الدكتور و الباحث الأكاديمي مصطفى نشاط المختص في التاريخ في حوار ل”رسبريس” حول معاناة المغاربة مع الأوبئة عبر التاريخ..

admin
2020-04-19T20:46:25+02:00
حوارات وبروفيلات
admin19 أبريل 2020آخر تحديث : منذ 4 سنوات
الدكتور و الباحث الأكاديمي مصطفى نشاط المختص في التاريخ في حوار ل”رسبريس” حول معاناة المغاربة مع الأوبئة عبر التاريخ..

. رسبريس

في خضم ما يعيشه المغرب والعالم من آثار مُقلقة ومرعبة لجائحة “كورونا” التي هزّت  النفوس و قضّت مضجع الأمم، ارتأينا في جريدة “رسبريس” الإلكترونية استضافة الأستاذ الأكاديمي مصطفى نشاط  المختص في التاريخ، لتقريبنا من تاريخ الأوبئة في المغرب وكذا استحضار علاقة المغاربة مع مختلف الجوائح التي كانت تأتي على الأخضر واليابس .. لنتابع الحوار :

1- ما هي أهم الأوبئة التي عانى منها المغاربة عبر تاريخهم؟:

ورد عند الحسن الوزان في كتابه وصف افريقيا أن الأوبئة كانت تحلّ بالمغرب من خلال دورية حدّدها في عشر سنين أو خمسة عشر سنة أو خمسة وعشرين سنة. وباستحضار باقي الجوائح التي كانت تجتاح المغرب عبر تاريخه، من قحوط ومجاعات وغيرها، فيمكن القول بأن تلك الجوائح لم تكن تترك للمغاربة هامشا طويلا من أجل الاستراحة . ولا شك في أن الجوائح كانت من أهم مصادر خوف المغاربة في تاريخهم ، وتترجم مجموعة من الأمثال المتداولة بينهم درجة معاناتهم من الجوائح ، خاصة حينما تصبح متزامنة فيما بينها ، مع ما ينجر عنها من خصاصة، ومن هذه الأمثلة:”اللي خزن القمح ما يندم” و ” العام المكشوف شي ياكل وشي يشوف” ….ولعل ما يكشف عن العلاقة الوطيدة للمغاربة عبر تاريخهم مع الجوائح، أنهم كانوا يؤرخون ببعض الأعوام العصيبة ، مثل عام “ايرني” وعام “الصندوق” وعام “البون”….وبحكم المعاناة التي أفضى إليها دخول وباء كورونا حاليا ، وخاصة من حيث إن الوباء فرض على المغاربة البقاء القسري بمنازلهم  ، ممّا لم يتعودوا عليه سابقا، فمن المنتظر أنهم سيستحضرون سنة 2020 باعتبارها “عام كورونا”.

وبالعودة إلى التاريخ المغربي، نلاحظ حضورا واضحا لأوبئة بعينها، خاصة الطاعون والكوليرا المعروفة عند المغاربة ب”بوگليب”، وذلك نظرا لأن ملامح المصاب به كانت تنقلب ملامحه بصفة كبيرة جراء الإسهال والقيء الشديدين . لقد كانت الطواعين أفتك الأوبئة التي عانى منها المغاربة ، وظل الجذام ثاني أخطر وباء ، إلى حدود سنة 1834 لما حلّت الكوليرا لأول مرة بالمغرب ، وتتالت ضرباتها عليه مع ما كانت تخلفه من خسائر بشرية فادحة،  ممّا جعلتها تحلّ محلّ الجذام باعتبارها الوباء الثاني من حيث خطورته على المغاربة. كما ضربت المغرب أوبئة أخرى في تاريخه ،مثل الجدري والملاريا والتيفوئيد المسمى عند المغاربة ب”التيفوس”.

