تقديم وانجاز : حياة جبروني
شاعر القصيدة السعودية الحداثية، صيرورة إبداعية متفردة للمكابدات الإنسانية والوجودية.
شاعر الجمال وروعة الإحساس، يبدع على وقع ماض بعيد، مقرون بواقع مأساوي حاضر مأزوم وغد مجهول مخيف.
شاعر الحزن والأسى العارم والإنسانية المهدورة. والأرض خير شاهد على واقعها وضعفها وآهاتها.. …
شاعر القلم والكلمة الصادقة تهفو إلى تغيير العالم لصالح الإنسانية.
إنه محمد بن ناهض القويز، الشاعر، الكاتب، الطبيب العربي ابن المملكة العربية السعودية، مملكة الحضارات، موطن الحجاز ومكة والمدينة المنورة. أرض عكاظ، مجنة وذي الحجاز. شاعر ترعرع في كنف اللغة الأم، عشقها وتنشق شعرها، فأصبح مبدعا من رواد فتنة اللغة الشعرية والكلمة العميقة، المدهشة، المفجرة لذات الشاعر الملغومة بالحزن والضيق… يصبغ الكون بالأسود والأحمر، يجسد بقوة من منظوره الفلسفي استحالة الحياة فوق أرض كلها جرائم وعبودية وانتهاكات ضد الإنسانية، خصوصا إذا كنا أمام شاعر خبر أهوال الظلم والفساد والخراب وقتل الأبرياء من جراء الحروب التي شهدتها شبه الجزيرة العربية ولم يكن الشاعر محمد القويز في منأى عنها، إذ أنتج لنا شعرا يخفي صرخة مدوية ضد وحشية الإنسان، ينبذ الشر والشراسة والعنف ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ومحبة في هذا الشاعر الألمعي ورغبة في التعرف عن قرب على بعض تجاريه الحياتية وآرائه ومواقفه، كان لنا هذا الحوار النوعي المليء بصدق المشاعر وخالص الإحساس.
*بداية نرحب بكم شاعرا وأديبا في هذا الحوار الشعري، لنتقاسم التجارب والمشاعر الإنسانية والوجدانية النقية، فليتفضل ضيفنا مشكورا للإجابة على بعض التساؤلات والاستفسارات أملتها الحاجة الملحة لمعرفة غيض من فيض الشاعر العربي السعودي محمد بن ناهض القويز.
س: قبل كل شيء كيف تريد أن تقدم نفسك لمحبيك ومتتبعيك؟؟
ج: قبل أن أقدم نفسي أتقدم بالشكر للأستاذ مصطفى قشنني ولك أستاذة حياة ولأسرة رسبريس على هذه الاستضافة والتغطية الرائعة .
ثم أستأذنكم في تقديم نفسي في صيغتها الفكرية حيث تتجلى كأمواج من أفكارٍ تلازمني فأصيغها شعراً في مجال الشعر وأنثرها نثراً في مجال النثر وأشبعها بحثا وتفصيلا في مجال الطب
وبما أننا نتناول في مجال الشعر فسأقدم نفسي كمؤلف لشهادة الأرض وصاحب ديوان الإبحار إلى أن يأتي بعد شهادة الأرض ما قد يواكبها
س: بمناسبة الاحتفال الأخير باليوم العالمي للغة العربية وهو يوم 18 دجنبر تكريما للغة الضاد وللمكانة الكبيرة التي تحتلها بين لغات العالم. كيف حال اللغة العربية اليوم؟
ج: لا شك أن اللغة العربية تنحّت من حياتنا اليومية مجبرةً، وأصبح لزاما علينا أن نتعلم لهجات بعضنا لنفهم بعضنا. والأدهى والأمرّ يظهر في تكسير اللغة العربية في بعض البلدان العربية “لغة العمالة الآسيوية” في سابقة لم تحدث مع أي لغة أخرى في العالم نشأ عنها مسخاً قبيحا. برغم هذا العزوف ماتزال اللغة العربية هي لغة الرواية والشعر والأدب والمناسبات. لكنها بعيدة إلى حد ما عن العلوم الطبيعية وعن لغة البرمجيات والذكاء الاصطناعي ولغة الاقتصاد والفضاء، وهذا يتطلب تغييرا جذريا في طريقة تدريس اللغة العربية لتستوعب كل ماذكرنا وأكثر
س: هل تشعر أنك حر كشاعر تمارس طقوس الكتابة بكل حرية؟ بمعنى شعر طافح من ذاتك الشاعرة ومن قلب الشاعر الذي ينبض أملا وتغييرا وعدلا؟
ج: بلا شك أمارس حريتي في الصياغة الشعرية حيث أن التحرر من جميع القيود شرط من شروط الإبداع بجميع أنواعه. التحرر هنا إرادة عملية مقصودة تتجاوز كل القيود حتى الذاتية منها، فمثلا “الأنا” التي عادة ما تصاحب إبداع الشعراء غائبة تماما في ديوان شهادة الأرض. إنه تحرر كامل بجمل شعرية تصبح ملك المتلقي بعد نشرها.
