيسه ،بحالات ارتباط وتفكك مختلف أشكال الخطابات التي يتناصى معها في البعدين المعرفي والشعري ،فالشاعر بلمو أبدع ولا زال يبدع إشكالية ليست منهجا تاريخيا بل موضوعا يحول الرموز – الهواء – الشراب ،والماء كأقانيم تتطلب أولا فحصا دقيقا لبنى الخطابات الأركيولوجية ولتكون تاريخا للحاضر ولا عودة الى طرق القدماء بقيودها الصارمة والتي لا مكان لها في عالمنا ويقول جبين تنبعث من حروفي ،رائحة البارود نيران المدافع ،لأن تجار الحروب لا يريدون السلام أن يحط يوما على هذه الأرض ص 72
فهذا الموقف هو الإستماع الى هذه الأحاسيس والمشاعر الوجدانية والانفعالية حيث ويتم هذا الإصغاء في الغالب في إطار التواصل الشعري بهدف مشاركة المتحدث ( الشاعر ) في مشكلاته ومشاعره ، وحتى نتوصل الى ذلك علينا الإنتباه الى لغة جسد الشاعر الذي يعترف بأفيون الأنين وبفقدان الأحزان التي تلتحق بالمطر لكي تظهر لنا هذا العالم العاري أمامنا ،وعلى سرير ( بهو ) يموت جسد الشاعر والأشجار تقول للنتانة ،وللنذالة إرحل من قراري ،إرحل من خياري ،من داري من ليلي ونهاري ، ص 26
فهذا الامر الإستعجالي هو تقييم وتذكر واستفسار بأسئلة مفتوحة ،وتركيز وانتباه لمجريات الأحداث وجاذبية جسدية التي تزيل الاعتقادات الغير الدقيقة عن مفهوم الشاعرية، لأنها عملية تفاعلية وتعاونية بين الثابت والمتحول وبناء افكار التي ترتبط بالأشياء التي توجد بالفعل خارج الزمن والمكان ،وتساءل الشاعر بلمو عن كيفية معرفة أن خبراتنا بتداعيات الافكار المنتظمة ( لم يجدوا البحر إلا في صحرائي ) ترتبط بالعلاقات الضرورية في الواقع ،ولم يكن هناك من يملك إجابات ذوقية لهذه الأسئلة سوى الشاعر نفسه ،ويقول : ” صدقوني نا لا أكتب فقط أعلن النفير في استعاراتي ،كي أقف في وجه ظالمي . ص 73
فهذا الموقف جعلنا نعتقد ان الشاعر يرسل نداءه للمعنى كما يقول جاك فونتاني في كتابه ” سيمياء المرئي ” ( الغلاف ) لم يلتفت كثيرا من القراء الى ذاكرة هذا الديوان لما يحمله من أقنعة مكانية وفيزيائية وإنسانية لإيصالها الى الملتقى كما تفعل تلك الشخصية التاريخية ،ولكن المكان فهذا الديوان فهو رمز لكل المعاني والقيم الروحانية التي تقابل القيم الاجتماعية المادية والتي ترمز إليها المدنية – والمستشفى ،والبادية والطبيعة ،كلها تنهض على الرغبة في الحرية والكرامة ،إنه المكان بمثابة الأم الرؤوم التي تتألف معها الشاعر الى حد الإندماج بها ،فكان من الضروري أن يستحضرها الشاعر كلما اشتد به الحنين واشتدت عليه الشدائد ،لذا وقف أمامها لكي يلامس المكان من خلال الرمز ( عندما أموت ) كما عند صلاح عبد الصبور في ديوانه بيروت – 1971 ص 235
فهذا القناع تحدث من خلاله عن تجربته مصلوبا على أخشاب المعاناة الإنسانية والوجودية والفكرية .
ويؤكد إلبوت ان الصوت المهيمن في المونولوج الدرامي الشعري في هذا الديوان هو الصوت الثاني من أصوات الشعر ،لأن صوت الشاعر متحدث الى الآخرين من خلال القناع ومتقمصا شخصية أخرى كما في مناداته لأريج ،أو اختياره للموت وحيدا ، أو عدم الكتابة – فالشاعر محمد بلمو يواكب كل التجارب الشعرية كالبياتي وصلاح عبد الصبور وخاصة في قصيدته مذكرات الملك عجيب ابن الخصيب فالشاعر بلمو أصبح متخفيا وراء الأقنعة التاريخية والأسطورية ،مما يفضي على عمله الشعري موضوعية رمزية ويمده بالعودة الى الماضي ليكون مهيارا يتقمص المشكلات التي تتجسد حياته ،فاكتست هذه القصائد هذا البعد الجديد الذي يجعلها تولد من جديد كلما تقدم بها العهد مثل البياتي تجربتي الشعرية ) ص 38 – 39 ،فالشاعر بلمو يريد أن يرحل كجلجامش الى أرض الخلود ليحصل على عشبة الخلود ،لكن عشتار رحلت دون العودة ،فيظل الشاعر يطارد المستحيل بأن تعود الى الحياة و ليعود الى الحدائق طائرها الفريد ،الذي كان غائبا والى الأشجار والورود التي أحرقها العدو ،وتعود البهجة للحياة ،هكذا رفض الموت الجماعي وكذا الكتابة لكي يحرق السكون المتحجر ويبعث الحق من خلال الهواء والنار وليصبح البعث بعد الموت امرا حتميا كشروق الشمس بعد غروبها ،لذا ظل الشاعر أورفيوس بلمو صاحب القيتارة الساحرة يهمهم ،لكي لا تتوقف الأيام ،ولا يهدأ الموج ،حيث بحث الشاعر بلمو في هذا العالم السفلي كل ما يخالف الغناء ليستطيع تحويل هذا العالم الى ذهب إبداعي ولكن هيهات ،فقد ظل لا ينام على أمجاد الماضي ،بل رفه أية الشعر لتكون عتبة عليا التي من خلالها نعرف من يتحدث ،وأين نعيش ،وكيف نكتب ،وكيف نتجاوز العالم المعولم ، وهذا هو سر ديوان طعنات في ظهر الهواء .
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أطلب من الطلبة والباحثين بإعادة قراءة هذا الديوان من خلال البعد الإبستملوجي أو البيولوجي ،أو الخيالي كما فعل غاستون باشلار ،وبيربورديو .