يتناول الباحث مهدي حنا في كتابه “أزمة الثقافة.. استبداد الأفكار وتزييف الوعي”، أسبابَ الانهيار الذي تعاني منه الثقافة العربية في العصر الراهن على مستويات عدة.
ويقف حنا في كتابه الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” على أبرز المحن والأزمات التي تتعرّض لها المجتمعات العربية من غزو للأفكار وممارسات تؤثّر بشكل مباشر على ثقافة الأجيال القادمة، تلك التي أصبحت مُغيَّبة عن واقعها الموضوعي جملةً وتفصيلاً.
ويرى حنا أن هناك العديد من الأمور المشتركة التي تشكِّل سمات الشخصية العربية، ويمكن من خلالها تجاوز أزمة الثقافة التي يعاني منها جيل الشباب، ومنها: ضرورة الخروج عن المألوف، وتحكيم العقل في مسائل الحياة، والاعتماد على الذكاء والعلوم المتاحة وليس فقط على التاريخ والتراث اللذَين يحتاجان إلى التدقيق لاستخلاص ما يتناسب مع طبيعة العصر ومتطلباته منهما.
ويؤكد الباحث على أهمية اللغة العربية وآدابها، وتاريخ النضال العربي قديمِه وحديثه؛ كونهما يشكِّلان البنية الأساسية لجيل الشباب العربي الذي يجب أن ينهل من التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأسلافه، ويدقق ويمحص في الإنجازات ويراكم عليها حصيلةَ تجاربه الحديثة والرائدة، وصولاً إلى بناء جيل من المثقفين القادرين على إرساء قواعد جديدة، والمضيّ قُدماً في مواكبة العالم المتحضر الذي تخلَّف العرب عنه في كثير من المجالات.
ويتناول حنا في فصول كتابه أهم المجالات التي كشفت عن الأزمة الثقافية، ويأتي في طليعتها التعليم وما يترتب عليه في العالم العربي نتيجةً لسلسلة من سياسات “التبعية للغرب” و”الاصطفافات” التي يجب أن تتغير ليكون لدى الأجيال المقبلة هامش من الحرية في التعبير عن طموحاتها وتطلعاتها.
ومن المجالات الأخرى التي يناقشها الكتاب: علاقة الثقافة بالعولمة والامبريالية، وعلاقتها بالرياضة والفن والأدب والسينما والمسرح والقيم المكتسبة، ووسائل التواصل ودورها الحاسم في رسم الثقافات المزيفة.
ويدعو الباحث في كتابه إلى ضرورة “إعادة ترتيب بيتنا الداخلي عن طريق تربية نشء جديد، وإعادة توجيهه وتسليحه بناصية العلم؛ ليكون قادراً على العمل في المجالات كافة، يشارك تجاربه وخبراته مع الآخرين، يفيد ويستفيد، يُعلم ويتعلم”، موضحاً أن العالم – بفضل التطورات الهائلة في مجالات العلوم -؛ أصبح متقارباً ومنفتحاً، ما يُسهِّل الاتصال والتفاعل بين شعوب الأرض في جميع الميادين مع التمحيص والتدقيق في حُسن الاختيار؛ لنقل ما يتناسب مع الثقافة العربية وقيمها وإرثها الحضاري.
ويستشهد حنا بالدعوات التي نادى بها طه حسين في منتصف القرن العشرين بضرورة الأخذ من الحضارة الغربية وتحديداً الأوروبية “حلوها ومرها، خيرها وشرها، وما يُحَبُّ فيها وما يُكرَه، وما يُحمد منها وما يعاب”، موضحاً أن طه حسين لم يقصد بتاتاً نقل الثقافة الغربية بحذافيرها من دون غربلتها بما يتناسب مع المجتمعات العربية واحتياجاتها.
وبحسب حنا؛ لم يُتصوَّر في حينه أن الولايات المتحدة ستحل محل الحضارة الغربية التي تأثر بها طه حسين، ولم يُتخيَّل أن السلع والأفكار ستقفز فوق الحدود القومية، وأن التقدم الثقافي لن يكون معيار النجاح في الحياة أو رقي الأمم؛ فقد حلّ محلّه التقدم الاقتصادي وتجارة الحروب والسيطرة على مقدرات الشعوب الضعيفة.
ويلقي الباحث الضوء على فكرة السعي نحو ثقافة “أمركة العالم”، مستذكراً ما قالته فيلسوفة فرنسية إبان الحرب العالمية الثانية: “إننا نعلم تماماً أن أمركة أوروبا بعد الحرب ستصبح خطراً عظيماً، ونعلم أيضاً مدى ما ستخسره لو تم ذلك؛ لأن أمركة أوروبا سوف تمهّد دون شك لأمركة العالم بأسره… وحينذاك ستفقد الإنسانية جمعاء ماضيها”.
ووفقاً لأطروحة الكتاب، فهذا ما حدث بالفعل؛ فقد تم تعميم النموذج الأمريكي ليغزو العالم بأسره. ويتساءل حنا في هذا السياق: “ما موقفنا بالتحديد من هذا النموذج المزيّف الذي اختبرناه على مدار عشرات السنين وأثبت فشله بجداره؟ فنحن على يقين بأنه لا يتناسب مع واقعنا وتاريخنا وأخلاقنا وحضارتنا وإرثنا الثقافي، بل إنه ساهم مساهمة فعّالة في تدمير الثقافة، وخلق أجيال طيّعة وغرّبها عن واقعها الموضوعي، وعيّشها في الوهم الحضاري والقيم والأفكار المزيفة التي ينادي بها العالم المُتحضِّر”.
ويرى حنا أن العرب عليهم ألّا يخضعوا لهذا النموذج، لأنهم يشكِّلون موقعًا مهمّاً من العالم الشاسع بتنوع ثقافاته وقيمه، فالدول العربية “غنية بمواردها المختلفة، ولديها كثيرٌ مما يحتاجه الغرب في صناعاته المختلفة من المواد الخام؛ من منتجات الطاقة وغيرها من الموارد المهمة كالفوسفات والبوتاس والمعادن الأخرى. ورغم ذلك، فإن واقعنا العربي لا يشكّل واقعاً منتجاً ومصدراً للتكنولوجيا والحضارة، بل هو واقع مستهلك ومستورد للإنتاج الغربي من الحضارة والصناعات المختلفة”.
ويدعو حنا في كتابه إلى تطوير آليات التعليم بشكل مستمر، فـ”المجتمع الرأسمالي مجتمع استهلاكي بحت، وطبيعة الصراع في النظام الرأسمالي تتمحور حول استغلال الإنسان لأخيه الإنسان”، ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي “ستسعى الرأسمالية إلى التخلص من بعض الوظائف التقليدية والتحول نحو الروبوتات، ما يعزز الدور الأساسي للتعليم ودور الثقافة والمثقفين الحقيقيين الذين تقع على عاتقهم مهمة نضالية مهمة في تنبيه الجيل الصاعد وتعليمه”.