Notice: Undefined index: HTTP_ACCEPT in /home1/respress/public_html/wp-content/plugins/any-mobile-theme-switcher/any-mobile-theme-switcher.php on line 117
الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية(الجزء الأخير) - رسبريس - Respress

الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية(الجزء الأخير)

admin
2024-04-22T00:03:02+02:00
ثقافة وفن
admin22 أبريل 2024آخر تحديث : منذ أسبوعين
الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية(الجزء الأخير)
  • د. محمد حماس

لا شك أن الشعر الشعبي المغربي له مكانته وقيمته في المضمار الإبداعي المغربي عامة، والأدبي خاصة، حيث تزخر البيبليوغرافيا الأدبية المغربية بكم هائل من الدواوين الشعيرة الشعبية، في الزجل، والملحون، والحساني، وكذلك اللون البدوي الذي تزخر به منطقة شرق المغرب، إذ يمكن تعداد كم من الشعراء الذين لهم حضور قوي في هذا اللون الشعري، الموسوم بالبدوي، نسبة للبادية، لأنه يمتح من طبيعتها، وثقافتها، وطباع أهلها. فتتردد الصور الشعرية لتنقل مشاهد البادية، تنقل الصور الجميلة لطبيعتها. كما يتسم اللون الشعري البدوي بعمق المعاني ومعجمه الخاص، إذ يصعب تعاطيه أو فهمه من قبل غير المنتمين للمكان الذي ينتمي له هذا الشعر. 

ثم نذكر بعضا من الأسماء التي وسمت جهة الشرق بنصوصها الشعرية البدوية الموسومة بالبدوية، منهم الشيخ اليونسي، وعبد الله المݣانة، والشيخ التينساني، والشيخ أحمد ليو، والشيخ محمد مازوني، والشيخ بوطيبة السعيدي وغيرهم.

نورد نماذج من هذه القصائد، اعتمدنا تفريغها من أشرطة “كاسيط”:

قصيدة “شوفوا الحالة” للشيخ أحمد لوكيلي المتوفى بداية ثمانينات القرن الماضي، والمزداد بمدينة تاوريرت شرق المغرب. عاش في فضاء “الحلقة” يمتع الناس بأشعاره وأغانيه:

كلشي خرف

ما بقات غلة

شوفوا الحالة

الزمان تبدل

و وقتنا نقلب

الورد وللى عيفة

مسكين

و نغلب

كل ساعة تهدف

علة فوق علة(76)

قصيدة “القلب راه مخبل” للشاعر أحمد الجرموني المعروف ب”عبد الله المݣانة” من قبيلة “مستݣمار” الأمازيغية، العيون سيدي ملوك وتاوريرت شرق المغرب:

الدوم 

راه مشعشع

و مولاه

يسقيه

شوفوا 

النخلة جاحت

و انقل التمر

الفلاح راه يكيل

وزرعو مخليه(77)

 وغيرها من القصائد لشعراء بدو مغمورين.

الشعر البدوي ومقوماته

سمي بالشعر البدوي لأن شعراءه من البادية، ولغته بدوية، وهو على قدر كبير من الأهمية. فالشعراء من بني هلال الذين عاشوا بالمغرب خلال القرن الخامس الهجري، كتبوا شعرا جيدا بعيدا عن الإعراب، مما يرجح أنها ليست المحاولات الأولى على يد الجماعات العربية المستعجمة، وتوليدها الكثير من الألفاظ، وابتعادها عن إعراب العربية، وشيوع ظاهرة اللحن في النظم واللغة منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري، إلا أنه بلغ البادية في نهاية القرن الثاني الهجري(78).

يمتح الشعر البدوي من بيئته، ومن تقاليد أهله. فالشاعر يحقق ذاته في أشعاره. وهذا ما انبنت عليه أشعار بني هلال خلال ارتحالهم من المشرق إلى المغرب، وهي هجرة لا تخلوا من تضخيم وتحريف، نعتقد أنه جاء لحجب حقيقتهم التي بها اشتهروا بين العرب في الحجاز وتم طردهم مع بني سليم. لكن نحن هنا بصدد أشعارهم التي انتشرت وجابت بلدان الشمال الإفريقي، والتي تعتبر إلى حد ما امتدادا للشعر الجاهلي رغم ما لحقها من خروج عن القواعد اللغوية وهندسة القصيدة الفصحى القديمة.

يسمى الشعر البدوي بالشعر النبطي، أو العامي، فهو لا يتقيد بقواعد اللغة والنحو، وتعود تسمية “نبط” للعرب الذين كانت مضاربهم عند وادي نبطي نواحي المدينة المنورة، أو نسبة لقوم عرفوا الأنباط أو النبطيون، وهي قبائل بدوية امتدت مملكتها من غزة شمالا إلى مدائن صالح جنوباً، عاصمتها البتراء. ظهرت مملكة الأنباط في القرن الرابع قبل الميلاد، “وبلغت أوج مجدها في القرن الأول الميلادي حيث امتد نفوذها إلى دمشق. واكتسبت هذه المملكة أهميتها من وقوعها في طريق التجارة من الشمال والجنوب. ضعفت البتراء عندما اتجه الرومان إلى السفر بحرًا إلى الهند. وعندما رأى الرومان توسع الأنباط هاجم الامبراطور تراجان البتراء ودمرها عام 105م، وضم مملكة الأنباط إلى مملكته”(79)، وقد وقف المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون في كتاب “المقدمة” عند هذا اللون الشعري البدوي، مؤكدا على أهميته، وما يزغر بها من صور ومعاني. فقد فسد لسان مضر وكذا لغتهم بسبب مخالطتها للأعاجم، فخالفوا بذلك لغة أسلافهم. لكن نظم الشعر لازمهم ولم يتخلوا عنه، وقد سمي ذلك الشعر عند أهل المغرب بالأصمعيات، نسبة للأصمعي، وعند أهل المشرق بالبدوي، ويغنونه، فيطلقون علية اسم “الحوراني”(80). يمكن اعتبار حديث لبن خلدون أقد ما كتب عن الشعر البدوي. لكن هذا الشعر سوف يتطور مع مرور الزمن، وهذا أمر طبيعي باعتبار تطور المجتمعات البشرية، وكذا دخوله ثقافات جديدة، منها ثقافة أهل شمال إفريقيا. إنه شعر يزخر بالمعطيات التاريخية، والملاحم، والسير، ووصف للحياة اليومية. جدير بالاهتمام والدرس أيضا التأثير والتأثير الحاصل بين المكون الأمازيغي والمكون العربي، على مستوى العادات والتقاليد، واللغة التي نجدها انتقلت من وإلى اللغتين الأمازيغية والعربية.