2- ما هي المخلفات العامة للأوبئة على المغاربة في تاريخهم؟

من أهم الخسائر التي كانت تنجر عن الأوبئة لما كانت تضرب المغرب ، تلك التي تمس البنية السكانية.  فقد كان من الصعب على المغرب تعويض خسائره البشرية في ظرف قصير، وكان يحتاج إلى عدة عقود لسد الثغرات السكانية الناتجة عن الأوبئة . تحدث ابن خلدون في مقدمته عن الوباء الجارف المعروف بالطاعون الأسود ضمن لوحة قاتمة ، إذ ذهب بأهل الجيل.ويمكن احتمال فقدان المغرب من هذا الوباء لنسبة تتراوح ما بين ثلث ونصف سكانه.ولتمثل فداحة الخسائر البشرية الناتجة عن الكوليرا بالمغرب ، يمكن أن نقدم بعض النماذج عن كوليرا سنة 1878.فقد مات جراءها ثلث ساكنة العرائش، ونصف ساكنة سوس، وربع ساكنة دمنات. وأما مدينتا وزان والقصر الكبير ، فقد خلتا من ساكنتهما بعد اجتياح طاعون سنة 1742 لهما ، ومن بقي بهما فرّ إلى المعمورة.

وكانت مخلفات الأوبئة الاقتصادية والاجتماعية فادحة بالمغرب . وقد عبّر عنها ابن خلدون من خلال الطاعون الأسود بقوله:”خربت الأمصار ودرست السبل والمعالم”. وظل هاجس الحصول على الأقوات من أهم هواجس المغاربة لمّا كانت الأوبئة تزورهم ، ولعل من أفدح الصور التي وصلتنا عن معاناتهم إزاء الخصاصة أنهم لجئوا بعد بعض الأوبئة الفتاكة وما تمخض عنها من مجاعة  ، إلى أكل “الجيف والدواب” ، بل “والآدمي”، كما حدث مع ساكنة الحياينة بأحواز فاس عقب مجاعة 1662.

ولا شك في أن الأوبئة الحادّة كانت تخلف شروخا في الحالة النفسية للمغاربة. ويلاحظ عبر تاريخ الأوبئة بالمغرب أنه إبانها أو بعيدها، كانت تزداد حاجة المغاربة إلى المنقذين ، خاصة بمجتمع يوجه المقدس معظم سلوكاته. وثمة تلازم بين تزايد عدد المتصوفة وحدوث الأوبئة . وقد عبّر عن ذلك ابن قنفذ في خريطة التصوف التي قدمها عن المغرب واستقراره به بعد اجتياح الطاعون الجارف له، وذكر أن أرضه كانت تنبت الأولياء كما تنبت الكلأ . ومن المظاهر السلوكية الملاحظة حين حلول الأوبئة بالمغرب وبعدها، انتشار فكرة  قرب نهاية العالم وانتظار المهدي المنتظر . ومن ذلك إشارة ابن خلدون إلى وجود فرقة الفاطمية برباط ماسّة في عصره،كما أن ابن محلي استغل ظرفية انتشار الجوائح بالمغرب ما بين 1597 و  1610 للإدعاء بأنه المهدي المنتظر….

3- ماذا عن مواقف الفقهاء من الأوبئة في تاريخ المغرب؟

من المعلوم أن العلماء توصلوا إلى لقاح الطاعون سنة  1894عبر العالم السويسري الكسندر يارسن ، وإلى  لقاح الكوليرا سنة 1884 على يد الألماني روبرت كوخ. وفي غياب اللقاح ضد هذين الوبائين ، ظل المغاربة يعتمدون في مواجهتهما على طرق مختلفة ، من قبيل رشّ البيوت بالرياحين وماء الورد الممزوج بالخلّ، والإقبال على الترياق وتبخير المنازل ، والحجامة من القفا والتمسح بالتراب على الدماميل ، وحمل التمائم التي تحوي بعض الأدعية مثل :”يا حي يا حليم يا حنان ” وزيارة قبور الأولياء وطلب الرقية من بعض الفقهاء. يذكر المتصوف ابن عباد أن أحد الآباء زاره بماء وحناء ليعدّ له رقية لفائدة أولاده الثلاثة الذين أصيبوا من الطاعون الجارف ، غير أنهم كلهم لاقوا حتفهم بفعل الوباء. ويلاحظ المشتغل على التاريخ أن كتب المناقب- وهي مخصصة لتراجم رجال التصوف- لا تشير – فيما يبدو- إلى ما يفيد بأن الأولياء الذين كان بعض المغاربة يعتقدون ببركتهم ، تمكنوا بكراماتهم من إشفاء مصاب بالطاعون.

