مصطفى قشنني
في الوقت الذي يحترق فيه المغاربة بلهيب الأسعار، في أوجّ الشهر الكريم، كما كان الأمر قبله أو بعده سيان، أمام استقالة حكومة عزيز أخنوش من وظيفتها الحمائية لقوت المغاربة، وتركهم لقمة سائغة بين أنياب مافيات البر والبحر، وأكثر من ذلك هناك عناصر من هذه الحكومة من يسوّغون هذا الغلاء ويبررونه تحت دواعي لم تعد تنطلي على المغاربة، فقد شهد شاهد من أهلها، وهذه المرّة:مسؤولان من أعلى هرم المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في الاقتصاد الوطني، أقصد والي بنك المغرب والمندوب السامي للتخطيط اللذان صرحا بعظمة لسانيهما أن الغلاء لا علاقة له لا ببلاد السند ولا ببلاد الهند، وأن أمره ينبع من سياقنا ومن سياستنا الفلاحية، ومما سيزيد في الطين بلّة حسب تصريح المسؤولان، أن الغلاء سيظل هيكليا ومهيكلا، وبالتالي لا نعوّل على أحلام عودة الأمور إلى طبيعتها والأثمان إلى عهودها السابقة..فليطمئن المغاربة إلى هذا الوضع وليطبّعوا معه وليستأنسوا بحممه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..
إن الذي جرّني إلى الحديث عن لهيب الأسعار هو ما أصبح يجرّ العديد من الفاعلين، كل في مجال تخصّصه، إلى الحديث من حيث لا يشعرون عن تغوّل الغلاء، فقد تجد من يتحدث في أمور الثقافة لكن يُدبّجها بالغلاء، ومن يتحدث عن السياسة ويُؤطّرها بفحش الغلاء، ومن يتحدث عن الرياضة ويمرّنها بلهيب الأسعار، وهكذا لواليك..
وما دام اللهيب باللهيب يُذكر، و أنا أشجب مأساة وفاة الفنان أحمد جواد، وجدتُني أتّكئ على لهيب ما لحق هذا الفنان من غبن وظلم، فبغضّ النظر عن مسوّغات الوزارة الوصيّة وتبريراتها وصفاء سريرتها أمام هول ما لحق الفنان من لهيب الاحتراق، لا يهمّني ذلك في شيء، لكن الذي يبعث على الأسى والحرقة والفزع، أن موت هذا الفنان مرّ دون أن تحفل بمأساويته وبشاعته الفعاليات السياسية والحقوقية والثقافية، التي لاذت بالصمت الجبان، وكأن الأمر يتعلق بحشرة احترقت فانتهى امرها والسلام..دون أن تُسائلنا هذه البشاعة وتُحرّك بئر الخذلان والدناءة القابعة في دواخل أنفسنا..دون أن نقذف بحجرة واحدة لتحريك مياه راكدة آسنة تعفّنت بفعل التطبيع المقيت مع هكذا ظواهر، أصبحت تحاجج النخب والمثقفين والفاعين والمؤثرين..دون أن تحرّك لذيهم ساكنا أو تُسكّن لذيهم متحرّكا..
نعم، النهاية المأساوية للفنان أحمد جواد تُذكرني بالميثيولوجيا الاغريقية، أو بشكل دقيق للغاية أسطورة طائر الفنيقـ: الطائر العجيب الذي يُجدّد نفسه ذاتيا بشكل مُتكرّر، فهو يولد من رماد احتراقه..أرجو أن يكون الفنان أحمد جواد، الطائر الذي احترق، ولكن ليبعث من رماده من يطرح الأسئلة الحقيقية التي تُؤثت مشهدنا الثقافي الموبوء، الذي يحفّه الريع والزبونية والمحسوبية في النشر وفي المعارض وفي المهرجانات الثقافية و الفنية وفي الانتاجات السينمائية والتلفزية والوثائقيةوووو ..ما أتمناه أن تكون هذه الصاعقة ليست ملهاة بل مأساة توخز ما تبقى من ضمائر المسؤولين لتصحيح الأعطاب والتحلي بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية والانسانية في تدبير شأن الثقافة التي هي قبل كلّ شيء سمو وعلو واشتباك حقيقي مع الحياة وتقويم لاعوجاجاتها واختلالاتها المتعددة والمركّبة..