إننا إذن أمام تحول اللسان الشعري العربي من الفصحى إلى العامية. فقد استطاع الشعر البدوي الصمود والتطور إلى زمننا الراهن، ربما لأنه يحمل صفات الشعر العربي الفصيح وخصائصه الفنية، مثل الوزن والقافية والموسيقى والإيقاع الداخلي، فقط هو يلاقي الإهمال على مستوى الجمع والتدوين. ثم إنه لا غرابة في القول بأن الشعر النبطي، أي البدوي، كان ظهوره قبل الفصيح، نسبة لأنباط البتراء الذين كانوا يتكلمون العامية العربية التي هي أساس الفصحى، وقد توارثته الأجيال، جيلا بعد جيل(81). المتفق عليه أن الشعر البدوي نشأ وترعرع في البادية، لم يتقيد بقواعد الفصيح، الشيء الذي جعله ينتشر ويصمد على مدى قرون من الزمن، فهو إذن شعر عربي أصيل ملفوظ بالعامية، مرتجل، وليد اللحظة، عفوي، يتميز ببساطة أسلوبه، ولغته، فالعرب تتذوق الشعر، تنظمه في مقامها وترحالها، ينظمونه عن سليقة(82)، وتأتي قوته في شفويته، إذ لا يمكن تصور الشعر البدوي دون تلقيه على ألسنة شعرائه، لأن الشاعر ينظم القصيدة وسط الجماعة مرتجلة، لا فائدة ترجى من قراءتها مكتوبة، سوى لحفظها من الضياع، واستثمار معانيها والوقائع التي تؤرخ لها، قد لا يتمكن المتلقي من فهمه مكتوبا، لكن سوف يفهمه وهو يستمع إليه فتتحقق تلك المتعة المرجوة من الشعر. كما أنه تختلف لغة النصوص الشعرية من منطقة لأخرى، في العديد من المواضع، حسب لغة البيئة التي يعيش الشاعر فيها.

لا أحد يمكنه الجزم في زمن ظهور الشعر العامي، أي الشعر البدوي الذي نحن بصدد التداول فيه، ولا متى شرع الإنسان البدوي في نظم نصوصه الشعرية باللغة العامية عدا ما ذكره عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة، حيث أورد نصوصا لبني هلال قد تمثل الانتقال من الشعر الفصيح إلى الشعر العامي، وهو قول ورد في قول من لدن عدد من الباحثين حد التشكيك في قول عبد الرحمن بن خلدون ودعوا للتحقق منها. لكن الأشعار التي أوردها ابن خلدون تخص الأعراب الذين بشمال أفريقيا، وابن خلدون مصدر لهذا التاريخ، وأول من تحدث عن هذا النوع من الشعر باعتباره امتدادا للشعر الجاهلي وصدر الإسلام على مستوى اللغة، والشكل، والوظيفة، والأغراض، والوزان. “أما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالبطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب، والمدح، والرثاء، والهجاء، ويستطردون في الخروج من فن لفن في الكلام، وربما هجموا على المقصود الأول كلامهم وأثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون”(83). أما ما ورد عن “السيرة الهلالية”، أو “التغريبة”، والذي يجعل من بني هلال مظالم تعرضوا للتنكيل والتهجير، فتلك بدعة مردود عليها بالوقائع التاريخية التي يكاد يجمع عليها جل المؤرخين الذين كتبوا عن غزو هلال وسليم لصعيد مصر وشمال إفريقيا وما ألحقوه من دمار وتخريب وتقتيل بعمران وأهل هذه البلاد. فالواقع الراهن يؤكد ما آلت إليه هذه البلاد من تواجد كبير لهذه القبائل العربية القادمة من شبه الجزيرة العربية، واستحواذهم على الخصب من الأراضي، منها سهل أنجاد والظهرة، عين بني مطهر وغيرها، حتى أولائك الذين طردوا من الأندلس عادوا ليستقروا بشمال أفريقيا خاصة المغرب. 

ظهر الشعر العامي نتيجة فساد لسان مضر ولغتهم بسبب ممازجتها للعجمة. هكذا فأهل المغرب يسمون هذا اشعر بالأصمعيات نسبة للشاعر العربي الأصمعي، أما أهل المشرق فيسمونه الشعر البدوي، بمعنى أن تسميته المتداولة في الزمن الراهنبالمغرب هي أيضا مأخوذة من المشرق، وفي ذلك لإشارة لأصول هذا الشعر لأنه احتفظ حتى بالتسمية، فقد كانوا ينظمونه ببادية المشرق ويغنونه، فدأبوا على ذات النهج بالمغرب، وسمي الغناء الحوراني نسبة إلى منطقة حوران أطراف العراق والشام(84).  

وعليه، فإن الشعر البدوي هو مكون، لا يمكن تجاوزه، من مكونات المأثورات الشعبية والأدبية في تاريخ الأدب العربي، حيث تختلف أغراضه، ويعكس الحياة العامة للناس في علاقتهم ببيئتهم. عرف تطورات حافظت على أصالته، وهو يتميز بملامسته للواقع الاجتماعي الذي ترعرع فيه، يختص بخصائص فنية تغنيه عما سواه، ومنها شفويته، وغناؤه.

لابد من اٌشارة أيضا إلى أن الشعر البدوي بشرق المغرب، عرف عدة تأثيرات منها الاستقرار بعد حالة الترحال التي عرفتها الجماعات العربية من هلال وسليم وغيرها، بل لم تعد تخضع للتنظيم القبلي كبنية اجتماعية عرفتها بشبه الجزيرة العربية، فمنهم من سكن الحواضر، أو هو موزع بين الحواضر والبوادي، واختلطت الأنساب والناس فيما بينهم، الشيء الذي يعني أن البيئة البدوية التي هي الفضاء الخصب لإبداع الشعر البدوي تراجع حضورها وصارت تحملها ذاكرة الشاعر والمسنين، والحكايات الشعبية التي تروي تاريخ الهجرة والترحال مع الكثير من الإضافات والتشويه للحقائق، هذا ما تناولناه في موضع سابق من هذا البحث … ثم إن هناك مشكل الجيل الذي سوف يتسلم المشعل من الشيوخ الذي أصحابه قلة.

إن الشعر الشفهي الذي هو شعر الأعراب، دأبوا على قرضه بالسليقة العربية، ثم انتقل إلى العامية مع الحفاظ على تقاليد الشعر الفصيح، لكن عندما غادر الشعر تربته الأصلية كان طبيعيا أن يتعرض للعديد من التغييرات منها اللغة، خاصة داخل المدن. لقد عرف الشعر الشفهي العامي الشعبي باسم البدوي في المغرب دون سائر البلاد، حيث يعرف في المشرق غالبا بالنبطي. ومنه الملحون في المغرب، وهو “كل شعر منظوم بالعامية سواء أكان معروف المؤلف أم مجهوله، وسواء روي من الكتب أم المشافهة، وسواء أدخل في حياة الشعب فأصبح ملكا للشعب أم كان من شعر الخواص، وعليه فوصف الشعر بالملحون أولى من وصفه بالعامي”(85).