ويمكن أن نميز بين اتجاهين فقهيين في تاريخ المغرب عن كيفية التعامل مع الأوبئة وشرح مسبباتها. كلا الاتجاهين ينطلقان من مرجعية أبواب الحديث المتعلقة بحلول الوباء، أو من فقه النوازل حيث ترد أسئلة على بعض الفقهاء عن المخارج الشرعية لنزول الوباء ببلد ما.

يذهب الاتجاه الأول إلى اعتبار الوباء ممّا يندرج في باب القضاء والقدر، وبالتالي  فلا جدوى من الفرار من الوباء، لأنه فرار من الإيمان بالقضاء والقدر. ويتكأ هذا الاتجاه على بعض الأحاديث التي فهم منها دعوة إلى عدم الاحتراز من الوباء ، كما هو مع الحديث القائل بأن الشهداء خمسة من ضمنهم المطعون(أي الميت بالطاعون) .ولعل أهم مؤلف في أدب الطواعين  استند عليه الاتجاه نفسه هو كتاب “بذل الماعون في فضل الطاعون” لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852ه ، الذي عزا الطاعون إلى فعل الجن . وممّن دافع عن هذا الاتجاه في تاريخ المغرب بعض رجال المخزن في القرن 19 م- وهم فقهاء أيضا-  الزياني صاحب الترجمانة الكبرى والعربي المشرفي والناصري صاحب كتاب الاستقصا الذين كانوا يرون في الحجر الصحي بدعة وعملا من أعمال الفرنج ، ومن رجال التصوف تجب الإشارة إلى أحمد بن عجيبة المتوفى سنة 1809 الذي ألف رسالة سمّاها “سلك الدُّرر في ذكر القضاء والقدر”، وكان أن توفي أبناؤه كلهم من الطاعون، ليلتحق بدوره بهم جراء الوباء.

أما الاتجاه الثاني فيسلّم هو أيضا بمسألة القضاء والقدر، ويأخذ بمراتبها التي هي العلم، عملا بقوله تعالى:”وأن الله قد أحاط بكل شيء علما”(سورة الطلاق 12) ، والكتاب “ما فرّطنا في الكتاب من شيء “(الأنعام 38) ، والمشيئة” وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله”(التكوير 29)، والخلق” الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل”(الزمر 62).

غير أ ن هذا الاتجاه يوظف هذا الإيمان بمقاصد عقلية تحثّ الإنسان على الأخذ بالأسباب.   ويستند  على أحاديث نبوية  تدعو إلى الاحتراز من الوباء ، ومنها:” فرّ من المجذوم فرارك من الأسد” و “الفارّ من الطاعون كالفارّ من الزحف …” . ويندرج ضمن هذا الاتجاه أيضا مؤرخون آمنوا بالعلم التجريبي ، مثل ابن خلدون الذي ربط الوباء بفساد الهواء وابن الخطيب الذي أفحم منكري العدوى في عصره، وقدّم لهم حالات مجربة ، كالمتصوف ابن أبي مدين  الذي تبنى حجرا صحيا مع أهله وعياله  لمّا اجتاح الطاعون الأسود سلا، وقد  نجوا من الوباء ، بينما كانت المدينة تحصي ضحاياها الكثر منه.

لقد استمر الاتجاهان في تاريخ المغرب على طرفي نقيض في تفسير أسباب الوباء وطرق التعامل معه.  ولعل تغريد بعضهم بخطابات خارج السرب، و خروج بعض الأشخاص إلى الشوارع ذات ليلة من ليالي حلول وباء كورونا ببلادنا ، وهم يصيحون بشكل هستيري، ما هو إلا تعبير عن موقف أحد الاتجاهين من الوباء.

