كشف تقرير جديد للمندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية)، عن معطيات مقلقة حول معدلات العنوسة في صفوف نساء المغرب، وذلك ضمن تغيرات كثيرة طرأت على المنظومة الأسرية المغربية في السنوات الأخيرة، وتحولات بارزة في ما يخص الخصوبة والزواج، حيث إن 40.7 في المئة لا يزلن في مرحلة العزوبة في 2022، بعدما سجلت تراجعا قبل سنتين، وذكرت المندوبية أن المغرب انتقل من الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر بشكل متزامن في الوسطين الحضري والقروي.
وأشارت المندوبية في تقريرها ضمن نشرتها السنوية “المرأة المغربية في أرقام 2023” الصادر بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للمرأة، إلى أن معدل العزوبة عند سن 50 سنة، ارتفع إلى 9.6 في المئة في صفوف الإناث سنة 2014، بعدما كان قد سجل 6.7 في المئة سنة 2010، و5.3 في المئة سنة 2004، مشيرة إلى أن معدل العزوبة مرتفع لدى النساء في المدن (10.9 في المئة) أكثر من النساء في القرى بنسبة 7 في المئة.
تراجع معدلات الخصوبة
ساهمت العنوسة في انخفاض الخصوبة في السنوات الأخيرة، حيث إن أكثر من 60 في المئة من المغربيات المتراوحة أعمارهن بين 20 و24 عاما غير متزوجات، وأكثر من 28 في المئة من المغربيات المتراوحة أعمارهن ما بين 30 و34 سنة “عانسات”.
كما ارتفع معدل النساء العازبات، اللاتي يعلن أسرهن، إلى 8.9 في المئة عام 2022 مقارنة بسنة 2012، إذ لم يكنّ يتجاوزن في ذلك الوقت 6.8 في المئة، حسب نفس الإحصائيات التي كشفت عنها الدراسة.
وتختلف هذه النسب حسب وسط الإقامة، إذ نجد أن النساء العازبات ربات الأسر في الوسط الحضري يبلغن 9.8 في المئة، بينما في الوسط القروي لا يتجاوزن 5.2 في المئة.
وأكد امحمد مومن، وهو باحث في علم الاجتماع بالمعهد الملكي لتكوين الكوادر، أن تخوف بعض الآباء من سقوط بناتهم في فخّ العنوسة، يدفعهم إلى استغلال أي فرصة لتزويجهن وهن في سن صغيرة، ويعد ذلك أحد أسباب زواج القصر في المغرب.
وفي عام 2018، خلف تقرير مؤسسة بريطانية حول الملايين من المغربيات غير المتزوجات جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي. وانقسمت الآراء بين من يلوم المرأة نفسها، وآخرين يشجعون الأمر ويرون فيه بداية انفتاح في مجتمع محافظ.
وأفاد التقرير بأن عدد النساء غير المتزوجات في البلد بلغ أكثر من 8 ملايين امرأة، أي ما يعادل 60 في المئة من النساء في سن الزواج، التي يحددها المشرع المغربي بـ18 عاما.
وكشف التقرير أن عدد المغربيات غير المتزوجات تضاعف بنحو 4.6 في المئة، في حين ارتفعت نسبة الرجال غير المتزوجين بنسبة 2.6 في المئة.
وأشارت الإحصائيات إلى أن سن الزواج في المغرب انتقلت إلى 28 سنة لدى الفتيات، و27 سنة بالنسبة للرجال. كما ذكرت أن نسبة التأخر في الزواج عند الفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 18 و24 سنة، شهدت ارتفاعا أيضا.
وبالرغم من الصورة القاتمة التي يقدمها التقرير، إلا أن الجدل لم يخل من آراء محافظة ألقت باللوم على المرأة لدخولها سوق العمل، وعزت إليها السبب وراء تأخرها عن قطار الزواج.
مقابل ذلك، رجحت مواقف ليبرالية كفة تحرر النساء من وصاية الرجل، هذا التحرر الذي دفع المرأة المغربية إلى الخروج عن الصورة النمطية التي تنتظر فيها فارس أحلامها، وتبقى “عالة” على الرجل طول حياتها.
الفقر والهشاشة دافعان لتأخير سن الزواج
وتتحكم في ظاهرة العنوسة التي يعرفها المغرب عوامل كثيرة، أولها العامل الاقتصادي، حيث إن فئة واسعة من الشباب الذين يعيشون البطالة لا تستطيع توفير أعباء الحياة اليومية، وهو ما يحول دون تحقيق الفرد لاستقلاله المالي ولا يسعفه في بناء أسرة.
وقالت وفاء، تعمل خياطة، لـ”العرب” إنها ترغب في الاقتران برجل يقدر عملها خارج البيت ويتحمل مسؤوليته لا أن يبقى معتمدا على مدخول زوجته، وأكدت أن عددا من صديقاتها عندما تجاوزن سن الثلاثين أصبحن يفضلن عدم الزواج لما يحققه ذلك، حسب فهمهن، من استقلالية وابتعاد عن المشاكل التي تفرضها مسؤولية الزواج.