ترى النظرية الشفاهية أن الأدب الشعبي منتوج شفهي أنتجه أشخاص أميون. فالشاعر يكتب نصوصه وهو يعلم أنه سوف يلقيها وينشدها أمام جمهور متلقي، قد يستحسنها أو يرفضها. فهو يقوم على الذاكرة دون اعتبار لتدوينها أم لا. 

خصائص الشعر البدوي وثيماته

لا غرابة في القول إن “الشعر ضرورة إنسانية”(86)، ولعل المقصود بالصنعة الشعرية هو التمكن من أدوات نظم الشعر وتقنياته، إذ لا تكفي الموهبة أو السليقة، حيث لابد من التمكن من وسائل كثيرة أولها اللغة الراقية، والأسلوب، والبلاغة، والبيان، والانزياح، وتركيب الصور، وغريرها من مقومات الصنعة الشعرية. فالشاعر مطالب بالقراءة أولا، والاطلاع على العمال الأدبية، إضافة لما يلتقطه الشاعر المبدع من مشاهد يومية، وما تختزنه ذاكرته من صور، وما تطفح به مشاعره وأحاسيسه المرهفة.  

تحيلنا الصنعة الشعرية على اللغة أولا ثم الأسلوب والبناء الشكلي، والرسالة، والتواصل الكلامي، والمقومات الفنية، ومع ذلك فهي غير كافية ولا تفي بتطلعات المتلقي، حيث تعمل شعرية التقبل أن “تربط بين داخل النص وخارجه ضمن رؤية منسقة قائمة على دمج الكليات والممكنات”(87). لهذا يحظى الشاعر بالاختلاف والتميز.

يرى الكاتب بورخيس أن الشعر “عاطفة ومتعة”(88)، فكتابة الشعر تجربة في حد ذاتها، تجمع بين الإحساس والمتعة، تقوم على اللغة، مصوغة بالمجاز والانزياح. فمادة الشعر هي الكلمات، هذه الأخيرة هي لغة الحياة اليومية التي يستعملها الشاعر لأنه الأقرب من الناس العاديين البسطاء في طبيعتهم دون تأثير كل ما هو مصطنع زائف، فالشعر لغة الحياة الحقيقية، فالشاعر قادر على استعمال “الرموز المتيبسة المكرسة لأغراض يومية أو مجردة، لأجل تركيب بناء، يسميه ستيفنسون النسيج”(89). حتى الشعر إذا لم يكن له معنى، فلا ريب أنه يحمل صورا جميلة، ومتعة في الكلمات والإيقاع الذي تخلقه موسيقى هذه الكلمات(90).  

لا تتأتى صنعة الشعر البدوي إلا عن طريق “الشيخ”، أي الشاعر المتمرس الخبير بضروب اللغة، المجرب لأهوال الحياة، ذو التجربة، ذاك الذي خالط خلقا غير يسير، له سليقة وقريحة تساعده على النظم والارتجال، يتمتع بفطنة، ووقار واحترام بين الجماعة فصارا فحلا من فحول الشعر البدوي أو المغنى، أو هو يجمع بينهما، ثم الشاعر الذي اطلع على أشعار غيره فاكتسب زادا معرفيا صقل موهبته. لابد إذن للشاعر من شيخ ينهل منه ويسنده، لأن الشيخ هو أستاذ للأجيال التي تأتي من بعده، وهذه سيرة أهل العقيدة، وأهل العلم، وأهل النظم، لأن العلم لا يؤخذ من الكتب وحدها ولكن من أهله أيضا. فالشيخ هنا ليس بمقياس العمر المسن فحسب وإنما العالم بخبايا مجال اهتمامه وتخصصه. لكن لابد من الإشارة إلى أن الشعر البدوي، انطلاقا من خاصيات نظمه، يسير شعراؤه على خطو شعراء الجاهلية حتى قبل هلهلة الشعر وإقامة بحور الفراهدي، حين كان الشعر أساس التواصل عند عرب الجزيرة العربية.

نشير هنا إلى خاصية تلزم الشعر البدوي بجهة شرق المغرب، هي ما يعرف بالشاعر” الݣوال” الذي يرتجل أو يستحضر بعضا من نصوصه في الحال متفاعلا مع اللحظة والأحداث والمناسبات. “ݣ” يعادلها حرف القاف، من القول، وهذه ميزة فحول شعراء البدو. وقد تجمع إحدى المناسبات، خاصة الأعراس، عددا من هؤلاء الشعراء فينبري كل واحد يبرز ما له من مهارات الارتجال والنظم. ومن الكتاب من رأى في الشعر البدوي “انحدارا” للغة والشعر العربي الفصيح، منهم الكاتب المغربي محمد المنوني في كتاباته(91).

يختص الشعر البدوي بمعجمه اللغوي المتميز، حيث قوة اللغة في شفويتها وقدرتها على التصوير واستيعاب الواقع، واستشراف المستقبل، وبهذا لابد للغة أن تنبض بروح العصر، مفعمة بالتحولات التي يعرفها، والاتجاهات الفكرية السائدة فيه، فتلك هي الأوضاع التي يعيشها الشاعر بكل ما حصله من تجربة جعلته يحمل رؤى متجددة، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، وإنما هي طاقة تعبيرية(92).

إن استعمال اللفظ القوي المناسب، هو من خصائص الشعر البدوي، حيث يختار الشاعر اللفظ الحسن الذي يعبر عن الحياة المحيطة به، وعن الأحزان والأفراح والألم، والشوق، والفراق، كلمات يجمع بينها إيقاع ودلالات متفاوتة(93).

يحمل الشعر البدوي معجما لغويا عربيا، وإن لم يكن فصيحا، لكن نلحظ أن به عددا كبيرا من الألفاظ العربية الفصيحة، ومرد ذلك لطبيعة أصوله البدوية النبطية العربية، وحفاظه على أغراض الشعر الجاهلي والقديم، وما انضاف إليه من مواضيع فرضها التطور الحضاري وتبدل أحوال الناس، والبيئة الجديدة التي عرفها الشعر البدوي بسبب هجرة الجماعات العربية إلى العديد من بقاع الأرض، ومنها شمال إفريقيا، إذا لا يزال يحمل هيكلة القصيدة القديمة من مقدمة وجدانية، ووصف، ومدح، وخاتمة تحمل الحكمة والوعظ. إلا أن الشعر الذي لا يلامس قضايا المجتمع لا يجد إقبالا بين الناس. ثم إن الشعر البدوي يتسم بالسهولة والوضوح، وصور رمزية البادية باعتبارها منشأه الأول. فنجد المعجم اللغوي محملا بعدد من الألفاظ الدالة على البادية كفضاء مكاني، مثل، الجبل والريح، والخيل، والسفر، وخوض المعارك … ثم مدح النبي محمد عليه السلام. وتبقى أهم خاصية للشعر البدوي كونه شفويا مرتجلا، يحفظه الشاعر ويرتحل به إلى أن يموت، لهذا ضاع الكثير منه، أو يتم نقل النزر القليل منه وتناقله، خاصة المغنى، حيث يكون الشاعر محظوظا ذاك الذي تغنى قصائده، أو يغنيها هو، فتبقى محفوظة ترددها الألسن لزمن طويل، خاصة في الزمن الراهن حيث تطور وسائل الإعلام والتواصل سمحت بتدوين المنتوج الأدبي الشعبي عامة، ومنه المنتوج الشعري، والتعريف بفحوله، وتنظيم ملتقيات ومهرجانات للاحتفاء بهذه المادة التراثية، وتزايد عدد الباحثين المهتمين به.