وبعيدا عن أي مناكفة ايديولوجية ،أو أي دعوة إلى مخاصمة الدين والعلم، فهما صنوان متكاملان من أجل سعادة الإنسان ،  وبالرغم من محاولة الاتجاه الأول فرض نفسه على المغاربة في تاريخهم ، كلما حلّ بهم الوباء ، فإن الاحتراز منه كان حاضرا ،إن على المستوى الرسمي ، كما هو مع المنصور السعدي الذي بعث رسالة إلى ولده أبي فارس سنة 1602 يدعوه إلى الحجر الصحي من خلال تفادي لمس أي رسالة قبل أن يغمسها في الخلّ،  و الذهاب إلى البادية فرارا من الوباء، أو على المستوى الشعبي ، كما لاحظناه مع متصوف سلا  ، وكما هو ملاحظ على معظم المغاربة اليوم بعد حلول وباء كورونا، وذلك تجسيد حي لما تدعو إليه  القراءة العلمية للأحاديث النبوية ومقاصد الشريعة وكلياتها  الحاثّة على ضرورة حفظ الأبدان والأنفس ودفع المفاسد.

4- ما أوجه المقارنة بين وباء كورونا الحالي وباقي الأوبئة التي شهدها المغرب في تاريخه؟:

* يبقى الهلع الذي كانت تخلفه الأوبئة  في أنفس المغاربة عبر تاريخهم هلعا، بالرغم من اختلاف الأزمنة ودرجة حدّة تلك الأوبئة.  يتحدث ابن عباد في رسائله الكبرى عن  الجثت الآدمية  المُلقاة مع القطط والكلاب بأزقة فاس خلال الطاعون الأسود لسنة 749ه/1348م . وقد بلغ الأمر ببعضهم إلى تسليم أنفسهم للنصارى ليشبعوا عندهم الطعام ، كما هو خلال  مجاعة ضربت الريف في القرن 8 ه/ 14م  أو في سنة 1617م ، أو  بالتحول إلى النصرانية دفعا للمجاعة الناتجة عن طاعون 1520 بالنسبة لمنطقة دكالة.

ولعل من أهم الهواجس التي كانت تنتاب المغاربة في تاريخهم زمن الأوبئة ،تمثلت في حاجتهم إلى القوت الذي يسدّون به رمقهم ، ولا غرو أن  الجوائح كيّفت سلوكات المغاربة ، ومن ثمّ تلك القدسية التي يخصون بها الخبز ، حتى لإنه لا يمكن تصور المائدة المغربية دون كسرة خبز، و قد يكون الخبز المادة الغذائية الوحيدة التي دأب المغاربة على تقبيلها إن صادفوها في سيرهم ،  ليضعوها بكل احترام على جانب من الجوانب، فضلا على أن الخبز حاضر بقوة في الثقافة الشعبية المغربية  .  وقد صدق ما أُثر عن الشيخ عبد الرحمان المجدوب لما اختزل تمثل المغاربة عن الخبز بقوله:

نوصيك يا كاسر الخبز     اعمل الكسرة الصغيرة

الخبز يا الخبز          والخبز هو الافادة

لو ما كان الخبز       ما يكون دين ولا عبادة

لقد حثّ هذا الخوف  الذي لازم المغاربة  في تاريخهم من مخلفات الجوائح إلى تبني ثقافة تخزين المواد الغذائية ، ولعل من أحسن ما يعبر عن ذلك، تلك الوصية التي أوصى بها عبد الله بن محمد بن أبي بكر الذي عاش بسوس  أواسط القرن الحادي عشر الهجري ، وذلك بقوله:” …فإن سني المجاعة لا تجد فيها إلاّ  ما ادخرته في السنين المخصبة ،فعليك بالادخار ، ثم إيّاك وإيّاك السرف، فادخر ما أمكنك من الإدام والزرع والجلبان واللفت واليابس والهرجان(أرگان) والخروب، وغير ذلك ،وزريعة كل شيء ،ثم إيّاك ثم إيّاك التفريط في التبن ، فهو تبر لا تبن” . وقد كرّست الجوائح لدى المغاربة ذلك الخوف من انعدام المؤن إلى أن وصل حالة مرضية ، كما كان عليه الأمر عند أهل فاس، حسبما أورده ابن خلدون في مقدمته:”أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء  قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره”. وإذا كانت هذه الهواجس من انعدام توافر المؤن الغذائية أو قلتها باقتصاد عرفه تاريخ المغرب، و يوسم بأنه اقتصاد القلة أو الندرة، فكيف يمكن تفسير ذلك الازدحام الذي شهدته فضاءات التسوق والتهافت على المواد الغذائية مع حلول وباء كورونا ببلادنا؟ لا شك في أن انسيابية الأخبار المتعلقة بالوباء  وتناسلها بفعل تطور وسائل الاتصال وتنوعها، أسهم في تغذية المزيد من الهلع من الوباء.

* لعل من أهم ما طبع حلول وباء كورونا بالشكل الذي زار به  المغرب و العالم ، هو طابعه الفجائي وصدمته للبشرية على حين غرّة ، ثم انتشاره السريع بين أكبر عدد من المعمور.لقد كان انتشار العدوى من الأوبئة يقضي وقتا طويلا لترحل جراثيمها من مصدر الوباء إلى باقي المناطق والدول.  ومن ذلك أن وباء الطاعون الذي حلّ بالمغرب سنة 1742 ، كان قد ضرب مصر سنة 1736، بمعنى أن المغرب ظل في منآى عن الوباء مدة ست سنوات، بل إن ركبا للحاج المغربي عاد من الديار المقدسة سنة 1737 إلى المغرب، دونما إصابته بالعدوى. بينما مع كورونا الحالية اجتاح الوباء العالم في ظرف قياسي، ولعلها إحدى الشرور التي تعاني منها البشرية  بفعل العولمة ، فقد كان كافيا تناول بعض الصينيين للخفافيش ليؤدي العالم ثمن فعلهم ذلك.ثم إن الأوبئة سابقا كانت محصورة  في الجغرافيا ، بينما مع كورونا تعاني حاليا 211 دولة من دول العالم (حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى حدود 14/04 /2020)، وظلت فقط 13 دولة بعيدة عن الإصابة بالوباء ، وهي في معظمها جزر صعيرة، مثل جزر مارشال أو جزر القمر.

*كانت الأوبئة سابقا تحصد ضحاياها حسب مستوى التطور الطبي لكل دولة ، وحسب استيعاب سكانها لفعالية الحجر الصحي وقبوله باعتباره أفضل وسيلة لتفادي العدوى في غياب لقاحات فعالة ضد الأوبئة. غير أن وباء كورونا الحالي  كسّر هذه المعادلة، وأصبحنا نلاحظ أكبر عدد لضحاياه بالبلدان التي كانت تعتقد بتطور منظومتها الصحية ، وكانت تعتقد منذ الحرب العالمية الثانية بتفوقها على باقي دول العالم ، بشكل من العنجهية التي لم يُخفها بعض حكامها.ولعل هذه المفارقة تضع ثنائية التقدم والتخلف ومعاييرهما موضع مسائلة.

