عبد السلام انويكًة
عن ماض وتماسات فكر وسياسة وتفاعل وقرب فضلا عن حاضر، يلتقي رأي واسع حول كونه انسان عادي بسيط شعبي مع ما يظهر في محياه من قيم كائن وخجل ذات، انما مقابل ذلك هو بقدر عال من انفتاح على كل حياة وحداثة وثقافة غرب بحكم تكوينه ودائرة ومكامن نتحه الفكري العلمي. ذلك الذي بعدما تابع دراسته العليا بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بجامعة نانسي بفرنسا، غير مساره كلية صوب وجهة لم تكن ربما بتوقع خطوة منه، وقد سمحت له بولوج بحر مهنة متاعب حيث “الخبر مقدس والتعليق حر”. الصحافة التي كانت محطة موالية له بعد دراساته العليا تخصص اقتصاد، قبل أن يعود للمغرب وبحوزته شهادة “ميتريز” في العلوم الاقتصادية، فضلا عن دبلوم دراسات معمقة في التسيير، ومعهما دبلوم دراسات عليا في مجال الصحافة من جامعة ستارسبورغ.
مسار طلب حافل مع أثاث تكوين رفيع، بقدر ما انتهى بجملة بحوث/ نصوص توجهت بعنايتها لعالم تدبير استراتيجي وعلاقات أورومغاربية وكذا تسويق سياسي وتكنولوجي. بقدر ما سمح له بولوج باب “ليبراسيون” المغربية، لسان حال حزب كان بما كان من صدى وتعلق وأمل لدى بلاد وعباد لعقود من الزمن، جريدة تقلد فيها منصب مدير تحرير منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. ولعله مؤثث افتتاحية متميزة لها لسنوات وسنوات، وما أدراك ما هيبة افتتاحية “ليبيراسيون” في ذاكرة صحافة مغرب أمس. ارتآى صاحبها ابن تازة خطا تحريريا مبكرا له في عالم سياسة، ذلك الذي يفضل البعض نعته بالفقير الذي استوزر من مهنة المتاعب، وكذا الوزير الذي عرف كيف يسلط الأضواء على نفسه عبر زاوية شباب. فضلا عما قيل عن أثر تغيير وقيمة مضافة تركها في دواليب وزارة التي كلف بها ذات يوم، الى جانب ما طبع تجربة استوزاره من أفكار تمكن بها من اضفاء اثارة وجدل، لِما حصل من مبادرات تخص وعي مجتمع وتطلع وتفاعل ومن ثمة شباب. تلك التي من بصماتها ما شمل به مكون “الكتاب” من عناية وقد اجتهد لتحريره من رفوفه وسكونه، مستهدفا استرجاع هيبته ومكانته وزمنه وما كان عليه من دفئ ورفقة وقراءة ولقاءات وقيمة جمع وجدل.
ذلك هو الأستاذ والاعلامي وكاتب الدولة لدى وزارة الشباب ذات يوم قبل حوالي الربع قرن، ابن تازة محمد الكًحص خريج جامعة نانسي ثم جامعة ستارسبورغ بفرنسا، انما أيضا مدرسة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا ومدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. دون نسيان أن بداية مشوار صاحبنا التعليمي من ابتدائي وإعدادي مرورا بثانوية ابن الياسمين العريقة محطته الأخيرة، قبل أن يشد رحاله صوب تجربة طلب بالديار الفرنسية مطلع ثمانينات القرن الماضي، بعدما حصل على شهادة باكالوريا تخصص علوم رياضية. تجربة طلب هناك مكنته بما مكنته هوية فكر وعمق معرفة ودرجة اطلاع ونهج تأطير وتكوين وأخذ وتقاسم وتأثير وتأثر. تكفي الاشارة الى أن من مساحات تداريبه التكوينية الدراسية في مجال الصحافة، تلك التي قضاها بمجلة”جون افريك” وبمقر المجلس الأروبي ب”ستراسبورغ”، رفقة ثلة من المثقفين الطلبة المغاربة آنذاك من قبيل حميد برادة رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي كان محكوما بالاعدام. علما أن الأستاذ محمد الكًحص كان خلال فترة طلبه العلمي بفرنسا هذا، مراسلا لجريدة الاتحاد الاشتراكي على صعيد كل أروبا الغربية.