س: هل الشعر ملاذكم المفضل يحتويك ويحتوي اغترابك وحزنك وقلقك، أم فقط فسحة نفسية وتنفيسية للانتشاء والاستمتاع بلذة النسيان أم لك مآرب أخري؟
ج: الشعر للشاعر كالبحر للسمكة فهو قدره شاء أم أبى. شِعري معي في كل أحوالي، لكنني أُنزهه من أن يتطفل على المناسبات أو يدلف إلى حظيرة الهجاء أو أن يتزلف ممدوحا أو أن ينتفش مفتخراً.
برغم ذلك قلت عن شعري:
خيالي جَموحٌ بدون لجام
وعقلي يحلّق فوق الغمام
وإن قلتُ شعراً بساحاتهم
تضجّ الحناجر بالياسلام
وبرغم أن هناك قصائد قليلة تأثرت بمواقف معينة إلا أن أغلب قصائدي هي صناعة الفكر والخيال والمشاعر الإنسانية
ولنأخذ قصيدة أبوّة من ديوان الإبحار فهي ترصد مشاعر أربعة أجيال في بناء درامي يفاجئك بنهايته
س: كغيرك من الشعراء العرب الحداثيين، هل منحتك القصيدة فرصة التأمل في ذاتك ووجودك وكيف؟
ج: القصيدة منحتني الوسط الخاص بي الذي أصوغ فيه أفكاري ممزوجة بالخيال والاستشراف حول قضايا أكبر من ذاتي الشخصية، فما ذاتي إلا قطرة في بحر الإنسانية الهائج الذي اخترت أن أمخر عبابه بمراكب شعري متجاوزاً كل ماهو شخصي. بالطبع هناك قصائد أخرى أجسد فيها العلاقات على مختلف المستويات مع الأسرة والأصدقاء والوطن. مثل هذا التناول هو الذي يمثلني.
س: الشعر رسالة إنسانية وفعل إنساني، فهل الواقع الإبداعي الحالي يعبر عن هذه الرسالة؟
ج: الحكم على ذلك متروك للنقاد الذين يرصدون نتاج الساحة الشعرية . ويرصدون مدى تماهيه مع رسالته الإنسانية. لكن على المستوى الشخصي شهادة الأرض عمل إنساني خالص. وكذلك مشروعي الشعري القادم أرجو أن يخرج بشيء جديد في مجال الصياغة والفكر.
س: يقولون دم الشعراء مشترك رغم الاختلافات الجنسية والجغرافية والثقافية، كيف كان دمكم وإحساسكم وأنتم بمدينة وجدة المغربية بين شعرائها ومبدعيها؟
ج: كان هناك انسجام مشترك حيث استمتعنا بما كنا نتسامر به من أشعار بيننا، وبرغم أن الأساليب الشعرية متباينة إلا أن الجمال ظاهر بل محفز للجديد من الشعر، وبالفعل كان هناك استجابات شعرية وُلِدت مع سماع الأشعار التي صدح بها أصحابها أو مع قراءة الدواوين التي تبادلناها.
في وجدة شعرت بأنني بين أهلي وأن عمق العلاقة تجاوز الزمن حتى شعرت كأنني في موطني.