المستوى الصوتي للغة الشعرية هو أساس بناء مفرداتها وصيغها وتراكيبها. فالنظرية الصوتية الحديثة لحل شفرة النص ومظاهره الجمالية(94). فاللغة الشعرية واحدة، باعتبار أن الكلام الشعري ليس كلاما عاديا، بل يقوم على الدلالات والزحافات وغيرها من المقومات التي تضفي عليه جمالا. فاللغة ليس مجرد أصوات فقط.

إن الشعر البدوي هو جزء من الثقافة الشفوية، مثل الرقص والغناء الشعبي الذي لا يعلم صاحبه، إذ يعتبر منتوجا شعبيا جماعيا، وجزء من الفلكلور. كما أن الشعر البدوي، رغم أصوله العربية الهلالية، فإنه بشمال إفريقيا تخلى عن الغرض الخاص بالسيرة الهلالية كما هو الحال في صعيد مصر، واقتصر على مواضيع ذات صلة بالحياة العامة لهذه الجماعات العربية المستقرة في جميع أنحاء بلدان شمال إفريقيا، من وصف، ومدح وفخر، ونسيب، ووصف، ورثاء، وغزل، نصوص مفعمة بمشاعر جياشة، هي نصوص تحمل نفس الأغراض التي حملها أسلافهم بشبه الجزيرة العربية، قبل هجرتهم على شكل موجات بشرية منذ نهاية القرن الرابع الهجري. إذ لا شك في أن هذه الهجرة، واحتكاكهم بشعوب أخرى، قد أثرت على لغتهم. 

من مميزات الشعر البدوي التي يختص بها دون غيره أنه يستلزم الإلقاء ليتمكن المتلقي من استيعابه والتفاعل معه، بمعنى أنه شفهي، وما تدوينه إلا للحفاظ عليه، ووسيلته في البقاء الغناء أو الحفظ والتداول. ثم إنه يصعب إن لم نقل يستحيل فهم لغته من طرف أي كان عدا المنطقة الجغرافية التي ينتمي إليها، بمعنى أنه حكر على جهة دون غيرها، ففي المغرب مثلا، لا يتسنى لأهل شماله أو غربه فهم القصائد الشعرية البدوية التي نظمها شعراء من شرقه، لأنه يستعصي عليهم فهم اللغة البدوية التي لا يفهمها إلا أهلها.  

غالبا ما يكون الشعر البدوي موجها أو قابلا للغناء، ومنه “المخزني” المتمدن والمتحضر، “فالشيخة المخزنية .. متحضرة ومؤدبة”، يقابلها “الݣبلي” المرتبط بالصحراء وحياة الترحال”(95)، لهذا فعندما توافدت هذه الجماعات العربية على بلاد المغرب وجدت في المناطق الصحراوية من شمال أفريقيا فضاء يشهب البادية التي قدموا منها، فنجد الشاعر البدوي يطمئن لوجوده في مجال بدوي، فيتجدد لديه الحنين للرسم والطلل، والناقة، والخيمة، فلا يجد كبير عناء في النظم والتفاعل مع البيئة الجديدة. انضاف إلى فضاء بادية معنى آخر يتعلق بالتجربة التي خاضها الشاعر بفعل الهجرة، هي هجرة اختارها بحثا عن فضاء أرحب يحقق فيه متعة الوجود والاستقرار بعيدا عن شظف العيش الذي نشأ فيه. لهذا نلحظ قيام مشكل الهوية وحضوره الدائم عند هؤلاء الشعراء والجماعات التي ينتسبون إليها، لن عملية الاندماج لا تنفي ذات الشاعر النزاعة لماضيها العربي.

يعمد الشاعر إلى “الإحالة” على الوقائع التاريخية السالفة من أجل توظيفها في نصوص الحاضر للربط بينهما، هي “إحالة تذكرة، أو إحالة محاكاة، أو مفاضلة، أو إضراب، أو إضافة”(96)

إن الشعر البدوي، شأنه شأن الشعر الفصيح، فيه الجيد ومنه الرديء، لأن الشعراء منازل، خاصة وأن الشعر البدوي أتى باللغة العامية وإن كانت تتخللها عبارات فصيحة، ومرد ذلك لكون الشاعر ذو أصول عربية لم يخرج منبع الشعرية العربية. ثم إن الكثير من القصائد يجهل أصحابها باعتبارها مكونا للأدب الشعبي الذي هو جزء من التراث الشعبي الثقافي، المادي واللامادي. لقد حافظت القصيدة البدوية على نفسها الشعري العربي كما هو عليه الشعر القديم، إن على مستوى الأغراض والمعاني، وهندسة القصيدة المسجوعة، والإيقاع المتوازن ذو البعد الدلالي الذي يجمع بين أبيات القصيدة مهما بلغ طولها، فنلحظ ذلك التناغم بين العبارات التي تقف على ساكن يضفي عليها حسنا، ثم المد بمختلف حروفه، لهذا قلنا إن الشعر البدوي يستلزم الإنشاد وقراءته مكتوبة غير مستحبة، بمعنى أن هناك قالبا إيقاعيا تستشفه من الإصغاء للشاعر وهو يلقي قصيدته بكل ما أوتي من مشاعر طافحة. وبالتالي فالوحدة الإيقاعية هي سمة البيت الشعري في القصيدة البدوية، وهذا أمر يبدو طبيعيا اعتبارا لكون القصيدة البدوية لا يمكن إخضاعها لقواعد النحو والعروض، ثم عن الشاعر ينهي قصيدته بذكر اسمه ونسبه والدعوة له بالصلاح والمغفرة، وذلك بشيء من الفخر والاعتزاز. ويتميز الشعر البدوي بالعبارة السلسة، وخفة الوزن، وجمال الصورة التي تقوم على الإيحاء والرمز معتمدة على البساطة والوضوح لنقل الواقع والطبيعة دون الرضوخ لإكراهات اللغة. نتساءل لماذا يقتصر الشعر البدوي على الشعراء دون الشواعر؟

أما على مستوى الثيمات فتكون حول المعاناة والسفر والترحال والمحبوب والموت والمدح والشوق … فيأتي الشاعر على ذكر أحداث وشخصيات وأمكنة، وما مر به من المحن والأفراح. نجد هذه التيما ثابتة خاصة ما ارتبط من بالمكان، مثل الصحراء في شبه الجزيرة العربية، والمراعي والجبال ي مناطق أخرى، أو ما رسخ في أذهان من منتوج ثقافي يخص نمط العيش كاللباس والأكل والسكن والعادات والتقاليد. ثم عند وصف المحبوب في نصوص الغزل العفيف، يصف الشاعر العيون والخد والكحل والشعر الطويل … ثم تيمة المديح ونبويات.

