يعتبر سيغموند فرويد واحدا من أشهر أعلام العصر الحديث، إذ تجاوز كونه طبيبا ومحللا نفسيا، ليصبح رمزا يحضر شخصه إلى جانب نصوصه في القطاعات الفنيّة والتسويقيّة والثقافيّة، كما أنه عرّاب تفسير الأحلام في الثقافة الشعبيّة، وفي ذات الوقت مرجع هام لأي مهتم بدراسة الظاهرة الإنسانيّة، فالعوالم التي افتتحها بُكتبه شكّلت غواية للكثيرين، وأعادت تكوين رؤية الفرد لذاته، وساهمت بجعل البشرية تعيد النظر بشروطها وتاريخها.
متحف التراث اليهودي في باريس يحتفل بالذكرى العشرين لتأسيسه بمعرض بعنوان “فرويد من البصر إلى الاستماع”، وفيه نتتبع مسيرة طبيب الأعصاب والمحلل النفسيّ النمساويّ منذ كان طالبا إلى حين وفاته، إذ نتعرف في المعرض على الأدوات والمخطوطات والكتب واللوحات التي استخدمها أو رآها أو قرأها، ما يعطينا فكرة عن الأشكال الثقافيّة التي تعرض لها فرويد، وما كان يحيط به في كلّ فترة من حياته، لنكتشف تجليات هذه المُنتجات الثقافيّة في أفكاره وكتبه، إلى جانب تلمسنا للأسلوب الذي كان يبني فيه موضوعاته، سواء كان يعتمد على ما يراه ويقرأه من التراث الفني والثقافيّ، أو ما يستنتجه من “كلام” مرضاه الذين شكّلت أحلامهم وحكاياتهم الأساس التجريبي لنظريته في التحليل النفسي.
أول ما يثير الانتباه في المعرض هو عيادة فرويد (الكابينة) أو الغرفة التي كان يقوم فيها بالتحليل النفسي، والتي نلاحظ أنها أقرب لمتحف أو معبد من نوع ما، لنكتشف أنه تأثر بأستاذه في فرنسا جان مارتن شاكروت، الذي كانت عيادته مليئة باللوحات والقطع الأثرية، ما دفع فرويد للمواظبة على جمعها، لتتحول عيادته إلى مساحة بصريّة تعكس الموضوعات التي عمل عليها، فاهتمامه بالهيستيريا النسائية نراه في نسخة كان يمتلكها للوحة “درس طبيّ في المستشفى” للفنان الفرنسي أندريه بروي، كذلك نرى إناء يونانيا عليه رسم أوديب والسفينكس، وتمثالا مصغرا لموسى الذي نحته مايكل أنجلو في إحالة نوع ما إلى كتابه “موسى والتوحيد”.
لم يقدم فرويد تفسيرا رسميا لسبب اقتنائه لهذه التحف التي تنتمي لعصور مختلفة، إلا أن المتابع يرى أنها حاضرة في نصوصه وآرائه، بسبب انشغاله بالظاهرة الثقافيّة بوصفها انعكاسا رمزيا للنشاط الإنسانيّ، كما أن اهتمامه بالأعمال الفنيّة بوصفها أعراضا مرضيّة، يجعل منها أقرب لأن تكون تأريخا غير رسمي للاوعي ورغباته.
المثير للاهتمام أن مكونات عيادة فرويد المادية أصبحت موضوعات فنيّة يتبناها الفنانون الآن، إذ تحولت من أثاث وظيفيّ إلى أدوات طوّرها فرويد لإنتاج “الكلام” من مرضاه، كما نرى في المجسمات الذهبيّة الصغيرة التي صنعها الألماني هانز هولين، في احتفاء أيقوني بها، بوصفها تختزل مفهوم التحليل النفسي وترسم العلاقة بين الطبيب ومريضه، وتخلق وضعيّة “الاعتراف” لاكتشاف اللاوعي وما يختزنه.
يحوي المعرض أيضا الآثار الطبيّة التي تركها فرويد بداية عمله كطبيب أعصاب، إذ نشاهد مخطوطات ورسوما تشرح عمل الجهاز العصبيّ، بعدها نشاهد الكتب التي اطلع عليها بعد تأثره العميق بنظرية التطور الداروينيّة، وخصوصا الرسوم العلميّة التي توضح مراحل تطور عقل الإنسان، والتي أنجزها عالم الأحياء الألمانيّ إرنست هيكل لرصد التشابه التشريحي بين مختلف أنواع المخلوقات الحيّة.
نتلمس في المعرض اهتمام فرويد بتطبيقات العلوم والأدوات الكهربائية لعلاج الأمراض العقليّة، التي كان يعتقد بداية أن منشأها خلل في التيار المغناطيسيّ الذي يمرّ في الجسم، إذ نشاهد الوعاء المُمغنط الذي طوّره الطبيب والمعالج الفرنسيّ فرانز أنطوان مازمير، والذي ادّعى أن اختراعه هذا يعيد التوازن للجسم ويشفي من الأمراض، عبر استخدام الحقل المغناطيسي الحيوانيّ وإعادة توجيهه. كذلك نطّلع على المراجع التي استقى منها فرويد معارفه عن الهيستيريا والتي اتضح مفهومها له بعد اطّلاعه على المخطوطات والرسوم التي أنتجها الطبيب والرسّام التشريحي بول ريشير، لشرح آثار الهيستيريا وأعراضها وأطوارها، والمثير للاهتمام أن هذه الرسوم تتجاوز صيغة الملاحظات الطبيّة والشروحات التوضيحيّة، كونها تحوي خصائص فنيّة وجماليّة، تسللت إلى الأشكال الثقافيّة الأخرى كالبوسترات والإعلانات، وهذا ما نراه في صورة المرأة المقوسة الظهر، التي حسب تعبير فرويد لديها خلل في الشهوة الجنسيّة وأشكال تفريغها، ما جعلها توظّف أكثر في الثقافة الشعبيّة كنموذج للمرأة شديدة الشبق. نطّلع في المعرض على المراسلات بين فرويد وأندريه بريتون، ونقرأ كيف خاب أمل بريتون حين زار فرويد في فيينا عام 1921 ليحدثه عن السورياليّة، فعراب التحليل النفسيّ قال لبريتون حينها إنه لم يفهم ما هي السورياليّة ولا المانيفستو الذي كتبه بريتون لاحقا وأرسله لفرويد، مع ذلك احتفت مجلة الثورة السورياليّة بفرويد وترجمت عددا من مقالته، إلى جانب اعتماد روادها على الكثير من المفاهيم التي طورها فرويد لاكتشاف اللاوعي، كالكتابة الآلية والتنويم المغناطيسي وأحلام اليقظة، إلا أن موقف فرويد تغير لاحقا، حين التقى بسيلفادور دالي في لندن عام 1938، والذي كان معجبا بالمحلل النفسي الشهير ورسم ثلاثة بورتريهات احتفاء به، كما سمّاها “تحولات نرسيس
عمار المامون
ابو غفرانمنذ 6 سنوات
كيف تطور علم النفس؟ ؟؟ كان لايؤمن به حتى فرود نفسه. .لو طمأنة أحد أصدقائه له وتحفيزه له على أن هاته التي تعتبرها من الخزعبيلات سيأتي عليها حين من الزمان وتصبح علم قائم ومهم وكذالك سار. ..