بعيون وقراءة سياسيين ومثقفين رصينين مغاربة، محمد الكًحص كان وزيرا بوليميكيا لِما امتلكه وتميز به من بعد نظر ونبوغ، ولِما انتهى اليه من اجتهادات كانت جميعها نتاج تأملات ومقاربات وتقديرات، وأن كل هذا وذلك من مكامن وشجاعة أدبية وتطلعات طبعته، هو ما مكنه من مساحة أثر نتيجة ما بلوره وانجبه من مبادرات رفيعة المستوى، منها ما تميز به من عناوين طموحة غير مسبوقة من قبيل “الجامعات الشعبية”، “العطلة للجميع”، “زمن الكتاب”، “مسرح الشباب”، “أندية وأوراش سينما الشباب”، “الكتاب على الشاطئ”، “المخيمات اللغوية”، فضلا عن المركز الوطني للإعلام والتوثيق للشباب، ومعه “المشروع
التطوعي” وكذا “بطاقة الشباب”. كلها مشاريع وطنية بقدر ما كانت عليه من صدى فضلا عن إغناء لوعاء شباب وزخم أنشطة وزارة، بقدر ما تحفظ من منجز وأثر للأستاذ محمد الكًحص ومن ثمة من سيرة ذات وزارية وذاكرة. ومن طيف سياسة وثقافة وجدل فكر، من يرى في شخص “الكًحص” أيضا كونه انسانا متجددا ومجددا ورجل مبادرة وجرأة وصاحب مواقف، حريصا دوما على إبداء رأيه، وهو ما يجعله دوما بنوع من لمسة شباب. وهناك من يرى في وزير الشباب سابقا، ذلك الحداثي الجامع بين قبعة السياسي والصحافي. ليبقى كون محمد الكًحص شكل بحق لبنة أساس في مجال تشبيب القطاع الوزاري بالمغرب قبل حوالي ربع قرن، وأنه واحدا من الصحافيين المغاربة المتميزين المبدعين الذين تمكنوا من قيادة وزارة ليست دواليبها وتدبير شؤونها بالعمل السهل.
صحيح أن “الكًحص” غاب عموما عن الأضواء وعن الساحة الوطنية السياسية ومعها كل فكر وابداع منذ سنوات، ولم يعد اسم وشخص من سمح لمئات الآلاف من أطفال المغرب بخوض غمار الاصطياف بعيداً عن المدرسة والأسرة. من خلال تجربة “العطلة للجميع” التي لا يزال أثرها ممتدا منتصبا مسموعا حتى الآن. وغير خاف عن مهتمين متتبعين ما كان لـ”عطلة للجميع”، من أساس فكري انساني اجتماعي رافع لطفولة وشباب وتكوين وروح عمل جماعي وإعداد جيل واستشراف. لم يعد مؤسس أنشطة قرب في عالم تخييم واستفادة من عطلة كيفما كان مستوى المستفيدين منها واينما كانوا، لم يعد يذكر الا نادرا وحتى عندما يظهر ضمن ندرته هذه يظهر بقبعة مثقف هنا وهناك بين ندوة ولقاء واحتفاء أو مؤتمر سياسة دون رغبة في اضواء، وهو الذي قال مؤخرا أن المغرب بحاجة ليسار قوي، وأنه لا يمكن تحقيق ديمقراطية بدون هذا المكون الذي يمثل ايديولوجيا مختلفة. مضيفا أنه في حال استمرار تدمير المدرسة العمومية والخدمات الصحية والأساسية والقضاء على فكرة التضامن في المجتمعات الانسانية، سنكون مقبلين على “حتف حضاري”.