يسعى الشاعر البدوي لإثبات ذاته وكبريائه بكل ما أوتي من علاقات وماضي وانتماء ونخوة. فنلاحظ هذه الذاتية عند خاتمة النص حيث يصر على ذكر اسمه ونسبه وقبيلته. هذه خاصية مشتركة بين جميع شعراء القصيدة البدوية. نتساءل فقط لماذا يسعى الشاعر البدوي لإقرار والتذكير بهذا التوقيع؟ طبعا يمكن أن نخلص لعدة احتمالات، منها ما هو من باب الأنا لأن المر قد يأخذ من الشاعر أكثر من بيتين، ثم الاعتبار الثاني كون الأمر عاديا، لأنه لا يضيف قيمة جمالية للنص، ومن جهة أخرى هو عقدة الهوية بسبب الهجرة والشعور بالغربة، لأنه في دواخل يعلم أنه غزى هذه الأرض ولا يمكنه خلق تاريخ كاذب. فيعيش ازدواجية الانفصال والاتصال، بمعنى العيش بين الأهل والأعداء، تتأرجح مشاعره بين السلبية تجاه الخصم، وبين المنتصر القادم من المشرق عبر مراحل وظروف تاريخية سبق وأوردناها في موضع سابق. لهذا نجد دوما داخل هذه النصوص الشعرية نفحة التحدي. مرد هذا لسيكولوجية الشاعر والترسبات النفسية التي يحملها.

بالنظر للبيئة البدوية التي نشأ فيها الشعر البدوي سوف نقف على مدى ارتباطه بالجماعة باعتبار ثقافتها، من أعراف وتقاليد الجماعة التي ينتمي الشاعر لها، فهو جزء من القبيلة وركن من بنيتها منضبط لقيمها، ويعمل على نقلها من خلال أشعاره. فكلما تناولنا الشعر البدوي بالملاحظة والدرس سوف نلاحظ أنها متشابهة لأنها تمتح من وسط اجتماعي متشابه هو البادية، حيث تتكرر الثيمات والتعابير والمعجم والصور والمعاني، وهيكل القصيدة. فالشعراء البدو ينتمون لقبائل من شبه الجزيرة العربية ظل الطابع البدوي يطبع حياتهم وسلوكهم عبر الأجيال المتتالية، حيث “أناخت بنو سليم في برقة وطرابلس وشـطوط صـحراء فزان وانطلقت بنو هلال إلى تونس إلى غاية الغرب وهم رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرة والأثبج والخلط وسفيان”(97) وعن بطون هلال وسليم تفرعت فروع وعمائر وأعراش لدرجة يصعب نسبتها وأصولها. 

تميز الشعر البدوي بخاصية لا تكاد تخلو منها قصيدة وهي الإشارة للرحلة للنجعة أو لسفر لغرض آخر كالزواج، أو الغزو والغارات والقنص والتجارة. أما خلال المناسبات، كالأعراس فتنشب منافسات ومواجهات بين الشعرات عبارة عن مساجلات من أجل التحدي، وهذا اللون الشعري موجود في بادية ليبيا، ويسمى “لغنا لحرش” ومنه التحرش، ويسمى “الرباطة” في تونس والجزائر، ومنه أنواع ثلاثة: “لحرش”، و”التقاف”، و”المعطش”(98). ترافق السهرات الشعرية في البادية رقصات، مثل ما هو في بوادي ليبيا وتونس والجزائر، تسمى رقصة “النخ”، أو “النخيخ”، ورقصة “الرداسي”(99)، أو رقصة الشعر (بفتح الشين)، و”الردس” هو ضرب الأرض، وهي كلمة عامية حتى في المغرب. وغالبا ما يكون الشعر غزلا بدويا خالصا من صنف “لمسدس” الذي مطلعه ثلاثة “أغصان” و”أدواره” تتكون من ستة “أغصان”، حيث تتوحد القافية في مطلع الأربعة الأولى وتختلف عن الخامس والسادس. ثم صنف “الملزوم” الذي يتكون من ثلاثة “أغصان” لها نفس القافية، وتكون “أدواره” متعددة “الأغصان” متحدة القافية(100). جدير بالذكر أن أصل هذه الرقصات عربي حملتها الجماعات العربي خلال غزوها لهذه البلاد، لهذا تتشابه الأشعار والأغاني، إذ تختلف في الأسماء من منطقة لأخرى. أما الصورة فتكون مباشرة سهلة للفهم واستيعاب المتلقي، سواء عند الاستماع للقصاد يلقيها الشاعر أو مغناة لا تخرج عما هو متداول اجتماعيا على مستوى العلاقات والتحولات الاجتماعية. يستمد الشاعر الصور من الطبيعة مستعرا النبات والحيوان والطير، والمغامرات والرحلات، والموت، ومن محيطه وافتتانه بالجمال مستحضرا القيم الاجتماعية من شهامة وكرم وتكافل وغيرها. فالشاعر البدوي خاصة، ينظم وهو يفكر في الجمهور الذي سيتلقى نصوصه. إن النصوص الشفهية المرتجلة، شأن أي خطاب شفهي، تتسم بالإطناب والطول والتكرار والحشو والمبالغة. هذه خاصية الشعر الشفهي، حيث تكون الحقول الدلالية أكثر تصويرية تميل للسرد تتميز بالثنائية والتقابل. قد لا نغالي إن قلنا إن النصوص الشعرية الشفهية البدوية عالمها واقعي وليس رمزيا، لأنه الشاعر يتعامل مع اللحظة وإن كان يستحضر السيرة والرحلة والماضي السحيق. فقليلا ما نعثر على تلك الرمزية المفرطة التي نجدها في النص الفصيح، وإن كان من غير الصائب مقارنة النص الشفهي بالمكتوب، لأن لكل منها خصوصياته. 

