تلك الأسئلة المحيرة عن الموت التي تبقى دون إجابات بعد الحياة، هذا ما دفع الصحفي الألماني رولاند شولتس إلى تأليف كاتب عن الموت وعالمه الغامض، يناقش فيه مشاعر المقبلين على الموت وذويهم بشكل مرهف وموضوعي.
الموت أمر لا مفر منه مهما طال بنا الزمان، ولكن المجتمعات الحديثة غالباً ما تتهرب من ذكر الموت، بل وحتى تتجاهله. الأمر الذي دفع الصحفي الألماني رولاند شولتس في كتابه “هكذا نموت” إلى تناول هذه القضية التي نادراً ما تحظى بما تستحق من اهتمام.
وتعامل شولتس مع الموت من وجوه كثيرة وبحثه بشكل مستفيض، إذ يمنح مساحة في كتابه للأطباء ومتعهدي دفن الموتى ومقدمي الرعاية الروحية وأهل المتوفى، بل والمحتضرين أنفسهم، وما يساورهم من مشاعر، وذلك بشكل مرهف وموضوعي.
آليات جسمانية
في البدء يشرح شولتس ما هي الآليات الجسمانية التي تسبق الموت الحقيقي، وبينها أن الدم لا يكاد يصل إلى الأصابع أو أطراف القدمين “حيث يصبح هذا الدم ضرورياً في مكان آخر، أي في الرأس، في قلب جسمك، حيث تقع الرئة والقلب والكبد”
تبرد القدمان، ويصبح التنفس ثقيلاً، وتتلاشى الحواس “ويبدأ جسمك يودع الحياة”. وأحياناً يتعرض المشرفون على الموت لضغط من قبل الأصحاء، حيث يرى المحيطون بالمحتضر أنه لا تزال هناك إمكانية لمداواته إذا بُذِلت جهود مناسبة، وهو ما يراه شولتس علامة على مدى تجاهل الموت “فهي ظاهرة متناقضة، حيث أن الموت لا يزال حاضراً في كل الأرجاء، حتى في العصر الحديث، نراه كل يوم في الصحيفة، وكل مساء في التلفاز، وعلى مدار اليوم في الإنترنت، ولكننا لا نكاد نبصره في حياتنا اليومية”.
ويقول شولتس إن بعض الناس لا يرون أول جثة في حياتهم إلا في سن 50 أو 60 عاماً. ووفقاً للأطباء، يجب أن يتسم التعامل مع المحتضرين باستكانة واحترام، ولكن تعاملنا مع المشرفين على الموت لا يتميز بهاتين الصفتين، في أكثر الأحيان.
ويمكن للمحتضر أن يتجنب فكرة: ما حدث لتوه الآن حدث لآخر مرة: آخر مرة أمام البحر، وآخر مرة في الجبال، وفي العمل، وفي قيادة السيارة، وآخر مرة ينام فيها مع الإنسان الذي يحبه، وآخر ثلوج رآها، وآخر مرة دفع فيها فاتورة في مطعم”.
الموت يظهر جمال الحياة..
ويتساءل شولتس: في أي مكان تتجه إليه عين المقبل على الموت – بصرف النظر عما يقوم به- فإن الموت يخيم على جميع أفعاله “وهو ما يظهر جمال الحياة”. ويبدأ عالم المشرف على الموت في التلاشي، وتصبح وتيرة أنشطته أصغر فأصغر، وبتباعد الناس عن الأماكن القريبة منه، يصبحون بعيداً عن متناوله “فأنت تودع الأماكن، تودع الأشخاص، ثم في النهاية تودع نفسك”.
ويقول المؤلف: “بعض المقبلين على الموت يبحثون عن عزاء في حقيقة أنهم ليسوا آخر من مات، فهم يموتون كما مات آباؤهم، وأجدادهم وآباء أجدادهم، إلى آخر عضو في سلسلة القرابة”. ويرى المؤلف أن تاريخ البشر يعود إلى نحو 8000 جيل، ويعتقد خبراء الإحصاء الذين قدروا هذه الأعداد أن الآدميين الذين عاشوا وماتوا على الأرض وصلوا إلى نحو 200 مليار إنسان.
