رسبريس- عربي21
صهرته التجربة وصنعت منه مفكرا وعالما وكاتبا وإعلاميا، ومر بمحنة خبرها كل مفكر حاول تحريك المياه الراكدة ورفض ما لا يتوافق مع العقل.
كثيرا ما دعا إلى ضرورة أن يتعامل المسلمون مع المعطيات الجديدة للعصر ونقد الموروث القديم.
كما كتب في فنون عديدة منها الفكر والأدب والفلسفة والتصوف، وكانت أفكاره ومقالاته تثير جدلا واسعا عبر الصحف ووسائل الإعلام.
ينتهي نسب مصطفى محمود، المولود عام 1921 في شبين الكوم بمحافظة المنوفية، إلى الأشراف وينتسب إلى الأمام علي زين العابدين، بحسب ما نشر عنه.
عاش بجوار مسجد “المحطة” الشهير الذي يعد أحد مزارات الصوفية في مصر مما ترك أثره الواضح على أفكاره وتوجهاته.
وفي منزل والده أنشأ معملا صغيرا يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية لتشريح الحشرات، وحين التحق بكلية الطب اشتهر بـ”المشرحجي”، نظرا لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى، طارحا التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما.
دخل كلية طب قصر العيني جامعة القاهرة وتخصص في جراحة الدماغ والأعصاب وتخرج عام 1953 لكنه ما لبث أن تفرغ للكتابة والبحث عام 1960.
كثيرا ما اتهم بأن أفكاره وآراءه متضاربة إلى حد التناقض إلا أنه لا يرى ذلك، ويؤكد أنه ليس في موضع اتهام، وأن اعترافه بأنه “كان على غير صواب” في بعض مراحل حياته هو درب من “دروب الشجاعة والقدرة على نقد الذات”، وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالعناد فتأخذهم العزة بالإثم.
لم يكن مصطفى محمود بعيدا عن ظهور التيار المادي في الستينات من القرن الماضي وظهور الوجودية، يقول عن ذلك: “احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين”.
نحو 30 عاما من المعاناة والشك والنفي والإثبات، قرأ عن البوذية والبراهمية والزرداشتية، ومارس تصوف الهندوس.
لكن الثابت أنه في فترة شكه لم يلحد فهو لم ينف وجود الله عز وجل بشكل مطلق، ولكنه كان عاجزا عن إدراكه، كان عاجزا عن التعرف على التصور الصحيح للذات الإلهية.
حياة طويلة وروحية عميقة أنهاها بسلسلة كتب أثرت المكتبة العربية وصلت إلى نحو 48 كتابا، من أكثرها شهرة وتداولا “حوار مع صديقي الملحد”، “رحلتي من الشك إلى الإيمان”، “التوراة”، “لغز الموت”، “لغز الحياة”، وغيرها من الكتب العميقة في منطقة فكرية شائكة.
دخوله إلى عالم التلفزيون كان عبر مشروع برنامج “العلم والإيمان”، الذي أخفق في البداية ولم ير النور إلا من خلال رجل أعمال أنتج البرنامج على نفقته الخاصة ليصبح من أشهر البرامج التلفزيونية وأكثرها انتشارا في العالم العربي.
ولم يكتب للبرنامج الاستمرار فقد توقف بعد 400 حلقة، بقرار صدر من الرئاسة المصرية إلى وزير الإعلام آنذاك صفوت الشريف، بحسب ابنه أدهم.
كان صديقا شخصيا للرئيس السادات، وقد سبق أن عرض السادات الوزارة عليه فرفضها قائلا: “أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي الأسرة، فأنا مطلق، فكيف لي أن أدير وزارة كاملة؟”.
رفض الوزارة كما سيفعل بعد ذلك جمال حمدان مفضلا التفرغ للبحث العلمي.
كما ركز مصطفى محمود جهوده حول توضيح خطر الصهيونية، وكتب حولها 9 كتب أصدرها خلال حقبة التسعينيات، تتضمن أطروحته الفلسفية حول جذور هذا الخطر وحاضره.
ولعل هذا المجهود الفكري من جانبه هو ما دفع أسرته وعددا من المهتمين لاتهام دولة الاحتلال بالوقوف وراء منع “العلم والإيمان” من العرض على التلفزيون المصري.
ومارست الجماعات الصهيونية ضغوطا على صحيفة الأهرام لوقف مقالاتهِ، والتي وصلت إلى مرحلة دفعت سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات أسامة الباز للضغط على الأهرام لوقف التعامل مع مصطفى محمود.