* من الملاحظات التي قد تسجل عن اختلاف مواقف المغاربة إزاء الوباء بين الماضي واليوم، مدى أخذهم بالحجر الصحي . فنظرا لسيادة الاتجاه القائل بانعدام العدوى  في المراحل السابقة من تاريخ المغرب ، فإن أسلوب الاحتراز من الأوبئة كان محدودا.بينما يلاحظ  في التعامل الحالي للمغاربة مع وباء كورونا، وجود اقتناع واضح بفعالية الحجر الصحي ، بحيث أصبح شعار:” بقا في دارك” شبه ثقافة عند معظم المغاربة، ممّا يسمح بالقول بأننا مع شيء جديد في موقفهم ازاء الوباء.ولا يبدو أن المغاربة  في تاريخهم عاشوا بهذه الوثيرة التي فرضها حاليا وباء كورونا عليهم. لقد تغير الروتين اليومي للمغاربة ، حتى لإن مفهوم الزمن تغير لديهم بحيث لم يعودوا يميزون بين الأيام ، وكثير منهم لا يعلم بأي يوم نحن من أيام الأسبوع ، كما تعطلت مجموعة من الممارسات التي دأب المغاربة عليها كأداء الصلوات بالمساجد والتردد على المدارس والتقارب فيما بينهم وتبادل التحية بالمصافحة أو بالعناق والتقبيل بالوجه( الذي يتراوح عدده بين مرتين وثلاثا ورباعا- كما بشرق المغرب-  فأي  خلفية انتروبولوجية لاختلاف هذه ا لأعداد).إن هذا التحول في اقتناع المغاربة بالحجر الصحي في مواجهة الوباء ، لا شك أنه يطرح مسألة الحدود بين المقدس وهذا السلوك”البرغماتي” الحالي.

* من خلال ما جادت به المصادر التاريخية عن سلوكات المغاربة زمن الأوبئة ، وما هي عليه زمن كورونا،يلاحظ  شيوع تلك الروح التضامنية التي تجمعهم تجاه الوباء –وإن كان هذا لا ينفي وجود أقلية تستغل الجوائح للاغتناء و ممارسة الاحتكار – . ولعل  سيادة روح التكافل واللحمة التي تنسجها الجوائح بين المغاربة تفسر إلى حد كبير صمودهم أمام دوريتها. ويبدو أن ثمة لحظتين في تاريخ المغرب كانت تزيد من تلاحم المغاربة ، بالرغم من اختلافاتهم حول تدبير شؤون بلادهم ، وهما لحظة تعرض المغرب للتحرشات الخارجية ولحظة حلول الجوائح به . وكان التكافل يتم باتجاه أفقي بين السكان ،أو باتجاه عمودي يشرف عليه المخزن المغربي. ووجب التذكير بأن مصطلح المخزن في جذوره التاريخية ارتبط بوظيفة خزن المواد الغذائية لتوزيعها على المحتاجين زمن الأزمات. ولعل أول إشارة صريحة  لمصطلح المخزن في تاريخ المغرب، ظهرت مع الموحدين بوجود “عبيد المخزن”، ومع السعديين، ظهر مصطلح” المخازنية” باعتبارهم حراس مخازن السلطة من موارد الجبايات التي كان جزء منها يخصص لتوزيعها على الفقراء إبان الجوائح.غير أن تدخل المخزن لمساعدة السكان خلال الجوائح في تاريخ المغرب، همّ أساسا الحواضر الكبرى مثل فاس ومراكش ، ولعل ذلك جاء كصدى لطبيعة المصادر التاريخية التي ركزت على التأريخ لتلك الحواضر.وكيفما كان الأمر ، فإن جميع الفئات المغربية كانت تتعبأ لمواجهة مضاعفات الجوائح، ولنا أحسن أنموذج عن ذلك دعوة المنصور الموحدي المتصوف لأبي العباس السبتي للإشراف على عملية توزيع المال والزرع والثياب على الفقراء والمساكين بحلول إحدى الجوائح ، وأوامره لرجالات المخزن الموحدي بالامتثال لهذا المتصوف الذي كرّس ممارسة  حسنة تسمى ” العباسية”  ما تزال سائدة بمراكش، وتقتضي من بائعي الحلويات التصدق بباكورة منتوجهم، كفأل حسن يستفتحون به يومهم في البيع. 

