- حياة جبروني
من هناك، أرض المقاومة والصمود والنخوة، أرض الحجارة والبنادق. مسقط القلوب ووصال الأرواح. باب السماء ومعجزة الإسراء وملتقى الخطباء. فلسطين الأبية، وبالضبط حيفا الكرملية، نلتقي مرة أخرى بشخصية إبداعية، ناشطة ومنتجة وكاتبة متفردة، تجمع بين الأدب والفكر والفن والعلم…. حتى بلغت ذروة الإبداع. بل استطاعت أن تثبت بجدارة واستحقاق تميزها وقدرتها في أصعب المناحي والأبحاث التي ظلت تدور فقط في فلك الثقافة الذكورية التي تنتصر لعبقرية الرجل.
إنها الشاعرة، السفيرة، الباحثة والمترجمة في الأدب العربي… الفلسطينية شادية حامد من مواليد حيفا، سليلة الشهداء والمناضلين.
ها نحن اليوم وللمرة الثانية، نقف باندهاش لامرأة أبت إلا أن تكون استثناءً، اجتمعت فيها عدة نِعم ومواهب وتخصصات… في عبارة موجزة، شادية حامد، أنموذجا مشرفا للفكر الإبداعي العربي.
ودعونا، نختصر الكلام ونتعرف على أحدث مؤلفاتها، مولودها الجديد الموسوم ب”أثر الهجرة في شعرية المغاربة اليهود” الذي أقيم له حفل توقيع في رواق وزارة الشباب والثقافة والتواصل بالمعرض الدولي للنشر والكتاب في نسخته السابع والعشرين بالرباط.
فعنوان الكتاب وحده، كان كفيلا، ليأسرني ويشدني إليه شدا، ويسافر بي من وجدة أقصى الشرق إلى رباط الخيل حتى أظفر بغنيمتي الفكرية والأدبية التي هزت دهشتي وفضولي هزا. ومازلت أحتسي تاريخ وذاكرة اليهود المغاربة المهجّرين إلى فلسطين الموعودة ومدى تمسكهم بمغربيتهم بكل ما تحمله من طباع وعادات وطقوس وثقافة عربية وأمازيغية…، زاهدين عن الانخراط في دنيا العولمة والحداثة، ممتنعين عن أي محاولة تذويب لهويتهم الأم. وكذلك مُتعة كشف الفصول المُلغزة للظاهرة الهجروية ليهود المغرب، وبالمناسبة، حري بنا أن نعترف أن الباحثة شادية حامد ضليعة ومتمرسة في مختبر الهجرات، الفلسطينية، حيفاوية المنبت، سليلة عائلة مجاهدة، عاشت وعاينت وعانت من المؤامرات الاسرائيلية الترحيلية المستمرة في حق أبناء فلسطين. وفي المقابل تُفتح الأبواب وتُيسّر السُّبل ليهود العالم للاستيطان إما اقتناعا أو قسرا.
ومن جانب آخر، علينا أن نعترف، أن مؤلفها، خُطوة جريئة، تُضيئ الجوانب المُعتّمة من التهجيرات اليهودية المغربية التي تعتبر من المحرمات والمحظورات. إذ أي خوض أو غوص في موضوع أو بحث له علاقة بيهود الشرق الأوسط، قد يُعتبر دعما وتشجيعا ومناصرة للصهيونية. تقول الدكتورة شادية حامد في هذا الصدد: “قد يشكل وصمة عار لا يمكن أن تخلو من عواقب مهنية وشخصية غير محمودة”. وتتابع الكاتبة: “لكن عزائي، في كون اليهود الذين يدور حول هجرتهم هذا الكتاب، مغاربة ! ليسوا صهاينة).
كما يبدو واضحا، أن شادية هذه المرة، نحت منحىً مختلفا عن السابق، ذلك أن مشروعها البحثي تخطى الجودة و التمكين والقدرة على التعبير القائمة على المهارات والقدرات والأداوات التحليلية… إلى القوة والريادة والتفرد، لامتلاكها الشجاعة والجرأة في الكتابة، القائمة على مبدأي الحقيقة والمساواة .
ف”أثر الهجرة في شعرية المغاربة اليهود”، زخم لأحداث قاسية وتفاصيل حارقة تميط اللثام عن واقع الجالية المغربية اليهودية، نشأت في ظل ثقافة عربية أمازيغية إسلامية داخل واقع اسرائيلي غربي حداثي.