لخص محمود رؤيته للسلام بين العرب مع الكيان الصهيوني، بأنه عقد إذعان أكثر من كونه اتفاقا وتراضيا، وبأنه طريق مرصوف بالجحيم.
وعبر سلسلة الكتب التي تناولت الخطر الإسرائيلي، تطرق إلى كثير من الخطط الصهيونية، ومنها تشويه الإسلام عبر استخدام إسلاميين متطرفين لتدمير الحضارة الإسلامية من الداخل، والتحكم في منابع النيل، وإثارة الحروب والفتن الطائفية والعنصرية بين المسيحيين في الجنوب ومسلمي الشمال في السودان.
بالإضافة لعلاقات الاحتلال بالحبشة وإريتريا وتسليحهما وإمدادهما بالمعدات العسكرية، ووضع عينه على بوابة البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي وجزر البحر الأحمر.
لم يقتصر نتاج محمود على الفكر فقد كتب مجموعة من الأجناس الأدبية ما بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة، وتجسدت في أعمال مثل “شلة الأنس”، “العنكبوت”، “المستحيل”، “العنب المر” و”نار الحب”، وغيرها التي تحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية.
تعرض لأزمات فكرية كثيرة كان من أشدها، عندما قدم للمحاكمة بسبب كتابه “الله والإنسان” وطلب الرئيس المصري جمال عبد الناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة بناء على طلب الأزهر باعتبارها قضية كفر إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب، بعد ذلك أبلغه الرئيس المصري محمد أنور السادات أنه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخرى.
وتعرض أيضا لأزمة أشد في كتاب “الشفاعة”، أي شفاعة رسول الله في إخراج العصاة من المسلمين من النار وإدخالهم الجنة، عندما قال إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث، وأن الشفاعة بمفهومها المعروف أشبه بنوع من الواسطة والاتكال على شفاعة النبي وعدم العمل والاجتهاد أو أنها تعني تغييرا لحكم الله في هؤلاء المذنبين.
هوجم الرجل بشكل غير مسبوق وصدر نحو 14 كتابا للرد عليه واتهموه بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الديني.
حاول أن ينتصر لفكره ويصمد أمام هذا التيار الجارف، إلا أنه هزم في النهاية.
مصطفى محمود لم ينكر الشفاعة أصلا، رأيه يتلخص في أن الشفاعة مقيدة أو غيبية إلى أقصى حد وأن الاعتماد على الشفاعة سيؤدي إلى التكاسل عن نصرة الدين والعمل لدخول الجنة، والأكثر إثارة للدهشة أنه اعتمد على آراء علماء كبار على رأسهم الإمام محمد عبده، لكنهم حملوه وحده وزر الاجتهاد.
كانت محنة شديدة أدت به إلى أن يعتزل الكتابة وينقطع عن الناس حتى أصابته جلطة، وفي عام 2003 أصبح يعيش منعزلا وحيدا.
وبعد رحلة علاج استمرت عدة شهور رحل عن عمر ناهز 87 عاما، ولم يحضر التشييع أي من المشاهير أو المسؤولين الرسميين ولم تتحدث عنه وسائل الإعلام إلا قليلا مما أدى إلى إحباط أسرته.
لكن الإعلامي وائل الإبراشي قال إن مصطفى محمود “كان يمثل خطرا على إسرائيل لأنه كان الوحيد الذي يرد على ادعاءاتها من خلال قراءته المتأنية في العقائد والتاريخ والعلوم، وهو ما تسبب في حرج شديد للمسؤولين في الدولة، مما قد يفسر تخليهم عنه في محنة مرضه وحتى لحظة وفاته”.
وبعد رحلة العمر الطويلة لم ينس مصطفى محمود تحديد هويته بصورتها النهائية بقوله: “ولو سئلت بعد هذا المشوار الطويل من أكون؟! هل أنا الأديب القصاص أو المسرحي أو الفنان أو الطبيب؟ لقلت: كل ما أريده أن أكون مجرد خادم لكلمة لا إله إلا الله، وأن أكون بحياتي وبعلمي دالا على الخير”.
13 عاما على رحيله ولا يزال في ذاكرة المصريين والعرب بوصفه صوفيا زاهدا وعالما مستنيرا وفيلسوفا وطبيبا ومفكرا غزير العلم والمعلومات والنتاج.
ولا يزال مستشفاه الذي شيده بالجيزة جنوب القاهرة يذكر به دائما، وما زالت أعماله الخيرية باقية تؤدي دورها في خدمة المحتاجين والفقراء الذين كان يعتني بهم الرجل الزاهد الذي تعب من كثرة المعارك التي أثيرت حول أفكاره واجتهاداته وآثر العزلة والرحيل بهدوء.