عبد السلام انويكًة
“عُشْ النْسَرْ”، توصيف ونعت ارتآه لمستقره وشرفته التي يطل منها على المدينة، رائد الاحتفالية وأحد أعلام جدل أب الفنون الوطني والعربي. والحقيقة أن بيت ومستقر صاحبنا حفظه الله فيه من المعالم والشكل والنظرة ما يبعث ويشبه العش، من حيث ما هو عليه من سلطة موقع وزمن ومن ثمة سمو وهيبة وعظمة نسر في بعده الرمزي، ولعل بقدر ما “عش النسر” هذا بعيون كل باحث مهتم بتاريخ وتراث تازة، هو بمثابة بداية زمن ونهاية آخر عبر ما هناك من أثر ممر جامع شامخ وأرشيف غير بعيد، بقدر ما يحكم هذا “العش” أنفاس تازة ودروجها ومدرجها وصلات مشهدها ومواعيدها، فضلا عن سوق حكي بشريتها على امتداد عقود من الزمن.
ذلك هو بيت وشرفة ومستقر الأستاذ الفاضل ابن تازة البار الفنان والمخرج المسرحي العربي الكبير محمد بلهيسي، أحد علامات ومضخات الدراما المغربية ورموز حضورها ونصوصها وفرجتها وأرشيفها. بلهسيي الذي يعد أحد كبار صناع أجواء وأحداث ولحظات محطات وأصوات وحركات وايماءات فضاءات الركح، ليس على صعيد تازة لعقود من الزمن فحسب، انما ايضا على مستوى المغرب وبلاد المغارب والوطن العربي. بحيث بقدر ما طبعه من مكانة ومَهمَّة مخرج مسرحي”مايسترو” رفيع المستوى، بقدر ما هو عليه من ذاكرة وضفاف ابداع وجماليات ممتدة ذات صلة، فضلا عن رؤية وبصمة غير خافية عن كل مهتم متتبع من ابناء المدينة ومثقفيها للمجال. ومن ثمة يعد بلهيسي اسما مخرجا مسرحيا عظيما بقدر عظمة تاريخ وتراث تازة، يصعب القفز على ارثه وزخم اسهاماته ومنجز أعماله، فضلا عن وقعه الفني لدى الجمهور المسرحي الوطني والعربي، دون نسيان غنى نهج مساره وما كان عليه من سمات اشتغال وأسلوب ولوحات حركة خشبة وتأثيث وتوجه وقناعة جمالية وتحرير، ومن ثمة من ترسيخ وبناء إن على صعيد تازة التي عشقها وارتبط بها حتى النخاع رغم كل الاغراءات، أو على المستوى الوطني والبلاد العربية عموما.
هكذا هو بلهيسي، أحد رواد وعلامات الدراما المغربية والعربية في زمنها الذهبي على امتداد حوالي نصف قرن، ايقونة يحق لتازة الفخر بها ومعها جميع أثاث مدرسته ودربه من الأسماء المسرحية ذات الصدى والمستوى الرفيع، من قبيل نور الدين بنكيران وعبد الحق بوعمر .الخ من الطاقات، التي أعطت رفقته لتازة ما أعطت لسنوات وسنوات، من مشاهد ومواعيد ولحظات فرجة وحضور وتألق واشعاع ومكانة وهيبة ثقافية وابداعية للمدينة. ولا شك أن إرث فعل تازة المسرحي وأثر تجربة محمد بلهيسي الدرامية، تقتضي كل قراءة ودراسة وتأمل لفهم وإبراز ما هناك من عمل تأسيس وسيرورة ومحطات وتميز وجسور علاقة بما هو وطني وعربي. وغير خاف أن مسرح تازة وامتداداته، شكل مع محمد بلهيسي تأليفا واخراجا روح تازة وهويتها الثقافية والابداعية منذ مطلع ستينات القرن الماضي، بل طقسا تعبيريا فنيا ملأ كل شيء من مكان وزمان وانسان. متى كان هذا المسرح ساطعا شامخا عبر هذه المنارة التي ارتبط اسمها بتازة وارتبطت تازة بها ولا تزال.