س: هل”شهادة الأرض” صرخة ضد الشر واللا إنسانية، أم وليدة ظروف حياتية أخرى لها أسرارها الخاصة؟
ج: شهادة الأرض قصيدة تمثلني وتمثل أفكاري وفلسفتي لم تكن وليدة ظرف أو حدث بل صياغة فكر فيها الخير والشر وفيها مستويات متعددة من العلاقات البين بشرية وعلافة البشر مع بيئتهم
س: ألا ترون معي أن ديوان “شهادة الأرض” ينطوي على نظرة سوداوية شيء ما، فرغم الواقع المر الذي نعيشه منذ بداية البشرية، أليست الأرض كما أنها حبلى بالشر والفتن، كذلك هي حبلى بالخير والمواقف الإنسانية العظيمة؟ ألا يمكن أن تشهد الأرض على كل ما هو جميل ونبيل، كما شهدت على كل ما هو قبيح وفظيع؟؟ لماذا كان تركيزكم فقط على جانب الشر والجرم والدم والدمار؟
ج: هو كذاك، لأن شهادة الأرض رصدت حقائق عاشتها الإنسانية بدون تضخيم، بل إن بعضها كان استشرافا لما قد يحدث، وقد كنت أتوقع حدوثه وبالفعل حدث. كما في متوالية الإرهاب التي كتبتها عام 1994
لم نعد نحكي عن العنقاء والغول المخيف
غولنا الإرهاب والقصف العنيف
توأمان خُلقا من رحمه الله ظلمٍ وظلام
فإذا كلٌ عدوٌ للسلام
ومع ذلك هناك إشارات إلى النواحي الإيجابية في سياقها:
ليس ماقلت تشاؤم
فبناء الأمس قائم
إنما أخشى عليكم
من غدٍ غرس يديكم
ولو قارنا منتصف التسعينات بهذه الأيام لوجدنا أن الأمور زادت سوءا على المستوى الإنساني
يابني: قد قطعت العمر أجزاءً.. وأجزاء
ورأيت الخير بادٍ كالضياء
وعلوماً.. وتطور
وتباشيَر حقول..
وثمارًا من عقول
إن ترى هذا جميلا
وهو في عيني جميل
لكن هذا الجمال لايُخفي مالا يشغل الإنسان العادي مما يدركه الشاعر والمفكر المسكون بالهمّ الإنساني
فاستعر عينيَّ ياابني كي ترى
أمماً من دون ماءٍ أو غذاء
ليس للأسماء فيها أي قيمة
فهناك الكل ضائع
ولهم إسمٌ لكل الناس جامع
فهناك الاسم جائع
ليس مهمة الشاعر أن يتغنى بالجمال بينما الملايين يموتون جوعاً أو يقعون ضحايا حروبٍ لا تنتهي وإرهاب لايُميز
س: لماذا غاب توظيف الرمز الأسطوري في المجموعة الشعرية “شهادة الأرض” لما لها من طاقات إبداعية فاعلة ومؤثرة في الشعر خصوصا الشعر الحديث؟
ج: الرمز الأسطوري المسيطر على الملاحم تفاديته عمدا لهذا لن تجد لهذه القصيدة بطلا يركب البحار ويحارب الأشرار تبدأ به القصيدة ويفرض سيطرته على سياقها
مع ذلك فإن عنتر وعبلة في القصيدة رمزان أسطوريان لأول ولادة لأسود وسوداء ولا علاقة لهم بعنترة ابن شداد ولا عبلة بنت مالك.
إبداع الشاعر لا يتناول التاريخ موثقا له ولا مجتراً له، بل يعيد صياغته بما يخدم فكرته ويستعير من شخوصه رموزا ليوظفهم في شعره. وسيظهر المزيد من ذلك في مشروعي القادم
س: من خلال مجموعة شهادة الأرض نلاحظ توظيف مسهب للتشكيل.. ما الهدف الفني والجمالي من ذلك. ألا تتفقون معي أن كثرة اللوحات التشكيلية شوشت نسبيا على معمارية المجموعة الشعرية؟
ج: أتفق معك 100%، وقد كان ذلك سببا في تأخر الطباعة لأنني لم أكن موافقاً على أن يتخلل النص شيئا من التشكيل، حيث أن للنصّ استمرارية لن تسلم من تشويش التشكيل.
كان رأيي أن يطبع النصّ لوحده ثم يتبعه ملحق يحتوي اللوحات بعنوان الترجمة الأولى تشكيلية بريشة الفنان ابراهيم النغيثر، لكنني لم أجد من يؤيد هذا الرأي لا في لبنان ولا مصر ولا سوريا، لهذا تركت للمخرج أن يخرجها كما يشاء وإلا لو تدخلت فلربما ماكانت لترى النور. الجدير بالذكر أن كل شعراء ونقاد وجدة أيدوني في فصل النصّ عن التشكيل، وهذا ماسيحدث مع الطبعة القادمة
*كلمة أخيرة للشعراء وعشاق الشعر؟؟
ج: للشعراء، واصلوا الإبداع ولا تحبطوا من قلة الإقبال.
أما عشاق الشعر، فهم روحه النابض وهم غمامة الشعر المطيرة وهم رجع صدى الأشعار وبدونهم لن يكون للشعر صدى. وفي هذا المجال أشكر الفنان كاظم الساهر الذي استمر في غناء النصوص العربية الفصيحة ليقدمها في قالبٍ غنائي للجمهور