غير أن ما قد يميز تحرك المخزن المغربي في مواجهة كورونا ، هو الإجراء الاستباقي في التعامل معه، وفي تعبأة مختلف وسائل الدولة فيه عبر المجال المغربي كله.ولعل هذا ما لم يحصل في تاريخ المغرب . لا نتوافر – حسبما يبدو- على إشارات عن تمثل المغاربة لمخزنهم زمن الأوبئة ، بينما يبدو أن وباء كورونا قد زاد من توطيد العرى بين المخزن والمغاربة، وخفّف من تمثلهم للمخزن باعتباره عنوانا على  الشدّة . وليس ثمة أبلغ تعبير عن هذه العلاقة الجديدة بين المخزن والمغاربة التي فرضها وباء كورونا من كلام وزير الداخلية:” نحن في مركب واحد، إما نغرق جميعا أو ننجو جميعا” .لقد بدّد  الوباء فعل معايير المناصب والمراتب الاجتماعية.

*لا تسمح المصادر التاريخية بمقارنة مواقف المغاربة من الأولويات لديهم بعيد انجلاء الغمة من الأوبئة سابقا ، وما هي عليه زمن وباء كورونا. غير أن ما يلاحظ من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي  حاليا ، أن وباء كورونا زاد من تأكيد المغاربة على أولويات الثلاثي :الصحة والبحث العلمي والثقافة، فهي صمّام الأمان،  وقد وجد المغاربة في هذه الوسائل مناسبة لتصفية حساباتهم مع قطاعات لم تنتج  سوى التفاهة، بالرغم من الأرصدة المالية التي رصدت لها. ولربما من أكثر الفيديوات التي تتداول عبر وسائل الاتصال الاجتماعي  ، ويختزل هذا الموقف، ذلك  الذي سئل فيه أحد المغاربة عمّا إذا كان يعرف دنيا باطما وعادل الميلودي والشيخة طراكس وعبد الله العروي، فكانت أجوبته بأنه يعرف الثلاثة الأوائل ، بينما أجاب عن الأخير:” كنسمع به وربما هو لاعب كرة”.

يبقى أن نختم بأن البشرية أمام منعطف في تاريخها جراء إصابتها بوباء كورونا ، وكم هي الحاجة ماسّة إلى وجود علماء يلاحظون ويستشرفون ، من أمثال المهدي المنجرة.  إن عالم ما بعد كورونا سيعلن بدون ريب عن فشل الإديولوجية النيولبرالية المتوحشة ، وعن إعادة النظر في مقولة “دعه يعمل دعه يسير” التي كان قد  دشّن لها الاقتصادي آدم سميث ، عسى أن تكفّ البشرية عن حماقاتها،   وتستثمر في البشر لا  في الحجر، وتراجع قيمها التي عبرت بعض المواقف عن همجيتها وبُعدها عمّا هو إنساني  في الإنسان ، وقد جسّد مثل هذه المواقف ونحن في وحل وباء كورونا ، تصريح ذلك الطبيب الفرنسي بوجوب تجربة لقاح للوباء أولا على الأفارقة ، أو ذلك التساؤل الذي طرحه أحد الإيطاليين على مذيعة عن سبب إصابة الإيطاليين بالوباء وعدم إصابة المهاجرين المغاربة به.         

 وهذه دعوة لقراءة رواية قد تُعدّ من أحسن ما كتب في باب الخيال العلمي عن فعل الأوبئة في الذهنيات والتمثلات ، وهي رواية “الطاعون القرمزي ” للروائي الأميركي “جاك لندن” التي تدور أحداثها سنة 2073م ، بعد أن ضرب الطاعون الأرض وقضى على معظم السكان ، ونجا منه الجدّ بطل الرواية ، ومن أبلغ ما ورد فيها:” لقد كان كدح جميع البشر على الكوكب فقاعات زائلة”.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)

التعليقات تعليقان

  • منصف بلخياطمنصف بلخياط

    حوار ملم وماتع ومفيد تتعرف من خلاله على تاريخ وثقافة وتراث وذاكرة مغربية عبر الازمنة وحقائق صادمة فعلا لم يكن حوارا عاديا بل رحلة إلى الماضي
    شكرا للجريدة الغراء رسبريس

  • ميمون الصغيرميمون الصغير

    حوار مهم يستحضر ويؤرخ لمراحل الاوبئة التي مرت على المغرب في العقود الماضية فعلا أصبح المغاربة أكثر دراية بهذه الفيروسات