يحتوي النص الشفهي، ونقصد هنا النص الشعري البدوي، على العديد من الدلالات والعلامات يمكن استنباطها عند دراسة النص وسبر أغواره على مستوى بنيته، انطلاقا من الإشارات الدالة التي تمهد الطريق نحو عمق المعنى. عندما نثير موضوع دراسة هذه النصوص فلا ينبغي الاكتفاء بتحليل المعجم اللغوي ولكن تجاوزه للمستوى المعرفي اعتمادا على عدد من المناهج، منها النفسي والاجتماعي والأنثروبولوجي والتاريخي، وغيرها بشكل تكاملي. لأن النص الشعري البدوي يزخر بحمولة اجتماعية والنفسية والتاريخية وتراثية ودينية.

تتلخص ثيمات الشعر البدوي وأغراضه في الحب وما يتصل به من صبابة وهجر وشوق، ثم الاغتراب والبعد عن الأهل والأحباب، ثم الحزن على من مات ونعيه واستحضار النهاية والقدر المحتوم وطرح سؤال الوجود وما ينتظر الإنسان بعد الموت، ثم موضوعات القيم الإسلامية والإنسانية، واستعراض البطولات والأمجاد أو النكبات والخيبات. ربما يبقى الغزل أكثر الأغراض حضورا في المنتوج الشعري البدوي، إذ لا تكاد قصيدة تخلو من ذكر الحبيب والبكاء على الديار، كما في الشعر الجاهلي، ووصف مشاهد الرحلات والنجعة، فيكون الماضي حاضرا يربطه الشاعر بالحاضر. صف المحبوب وجماله الأخاذ، ثم أحوالها النفسية ومدى تأثيرها عليه. ومن الشعراء من يشي بمفاتن المحبوب، فيصف الجسد بكل تفاصيله، وهو بذلك يخل بحدود الغزل العذري العفيف الذي يكتفي بالرمز دون الإفصاح. ثم هناك غرض آخر لابد من ذكره لأنه يتردد في جل القصائد ويقوم على الموعظة والحكمة. يعمل الشاعر البدوي على إشراك الجماعة التي ينتمي إليها في العملية الإبداعية، لأن نصوصه لا قيمة لها دون جمهور يحتضنها. 

نورد نماذج شعرية بدوية للدلالة على قوة الإيقاع وموسيقى النص التي تستلزم الإلقاء: 

النص الأول، مقتطف من قصيدة “يا اللايمني في ليعتي”، نظم الشيخ محمد الرمعون الندرومي(الصورة أدناه)، وهي قصيدة مطولة(101).

يا لايمني في ليعتي ما زاروك محاني 

يا لو دقت الغرام الهجرة والتيهان 

تبكي من لي بكاني تعذرني في الصد والجفى

أنا الملسوع بالهوى عمر ما يخطاني 

ناري فالذات شاعله ودليلي حيران 

ولي نهواه جفاني بعد العشرة والموالفة

محبوبي ما رضى عليا ولا دواني 

جرح قلبي بسيف ماضي ضربت خدعان 

بسهام الشفر رماني وقتلني ظاهر بلا خفى

حسنو وبهاه حين شفتو للموت دعاني 

كان سبابي مشيت نتسارى فالبستان 

من كلوفي آش اداني صبت هلال الزين واقفة

من عشق الزين شوف حالي واعرفاني 

واسبابي يا أهل الوفى عراض الغزلان 

سلب عقلي ودهاني غير تلاقيتو مصادفة(102).

    تبدو اللغة شبه فصيحة في النص أعلاه، مثلا في الشطر الأول، “اللايم”، أي اللوم الذي هو العتاب. “ليعتي”، أي لوعتي بمعنى حرقتي. “زاروك” بمعنى الزيارة. “محاني” أي المحن جمع محنة. هكذا يبدو المعجم لغة شبه فصيحة على منوال الشعر العربي الفصيح، كما نظمه القدماء.

ثم يمكن أن نطالع نوعا من القصائد تحكي عن استقرار الجماعات العربية من هلال التي قدمت للمغرب وصارت تنعم بالرخاء وبحبوحة العيش، حيث المأكل والمشرب والخضرة، والأيام الزاهية عكس شظف العيش والمطاردات التي عاناها أسلافهم بشبه الجزيرة العربية. 

هذه قصيدة لأحد أولاد سيدي الشيخ(103)، قالها على أولاد هلال(الهلالات) عندما زاروا “الجامع لحمر” بمنطقة “المكامن” ب”الظهرة”(104) في أربعينيات القرن الماضي.

هاذوك أولاد هلال ..إيلا تسوّل وتسال

هما خيمة الفال..وشحال فيهم نية

جاو للجامع لحمر..وهذا مسمن وتمر

وتاي زين مجمر..ومشاوى مع الصينية

دايرين عل المبات..وكلش حباب وخيات

من تيولي كلشي جات..يروحوا للبرازية 

جاو نهار الحضرة..ومزينهم بنظرة

المريض فيهم يبرا..ويحبو البوبكرية

هذا العيد وقدور..وطالعهم شي نور

وكلشي فارح مسرور..بالذكر والتلبية

وتعرضهم سيدي..وكان فارح يدعي

قال هذو حباب جدي..وانت تكمل البقية

سيدي رفد المعروف..والكل فارح يشوف

قال ما تشوفوش الخوف..من المال والذرية(105)

     النموذج الثالث من النصوص البدوية المحبوكة لغة وإيقاعا، وصورة، ومعنى، لأحد فحول الشعر البدوي الجزائري، الشيخ بلقاسم البوراشدي. قصيدة السلوانية (هاجو الافكار):

 هاجو لفكار سيدي .. هاجو لفكار

لايمني يبليه بالهجر من لا ذاق الحب ما عذر جايح دون شوار

ما هزو ريح جمار زافرة

قالت لحبار سيدي .. قالت لحبار

السفر يقطع سلاسل الفقر ، الجولة تنبيك للذكر و تزيد الإضمار

الرزق ينادي للمهاجرة

صحت لخبار سيدي .. صحت لخبار

في نهار كتب سهيت للسفر ، قلت الغيبة حدها شهر  اخرجت للقفار

هايم فوق البيدا العامرة

ما عبت قرار سيدي.. ما عبت قرار  

غير نفاجي لهوال والكدر و نميل بالأقدام و النظر و نمتع لبصار

شفت المرسى و قلت يا درى

بانو لجدار سيدي .. بانو لجدار

يظهر حسن همام مشتهر ، عن شلية في قبة النصر ، راقب عل لشجار

فوق سفاين وبحور زاخرة

مثلي يعذار سيدي .. مثلي يعذار

رحلو بيا لقدام  بالجهر حتى ضحيت جليب المهر تاهو فالنوار

شعلت ناري والذات صابرة

خرجو لبكار سيدي .. خرجو لبكار

يوم الجمعة لسواحل البحر بالآلة ونغايم الوتر ، حافو للزخار

شوف مدينة سلوان زاهرة

خرجو لبنات للزيارة ورواح آ من بغى يشوف .. أرواح آ من بغى يشوف

تصغى و تشوف دالعبارة خرجو برا من القصور .. خرجو برا من القصور

قالو نزهاو بالثمارة ركبو في فراتن البحور .. ركبو في فراتن البحور

هيفات صغار سيدي .. هيفات صغار

صالو بالزين عوانس الحضر ، كل غزالة فايقة البدر ، بطلوع الغرار

خرجو بكساوي للمعابرة(105)

…….