فالمهاجر المغربي الشرقي أو ما يصطلح عليه ب”السفارديم” ظل مغربي الانتماء والاحساس وفيا لخصوصياته ومكتسباته المغربية حتى بعد الهجرة، وأبى أن تحل الهوية الإسرائيلية محل الهوية المغربية. فالمُهَجّرون المغاربة إلى أرض الميعاد والأجداد المقدسة، تلك الوعود الواردة في نصوصهم التوراتية، لم يجدوا رخاء وحياة مشرقة ومشرفة تنتظرهم، بل وجدوا تهميشا وتجاهلا وتمييزا وصراعا بين المحافظة والحداثة، بين الشرق والغرب، بين السفارديم والأشكناز.. وتلكمُ الحقيقة المؤلمة المسكوت عنها في هجرات المغاربة اليهود، الذين حرصوا على تلقين موروثهم وذكرياتهم وثقافتهم وتاريخهم لأبنائهم وأحفادهم. وهو الجانب المضيء في بحث الدكتورة شادية حامد.
فقد قسمت الباحثة كتابها قسمين أساسيين: الأول انصب على الجانب التاريخي لهجرة المغاربة اليهود من مختلف مدن وأقاليم وتضاريس المملكة المغربية مع النظر في أحداثها وملابساتها وأبعادها وظروفها وتفاصيلها…
القسم الثاني: تناولت من خلاله الباحثة، تطور الشعر الشرقي في الأدب العبري، بزعامة جيل حمل مشعل الفكر والثقافة لإخماد نار العزلة والإقصاء والتمييز وتكسير حاجز الصمت. فكان الشعر الركن الشديد والملجأ الحاصن الحاضن لشعراء حفدة اليهود المغاربة، يحتمون فيها من الألم والانكسار ومن وجع الفقد والاغتراب واقتلاع الذات من جذورها ووطنها وترحيلها الى مصير مجهول.
فالقسم الثاني من البحث، “شعر ما بعد الهجرة” أو “شعر الشتات” الذي يدخل ضمن أدب الأقليات، ظل خارج الثقافة الإسرائيلية، لأنها ترى أن العربية غير جديرة بالشرعية كما ورد في الكتاب، وتطرقت إلى العديد من أقلام وأصوات شعرية فخورة بانتمائها الشرقي كصوت الحنين وصوت المعارض وصوت الاصغاء الداخلي وكذلك التصحيح والاصلاح… أصوات وقفت في وجه سياسة التجاهل والالغاء، تبنّت الدفاع عن الذات الشرقية وتطويرها، تعالت أصوات وطفت أقلام يهودية بهوية مغربية تنتصر للغتها الأم وللهجتها المغربية الأصلية. إذ عمد بعضهم الى ادماج مصطلحات مغربية داخل النص العبري كما فعل الشاعر أريز بيطون مثلا في “الكسكس والفران”:
“عندما لم يُبع الكسكس
تكدس الكسكس بكل مكان
على الخزانات والدواليب
على الأسرّة وتحت الأسرّة
ونحن الأطفال أحيانا بضحك
نضعه على رؤوسنا كالقبعة
وأحيانا بتهذيب ومصالحة
نناديه كسكسكسكس”
إلى جانب أريز بيطون نجد نماذج ابداعية أخرى لمعت في اسرائيل، كالشاعر الموغ باهار والشاعر سامي شالوم تيطريت وغيرها من الأسماء الوازنة أبت الا ان تثأر لأسلافها باحياء زمنهم الجميل. تغنوا بحب الوطن وتغزلوا بجمال مغربهم، جعلوا من آهاتهم ولوعاتهم واشتياقهم مدادا لقصائدهم .
لكن على الرغم من ثقل وضخامة مؤلفها الفكري النوعي وما يزخر به من أحداث ومواقف وأبعاد ودلالات، ووسط زخم التفاصيل التاريخية والسياسية والثقافية الواردة في الكتاب… يُلاجظ ضعف الاهتمام بالعنصر النسوي في مشروعها البحثي. قد يبدو سؤالا وجيها أن نتساءل عن موقع المرأة على خريطة المجتمع اليهودي وغيابها عن الفعل الثقافي والسياسي. فلابد من وقفة تأمل وتقييم وإعادة نظر ازاء المكانة التي كانت تحظى بها المرأة اليهودية في ظل بيئة امتزج فيها التراث العبري بالثقافة المغربية الأمازيغية. فهل قلة المبادرات النسائية فيما يخص المشاركة السياسية والتنموية والعلمية يعود إلى تعاليم وعقيدة الديانة اليهودية؟ أم إلى طبيعة عادات وتقاليد وعقليات مغربية ساهمت في إعفاء المرأة اليهودية من الانخراط في دنيا التعليم والتعليم وحصر دورها فقط في مؤسسة الزواج والإنجاب؟؟.