هكذا هو “الكًحص” الذي قيل عنه أنه كان ببصمة خاصة في مساره الوزاري، وأنه بكاريزما انسان مثقف وطرح في كل لقاء ونقاش ومقال ومقام رصين. ومن لا يتذكر مساحة برنامج على القناة الثانية لا يزال بحفظ لدى”غوغل”، وقد عاد فيه كل من المفكر عبد الله العروي الصحافي محمد الكًحص، لنقاش كثيرا ما شغل مغرب ومغاربة أمس، من قضايا كبرى جوهرية واستراتيجية في بناء مشروع مجتمع وانسان، من قبيل قضية التعليم والمواطنة وتنظيم الدولة والمرأة والديمقراطية وفضلا عن علاقة عقيدة بسياسة… ، ويسجل أنه رغم ما هناك من غياب لوزير الشباب السابق، فهو بحضور من حين لآخر ضمن لقاء فكر هنا وهناك، من قبيل مثلا ما يهم عالم ورهان وورش سينما مغربية في علاقتها بجوارها من مجال. وقد دعا ذات يوم في هذا الاطار للتفكير في بناء انسان متوسطي مهما كانت جنسية هذا الانسان وديانته، في أفق ما ينبغي من تعايش بين ضفاف بحيرة بإرث حضاري واسع ومتعدد، مقترحا أهمية تقوية الدول الوطنية مع سعي لهوية متوسطية قبل كل تفكير في وحدة أو اتحاد. عندما تحدث عما يطبع البحر المتوسط من مشاكل واكراهات، من قبيل ما هناك من تطرف وعنصرية وإرهاب ومخدرات وتهريب وهجرة فضلا عن فقر وتعثر تنمية..، معتبرا الثقافة أداة رافعة من اجل أفق وهوية متوسط، مشددا على تعبئة كل الثقافة بمعناها الواسع من سينما وكتاب ومسرح وتشكيل وأدب وصورة ومعها كل تعبير فني آخر، لربح بحر متوسط مندمج.
هكذا هو محمد الكًحص أحد ايقونات ذاكرة انتخابات تازة الجماعية الأولى سنة ألف وتسعمائة وستة وسبعين، ضمن ما يعرف لدى جيل الفترة ب”الانطلاقة الجديدة” التي جاءت بعد حدث المسيرة الخضراء ومغرب مطلع سبعينات القرن الماضي. وهكذا هو الكًحص الذي تشبع بفكر واشتراكية أروبا الشمالية الديمقراطية تحديدا ما طبع التجارب الاسكندنافية، وعضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي ذات يوم، وعاشق نصوص الرواية وفكر عبد الله العروي وطروحات محمد كًسوس وغيره من عناوين غير خافية، كانت بما كانت عليه من هيبة نظر وعلم وفكر ورأي وطرح وجدل ورأي. وهكذا هو “الكًحص” الذي بقوة وطاقة فكر وتحليل وترافع وعرض حول هذا وذاك، من قضايا صحافة واديولوجيا وهوية وفكر ومرجعيات وفعل جمعوي وتطلعات تنمية ورؤية ومقترح..، عرض له حول هذا وذاك قد يمتد لساعات
بايقاع مسترسل دون عياء ولا ملل ولا كلل، مع أهمية الاشارة لِما للرجل من احالات وتكوين لغوي عال وتعبير متين سواء تعلق الأمر بالفرنسية أو العربية، ولِما له ايضا من قدرة تدافع وترافع وصمود وحرص على رأي. يجعل من غنى تجربته وطبيعة كفاءته إن في شقها الصحافي أو السياسي أو الفكري، بنوع من حالة تفرد وبصمة وصدق ومبدإ وموقف وغيرة ووطن، الكًحص الذي يحضر في زمن المغرب الحديث اسما وشخصا ومفكرا وسياسيا وصحافيا ووزيرا، فضلا عن قامة شامخة ومقام ديوان بهي مفخرة، مستحقا كل ذكر وعرفان وتقدير.