الشعراء كثر في مختلف البلدان المغاربية، وبشكل كبير في الجزائر، شعرا وغناء. أما على مستوى الغناء فلابد من التوكيد على ما حققته الغنية البدوية خلال القرنين 19 و20م، وكذا انتشارها على يد أصوات نسائية ورجالية، وهي لا تزال مستمرة إلى الزمن الراهن رغم ما عرفته من تحويل نحو ما يعرف ب «الراي”، الذي يبدو في اعتقادنا مجرد تطاول على القصيدة البدوية الأصيلة، لأن القصيدة البدوية في مجملها موجهة نحو الغناء، بمعنى أنها تنظم جاهزة للغناء، وقيمتها الجمالية في أصالتها، وبالتالي فإن أي تحريف يلحقها هو تحريف لها في اتجاه دحضها وانقراضها. القصيدة البدوية مادة تراثية ضمن التراث الشفوي اللامادي، الذي هو مكون للتراث الثقافي، وقيمته في الحفاظ عليه، نظما وغناء. فالتجديد أو العصرنة لا تعني الركوب على مادة تراثية وتعريضها للابتذال.

نعرض بعضا من هؤلاء الشعراء الذي ذاع صيتهم ببلدان الشمال الإفريقي، خلال القرنين 12 و13هـ، ومنهم المعاصرون:

  • أحمد خوجة التونسي من ولاية لالة عايشة بنت الشيخ عمران بن الحاج سليمان المنوبية التونسية.
  • العربي بن أحمد بن الڤزڤاز وقيل الڤرباز يعظم الولي الصالح السيد أحمد بن محمد بن المختار صاحب الطريقة التيجانية ويستغيثه.
  • الشيخ محمد بن سليمان المغربي المكناسي، عاش في القرن 12هـ. كثير نظمه في التصوف.
  • السيد صالح باي، أحد أفاضل بايات قسنطينة، تولى الحكم في 1185هـ، وقتل سنة 1221هـ. كان يهتم بالأدب والأدباء وكرمهم. تعاطى النظم. كان مفتونا بشعراء الأندلس.
  • ابن الباذخ التلمساني.
  • الشيخ المدني التركماني، المزداد بمراكش. من شعراء القرن 13هـ
  • الشيخ قدور العلامي المكناسي، هو أيضا من شعراء القرن 13هـ.
  • الشيخ الحاج محمد بن أحمد المراكشي. عاش في ق12هـ
  • الشيخ الفيلالي التهامي المدغري، ولد سنة 1215هـ، توفي في 1286هـ. كان من ندماء السلطان سيدي محمد.
  • علي ولد مطية الدريدي المتوفى نحو 1225هـ
  • محمد بن لحسن الفقيه السلاوي المغربي.

… وغيرهم كثر، خاصة من الجزائر على حدود شرق المغرب، قرب مدينة وجدة. لا يمكن، في الزمن الراهن، أو حتى قبل هذا، تلك الوحدة على مستوى المنتوج أدبي البدوي التي تؤلف بين المغرب وجيرانه بالجزائر، حيث يمتد الإبداع بين شرق وغرب. نقف أيضا عند مدى الترابط بين ساكنة هذه المنطقة، وكيف كان أهلها يحيون احتفالاتهم وأعراسهم مستمتعين بقصائد وموسيقى الشعر البدوي، بين عدد من المدن، مثل وجدة وتاوريرت، وجرسيف، وجرادة، وضواحيها، والتي يستقر بها عدد كبير من العرب البدو الذين يتعاطون تربية الشاة بشكل خاص، ومنهم هؤلاء الشعراء الذين تنتشر أشعارهم بتراب المنطقة ويرددها شيوخ المغنى من شرق المغرب ومن غرب الجزائر، من وهران وتلمسان، وبشرق المغرب خاصة بعض البوادي، منها، عين بني مطهر، سيدي لحسن … هذه الاحتفالية لا تزال مستمرة إلى الزمن الراهن داخل المناسبات التي أسلفنا ذكرها. 

الخطاب الإبداعي، الشعري، هو تعبير عما يجول في النفس من مشاعر وأحاسيس، ومن أحوال وأهوال. لهذا فالشعر البدوي كمكون من هدا الكم الإبداعي الشعبي لا يزال قائما تتوارثه الأجيال. ثم إنه من الموضوعية التوكيد على دور الشعر البدوي وشعرائه في رفع الهمم لتأجيج المقاومة ضد المستعمر، وهي نصوص كثيرة منها المغنى. كما انه من الموضوعية القول إن الشعر البدوي لا يعبر عن هموم الجماعة التي ينتمي إليها، بمعنى أنه بعيد عن هموم الناس، فقط هو حاضر للاحتفال والمناسبات، والترف اليومي. صحيح أن الشاعر اليوم لم تعد تحتضنه القبيلة كما كان في السالف من الأزمان

إن الشعر البدوي يشكل مشتركا بين المشرق والمغرب، تتناقله الجماعات العربية التي تتوزع في هذا المجال الترابي مند هجراتها المتتالية، واستقرارها بعدد من المناطق، منها شمال إفريقيا. 

لابد للشاعر البدوي من جهة تتبناه، فالجهة المثلى لهذا الأمر هي القبيلة، كما كان الحال بالجاهلية وصدر الإسلام ثم العهدين الأموي والعباسي، حيث كان الشاعر مفخرة قبيلته. هذا الشاعر له التزامات تجاه قبيلته، أي تجاه زعيمها وأهلها، فهو مزع بين مدح الزعيم وانتظارات الجماعة التي ينتمي إليها، وهذا أمر بعيد المنال، لأن الشاعر في هذه الحال سيكون كاذبا، إذ ليس بإمكانه التوفيق بين الطرفين. لكن في الزمن الراهن تغيرت البنية الاجتماعية بسبب تعاقب العديد من الأحداث التاريخية، كان آخرها الاحتلال الأوروبي الذي عمل على تحريف ثقافة ساكنة بلدان شمال إفريقيا واستحوذت على ثرواتها. فكان للشعراء دور في الأحداث التي تدور حولهم، ومنهم شعراء القصيدة البدوية، وهي الأشعار الموسومة بالوطنية. فمنهم من تعرض للنفي أو التعذيب والتقتيل بسبب انخراطه في حركة المقامة للمطالبة بجلاء الاحتلال عن أراضيه. الشاعر هو أكثر الناس إحساسا بمن حوله، متأثرا بكل الأزمات، متفاعلا معها وإلا لن يكون شاعرا صادقا يحمل رسالة. الشاعر سجل تاريخ جماعته، وديوان ثقافته، لهذا كان الشعر ديوان العرب. الشاعر يشعر دوما أنه يعيش الاغتراب واليتم الشيء الذي يحدث تصدعات في شخصيته التواقة دوما للحرية، فإذا وجد وسطا لا يتلاءم مع ميولاته وتطلعاته سوف يجعل سلوكه مطبوعا بالرفض والنفور والثورة، أو يكون شاعرا منبطحا خديما للزعيم وحاشيته، بعيدا عن طموحات الشعب واعتبارات الوطن، أي أنه يعيش بدون قيم.