أما حسناء (25 عاما)، تعمل مستخدمة بشركة النقل، بفاس، فقالت إنها مخطوبة، ومن خلال تجربتها لابد للشابة من مراعاة الوضعية المادية للرجل الذي يلقى صعوبات في ضمان الاستقرار المهني وبالتالي توفير شروط الزواج.
وأضافت لـ”العرب” أن المجتمع لا يرحم الفتاة التي تجتاز العشرينات من عمرها ولم تستطع الزواج، فيتم وصمها بـ”البَايْرَة”(العانس)، هكذا ينعت المجتمع المغربي غير المتزوجات، مضيفة أن ذلك يثقل كاهلها نفسيا واجتماعيا، في المقابل ترى أن عددا من الشباب لا يقبلون على الزواج نتيجة البطالة، في حين أن هناك عددا من النساء المشتغلات في وظائف بمدخول مهم يشككن في الرجل الذي يتقدم لخطبتهن، بحيث يعتقدن أنه راغب في الاستحواذ على الشقة ودخل الزوجة ليحارب بطالته.
وتسجل العنوسة حسب أرقام رسمية في أوساط الفتاة المتعلمة وغير المتعلمة، العاملة في القطاع الخاص وحتى في الإدارات العمومية، وقد سجلت الأخيرة تواجد نسبة 38.51 من الموظفات غير المتزوجات، مع العلم أن النساء العاملات في القطاعات الحكومية لا يمثلن سوى 7.7 في المئة من مجموع العاملات في المغرب.
ومع ارتفاع حالات العنوسة انخفضت معدلات الخصوبة التي أثرت على الهرم السكاني، خاصة مع ارتفاع أمل الحياة، إذ تراجعت سن الزواج الأول بشكل كبير، حيث سجلت سنة 2010 ارتفاع متوسط سن زواج المرأة إلى 26 سنة والرجال إلى 31.
التضمان الأسري
المرأة لم تعد تعتمد على الرجل في قضاء حوائجها
في تقرير سابق أكدت المندوبية انخفاض علامات الخصوبة لدى المرأة في المغرب، فبعدما سجلت ذروتها في عام 1960 بـ7 أطفال لكل امرأة، تراجعت في الوقت الحالي لتسجل انخفاضا بـ2.38 طفل لكل امرأة، وأشار التقرير إلى أن الخصوبة بلغت ذروتها في الستينات، لأن السياق السوسيوثقافي في المغرب آنذاك كان مؤاتيا، بحيث كانت النساء يتزوجن في سن مبكرة (17 عاما في المتوسط)، ناهيك عن ضعف استخدام وسائل منع الحمل لدى فئة لا تكاد تتجاوز 8 في المئة.
ولتشجيع الشباب على الزواج، يتوافد على مكتب لوكالة عالمية للزواج بالرباط، نساء من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، والذي أنشئ قبل عشر سنوات بهدف البحث عن شريك للحياة بالنسبة للمغربيات اللواتي يرغبن في الارتباط بأجانب، وذلك بتعاون مع ما يقارب 100 وكالة مشابهة في دول غربية.
واقترحت جمعيات نسائية، في الفترة الأخيرة، حل مواجهة العنوسة بتخصيص الحكومة ميزانية للأسرة، حيث توفر احتياجات الزواج للفتاة والفتى من مسكن قريب لعملهما، ومساعدات للشباب المقبلين على الزواج، أو أن يتم تخصيص مبالغ مالية لهم من زكاة المحسنين أو من الضرائب، وعلى مستوى العائلات تيسير شروط الزواج مثل تبسيط المهور، وتوفير فرص العمل للشباب من الجنسين بهدف الزواج وتكوين أسرة وبداية مشوار الحياة الاجتماعية الكريمة.
وفي هذا الصدد أكد محسن بنزاكور، باحث في علم النفس الاجتماعي، على ضرورة التضامن الأسري، والتكوين عن الزواج، مبرزا أن أبعادا اجتماعية، نفسية، اقتصادية، وسياسية تلعب دورا مهما في انتشار ظاهرة عدم الإقبال على الزواج وتفاقم حدّتها، وخصوصا أن الحكومة هي أحد المسؤولين عن إيجاد حل لهذه الظاهرة.
ولتفادي العنوسة تدفع الفتاة ما يقارب 1200 درهم (120 دولارا) لفتح ملف بالوكالة التي تدبر اللقاء الأول بين الطرفين، بعد تعرفهما على بعضهما البعض عبر الإنترنت، لينتقل العريس إلى المغرب من أجل زيارة من قد تكون شريكة حياته، لكن أغلب هؤلاء العرسان يتجاوز عمرهم الخامسة والأربعين.