ولعل محمد بلهسيي بزخم كتابة وتأليف واسع، منه نذكر”مقام النور”، “المنسي”، “باب الدنيا”، “سوق المزاد”، “جزيرة الأحلام”، “محاين لبلاد”، “ليلى والراوي والذئب”، “شياطين الحكاية”..الخ ، مساحة نصوص مسرحية بقدر ما طبعها من شاعرية وجوهر ثقافة مغربية شعبية اصيلة وبلاغة نقل ولغة وتعبير، بقدر ما كانت عليه من رمزية ورسالة ووعي وتلمس معاني حول هذا وذاك من قضايا مجتمع وانسان. دون نسيان ما اشتغل عليه من نصوص مؤلفين آخرين، من قبيل مولاي أحمد العراقي وعبد الكريم برشيد ومحمد الكغاط ومحمد تيمد وعبد السلام لوديي وعبد السلام الحبيب وسعيد الناجي عبد الحق الزروالي.. الخ. ودون نسيان ما له من فضل وأثر على جيل بأكمله من مسرح تازة ومسرحييها، لِما وضعه رهن اشارته من خبرة عبر ما اسهم به من تكوين كان وراء بروز وجوه مسرحية عدة، كانت ولا تزال بقدر كبير من القيمة المضافة في المشهد المسرحي والسينمائي الوطني. كيف لا وقد طبعت مساره تجربة ممثل متميز ضمن من سبقه وجايله من مخرجين، من قبل الحاج النصيري ومولاي عبد الرحمن العثماني خلال ستينات القرن الماضي، ثم فيما بعد محمد تيمد والطيب الصديقي وعبد الصمد دينية، دون حديث عن مشاركاته في أعمال تلفزيونية عدة عالية المستوى، من قبيل مسلسل “ملوك الطوائف”، “ربيع غرناطة” للمخرج السوري حاتم علي. ومن أعمال إخراجه البهي وملاحمه الوطنية، نذكر “ملحمة العروبة”، “ليلة سمر في ضوء القمر”، “حكاية القصبة” ثم “ملحمة الفرح” وغيرها. وقد كان فيها جميعها بوقع رفيع مستمدا قوته من تجربته المسرحية الواسعة.
وتبقى تازة مدينة لمحمد بلهيسي، الممثل والمخرج والكاتب والزجال المبدع والمثقف العميق، لِما كان عليه من مدرسة افرزت جيلاً من الدراميين التازيين، هم بمكانة خاصة في المشهد الثقافي والمسرحي والسينمائي الوطني، بل تازة مدينة له أيضا بما كان عليه من دينامية غير خافية وطاقة محركة للفعل الثقافي، ومن ثمة من مساحة اشعاع عندما كان مندوبا إقليميا لوزارة الثقافة بتازة وكذا مندوبا جهويا. محمد بلهيسي، جبل شامخ واسم وقامة فنية ابداعية ونخوة، كريم ابن اكرمين ومفرد بصيغة جمع، يستحق من كل تازة الشامخة كل اجلال واكبار. عرفناه اسما مثقفا محنكا وايقونة مسرحية تمثيلا واخراجا وتأليفا، ببليوغرافيا عامرة وحصيلة اسهامات بقدرات فيها نغم نبوغ وعطاء وتميز، مع ما كان عليه داخل البلاد وخارجها من شهادات وثناء وجوائر وتتويجات رفيعة، تثمينا لِما أسهم به على مستوى دينامية المسرح المغربي والعربي على امتداد عقود من الزمن. هكذا هو ابن تازة البار المخرج المسرحي العربي محمد بلهيسي، رئيس فرقة اللواء المسرحي بتازة لفترة خلال ستينات القرن الماضي، وكاتب عام جامعة مسرح الهواة بالمغرب. علما أن مسيرته الفنية في مجال وعالم الاخراج بدأت مع الأستاذ عبد الكريم برشيد، بإخراجه مسرحية “عرس الأطلس” التي مثلت المغرب في مهرجان قرطاج الدولي بتونس. ومن بصمات إخراجه المسرحي فضلا عن “عرس الأطلس” هناك “سالف لونجا”، “على باب الوزير”، “ليالي المتنبي”، “السرجان والميزان” الخ. مع أهمية الإشارة الى اخراجه ملحمة “واحة الفرح”الوطنية التي تم تقديمها بالعين الزرقا نواحي مولاي علي الشريف (بين الراشدية والريصاني) بمشاركة مؤلفين مغاربة منهم أحمد الطيب العلج، عبد الكريم برشيد، محمد تيمود، الحاج أحمد الوديي وآخرون. ولمحمد بلهيسي يسجل فضل توطين مهرجان دولي لمسرح الطفل بتازة، والذي شكل في دوراته الأولى بالمدينة نافذة حقيقية رافعة، كانت بأثر في ابراز مؤهلات وتعبيرات المدينة الثقافية والابداعية وبخاصة منها المسرحية، بل يصعب القفز عما كان له من فضل وأثر في تحقيق تشييد مسرح تازة الرفيع المستوى، والذي يحق أن يحمل اسمه عرفانا له ولمنجزاته واسهاماته، تكريما لإسمه وشخصه الفني الكبير.
هكذا يحضر اسم بلهيسي، مبدعا تازيا حقيقيا عظيما، بفضل في ايقاع مشهد تازة الثقافي لسنوات وسنوات، عندما تحولت معه المدينة، لزخم اشعاع فضلا عن قبلة جاذبة لألوان ثقافة ومثقفين وابداع ومبدعين من كل حدب وصوب من داخل البلاد وخارجها. ليبقى بلهيسي جبل شامخ واسم وقامة فنية ابداعية ومقام كريم ابن أكرمين ومفرد بصيغة جمع. بلهيسي ديوان تازة البهي، الذي يستحق كل ذكر وعرفان وتقدير واجلال واكبار.