وفي هذا السياق يوضح شولتس أن سبب خطأ من يتصور النهاية كما لو كانت في آلة بسيطة ينكسر فيها جزء مهم، ويقول إن جسم الإنسان أكثر تعقيداً من ذلك، بما فيه من أكثر من 200 عظمة وأكثر من 600 عضلة، وقلب يدق أكثر من 100 ضربة في الدقيقة، ورئة تتنفس آلاف المرات يومياً، ومخ به نحو ثلاثة أرطال من الأنسجة، “فأنت تتكون من مليارات من الأجزاء بالغة الأهمية المكونة في جسمك، بعضها يصلح نفسه بنفسه على مدار الحياة، وبعضها يوجد بشكل مزدوج، مثل الرئتين، والكليتين، وقناة فالوب والخصيتين، فأنت لست آلة بسيطة، بل نظام صمم ليتعطل يوماً ما، إنه أكثر تعقيداً من أي مفاعل نووي”
… لكنه أصعب ما يلاقيه الإنسان
يمكن للمشرف على الموت، وفقاً للمؤلف، أن يأسف على أشياء لم يكن يعي أهميتها، حيث يبدأ في إدراك عدد الأحلام التي لم يستطع تحقيقها، بل أسوأ من ذلك، أنه لم يعش أبداً. ولكنه نادراً ما يخاف من الآلام غير المحتملة “فالألم هو الشيء الذي يجيده الموتى من بين جميع جوانب الموت”.
ويتناول شولتس بشكل ناقد فكرة المسارعة في التصالح مع الأهل قبل الموت، تلك الفكرة الشائعة “وكأن الساعات تكون قادرة على أن توحد ما فصلته السنون”. ويرى المؤلف أن مثل هذه اللحظات الحماسية تنبع من تصور الإنسان أن الموت يمكن أن يمثل إحدى نقاط الذروة في الحياة، ختاماً متوجاً للحياة، ذروته وفاة طيبة جميلة “فمثل هذه الأفكار لا يبوح بها سوى الناس وهم في صحتهم”.
ويعتقد شولتس أن “الموت ليس جميلاً… إنه أصعب ما يلاقيه الإنسان في حياته، قاس ومؤلم، ورغم ذلك فهو جزء من الحياة… من الصعب الاعتراف بذلك، سواء بالنسبة للمحتضر أو الأصحاء”.
إلى جانب ذلك، يقدم الكتاب اقتراحات ملموسة عن كيفية تهدئة الشعور بضيق التنفس من خلال الشهيق، وأنه يجب عدم استخدام المحاليل الطبية ضد الشعور بالعطش، بل يفضل بدلاً من ذلك وضع مكعب شاي مجمد على اللسان. كما يوضح مؤلف كتاب “هكذا نموت” أن الزجاجات الرشاشة فكرة طيبة، بالمياه والعصير ، كل بحسب ما يحب.
ويرى شولتس أن شهادة الوفاة هي أهم وثيقة في عالم الموتى “أهم من بطاقة الهوية في حياة الأحياء”. ويقول في ختام كتابه: “تمنيت لو أني وفقت لشرح أكثر جوانب الموت حزناً في حياتنا، بشكل أكبر من ذلك… انتابني شعور في بعض الأحيان بأن لهذا الكتاب تأثير مبالغ في الدفء ومبالغ في اللطف، مقارنة بالظروف التي يموت الإنسان، ويدفن، فيها”. إن كتاب “هكذا نموت”، كتاب مؤثر، صيغ بشكل مميز، ويخاطب القارئ في جميع صفحاته بصيغة “أنت” البسيطة، ويعرض له حقائق مثيرة للغاية. إنه يقدم عزاء لقارئه، وتوعية واقتراحات عملية، وغير ذلك الكثير. كتاب موفق جداً، عن موضوع الموت الذي قلما نتذكره.
ع.غ/ ع.ج.م “د ب أ”