وقال عبدالسلام، تاجر في محل بقالة، لـ”العرب” إن سبب العنوسة هو البطالة وغلاء المهور والعادات التي تثقل كاهل العريس فيختنق بالديون وبعد الزواج يأتي الطلاق وتتشتت الأسر، وتابع “اتقوا الله في الشباب وابحثوا لهم عن الحلول، وأهمها عمل شريف مستقر وسكن لائق”.
ولمواجهة تخوف الشباب من الزواج، بدعوى أنه سيكلف مالا وجهدا على جميع المستويات، تعمل جمعية كرامة بطنجة على تشجيع الشباب على الزواج لمحاربة العنوسة وتأخر سن الزواج، وحسب القائمين على الجمعية، فقد جاءت فكرة إنشاء هذه الخدمة داخل الجمعية التي تعنى بتنمية أوضاع المرأة نتيجة عزوف الشباب عن الزواج بسبب غلاء المعيشة والبطالة، إذ إن ارتفاع تكلفة المعيشة وكذلك تقاليد الزواج يثقل كاهل الشباب المغربي الذي يرغب في الزواج، ومن ذلك جاءت فكرة الجمعية بتنظيم حفلات زواج جماعية.
ويتم قبول طلبات الزواج بناء على ملفات تودع لدى الجمعية مع اقتراب مهرجان الزواج، الذي تنظمه كل سنة، وتبرز هذه الملفات الحالة الاجتماعية للعروسين، حيث إن القائمين على الجمعية يؤكدون أنهم استقبلوا في بعض الأحيان طلبات لعرسان عقدوا نكاحهم لكنهم لم يتمكنوا من إقامة حفل الزفاف، وإضافة إلى التكفل بحفل الزفاف، فإن الجمعية تقوم بمساعدة هؤلاء العرسان على تأثيث منازلهم أو تجهيزها بالكامل.
وتعتبر العنوسة مشكلة اجتماعية خطيرة تهدد المجتمع المغربي، حيث إن هذه المشكلة لم تقف عند حد أنها تتسبب في تأخر سن الزواج فقط، بل إنها تمثل أيضا معولا لهدم القيم الأخلاقية للمجتمع المغربي بشكل عام، من خلال زيادة نسبة الانحرافات الجنسية والشذوذ، والقضاء تدريجيا على مفهوم الأسرة.
إقصاء للمرأة
قال بنزاكور إن مصطلح “العنوسة” في حد ذاته مصطلح قدحي، فيه نوع من الإقصاء للمرأة، ملاحظا أنه دائما في المجتمع المغربي والعربي عموما، ما ينعتون المرأة غير المقبلة على الزواج بالعانس فيما لا يتم نعت الرجل غير المتزوج بنفس الصفة، الشيء الذي يولد علميا حالة من الكآبة والمعاناة النفسية، وخصوصا مع الضغط الاجتماعي الذي تعيشه المرأة بسبب عدم الزواج، حيث لا يتم النظر إليها بصفتها إنسانة منتجة ولها آفاق أخرى، إذ يُنظر إليها فقط من تلك الزاوية، وأنها خلقت فقط للزواج ورعاية الأطفال.
ويشير خبراء علم النفس إلى ما يسمى بأعراض العنوسة، والمقصود بها الأرق المتزايد والرغبة لدى الفتاة في القيء والتوتر والنزيف الرحمي.
وأشار بحث ميداني إلى أن 37 في المئة من البنات العوانس يصل بهم الأمر إلى التقلصات الرحمية المؤلمة لما لمنطقة الرحم من تأثير وتأثر متبادل بالرغبة في الزواج أو الحديث عنه، فالمناطق التناسلية الأنثوية هي الرمز في مثل هذه الحالات وهي التي تنعكس عليها الكثير من الأحاسيس والعواطف في ما يتعلق بالعنوسة وعدم الزواج. ومن السمات الشخصية للفتاة العانس: الميول العدوانية الكامنة نحو النساء المتزوجات والتعلق بالأب بطريقة مرضية، الميل نحو الانطواء والانعزال والتمرد على الأسرة والمجتمع بوجه عام، والشعور بالاغتراب النفسي والعيش بمنأى عن الواقع المعيش، وسيطرة النزعة التشاؤمية من الحياة والشعور بالإحباط المستمر.
ويشير الخبراء إلى أن العانسات أكثر تعرضا للاكتئاب عن بقية النساء، والأسباب تمتد من التغيرات الهرمونية كتلك التي تحدث في الدورة الدموية، مرورا بالمشكلات المتعلقة بالدور الأنثوي ووصولا إلى التميز والظلم الاجتماعي اللذين تتعرض لهما العانس، حيث تشعر بمشاعر الشك والحيرة والسلبية، ويكمن السبب في أنهن يشعرن بقلة السيطرة على مجالات مهمة من الحياة، الأمر الذي يقود من ناحية إلى إرهاق مزمن، تستجيب له العانسات بانشغال سلبي، ومن ثم ينزلقن في حلقة مفرغة مسببة للمرض، فالانشغال يرفع من الإرهاق المزمن، والضغط المتزايد يقوي من الانشغال.
المصدر “العرب” اللندنية