ينظم الشاعر البدوي نصوصه وفق نظام شعري مضبوط رغم عدم انضباطه لقواعد اللغة، أي شأن الفصيح، فهو يكتب النص على مرحلتين تسمى المرحلة الأولى “هدة”، والثانية “فراش”، كما هو في المثل التالي للشاعر الشيخ محمد بلخير من قبيلة الرزيقات فرع أولاد داود، ولد حسب التقديرات ما بين 1830-1832 م بوادي المالح، ضواحي عين تموشنت.

“هدة”

نشتي عزيز قلبي حدايا *** نحضى ليه جوار في العرب

قلت لها يا طول سنجاق الودايا *** شهبة جيد قايد العرب

الجار تمليه لون وجه مراية *** و العشرة تعدي بلا جرب

و المحبوب اللي بعيد شوفه سعاية *** يزهى به القلب اذا رقب

انا صاحب الزياخ طالبين العناية *** ندوك اذا خالقي كتب

الماشي يمشي مع ولاد الثنايا *** يتولوا مشارب الجعب

لا تبغيني كان ما ظهر شنايا *** من يشكر روحه الا كذب

اللي قال انا رجيل يغزي معايا *** يعرف خوك سطا و الا هرب

متربص و لبيق حافظ بلا قراية *** نعطي حق الناس اللي وجب

عمره ضيفي ما يبور و انا هنايا *** عرضي خفت عليه لا ينغتب

وفقني ربي بالمال حد الكفاية *** وفي للقوال ما طلب

البركة و الدين و الصلاة و القراية *** من يعرف هذوا ما تعب

“فراش”

يا قلبي ياتيك بالصبر *** يا عارف الاشيات كلها

مالك حايزني للوعر *** ما باغي غير اللي تحبها

اذا بك صفاوة القمر *** نعي انا واياك عندها

ما عندي في الدارقة خبر *** غير المكتوب جابها

في ليلة عشرة من الشهر *** بايت وسادي دراعها

و شفت ام الدلال بالبصر *** بتنا في ميعاد عندها

عشقي انا به نفتخر *** اللي فاز على الزين زينها

جربي فوق فراشها احمر *** ازار و نوار فوقها

رزقي ياتيني من الحجر *** و ايامي ترجى فصالها

ساس النو يجي من البحر *** و المالك لينا يجيبها

يتغشى عشبي من المطر *** تظهر ساقتي و وادها(107)

قد يرفض الشاعر محيطه وكل ما حوله فيميل للعزلة، ربما لم يجد تجاوبا أو تفاعلا انعكس على نفسيته بشكل سلبي، ومن هؤلاء الشعراء محمد بلخير الجزائري الذي أوردنا بعضا من نصوصه في موضع سابق من هذا البحث، فتنعكس هذه الحالة النفسية على إنتاجه الشعري، فيخلق ثيمات الحب والأمل والثورة، أو الحزن والرثاء والتشاؤم والنقد والسخط، أو ينبري للتعبير عن هموم الجماعة التي يعيش فيها، أو يتوجه نحو موضوعات الدين الإسلامي، من قصائد دينية أو نبويات أو صوفية. يقول الشيخ محمد بلخير:

والشيخ اللّي يكون كامل***ينظر في البر والبحر شرقي ويمين

والشيخ مذهـب الحمــايل***أمضاري ما يغفلش عن طرف العين(108)

وهو بهذا النظم يثبت ذاته، فيؤكد أن له دورا في الوجود، دورا لا يستقيم إلا بقيام الجماعة التي ينتمي إليها، وفي ذلك تأكيد على الخيط الرفيع الذي يؤلف بين الجماعة ويبلور ثقافتها، فتبدو متلاحمة ذات هموم مشتركة، ليست بالضرورة أحزانا وإنما أفراحا أيضا.

أنا سيدي زين لقباب بيه أناݣر عدياني***أو يده قدام يدي اتحول بين الشفرة وارتاد

أنا نوري ساس الكلام للفاهم كل امعاني***بين الشدة والضيق اللي ساهي فالتساد(109)

هذا ضرب من الشعر يمكن تسميته، تجاوزا، صوفيا في ذكر أفضال وكرامات شيخ الزاوية، وعن تلك العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد وما يلزم ذلك من شروط الطاعة والتأدب في حضرة الشيخ واقتفاء أثره حيث ينشأ ذلك الارتباط الروحي بينهما. وفي موضع آخر ينظم نصوص بلغت من النضج مبلغ كبر الشاعر وتقدمه في السن، حيث الهرم والشعور بالضعف والوهن:

محمد قال عليك من الشبـاب ولى شيباني***بعد اثنـين و ستين ما بقالي ما يـنزاد

ما تقطعش لياس كان رحل البيضا يرعاني***نضحي بين سمحات ساير مع ذاك الميعاد

الطيب للناس ليّ راه مرار***نشكي لخالقي لا لغيره(110).

قد يصادف وأن يعيش الشاعر في زمن لا يجد فيه سبيلا للنظم وفق ثيمات متعددة، حيث يسود الأمن والطمأنينة، كأن يعيش زمن الحرب، فيكتب عن المقاومة والمعارك أو لا يكتب، أو يكتب نصوصا عن الحب في زمن الحرب أو المجاعة أو الوباء، إذ لا تستقيم الحياة إلا بالحرية، فلاحتلال يفرض نمطا مكبوتا للعيش، ولعل أكثر من ينخنق بجو الاستعمار هو الشاعر. فهو بطبعه يصبو لحياة السلم والأمن والطمأنينة والصفاء. “إن الشاعر فرد من أفراد المجتمع، وبما أنه قد وهب القدرة على التعبير كما يحس به المجتمع فإن من واجبه أن يعبر عن ذلك من تلقاء نفسه، وليس من واجب أحد أن يطلب منه ذلك، وهذا يعني أنّ له كامل الحرية في قول ما يريد، دون أن يخضع لغير رقابة ضميره الّذي لا يني يوحي إليه بأن ما يقوله هو الحق وهو الصدق”(111). الشاعر ضمير المجتمع، وهو المعبر عن آلامه وآماله:

قلة لكتاف ما لقيتش في الــناس هوايا***تجعلنا صابرين و رجـال لصّبر يــنالـوا

في هذا اللـيل ما بقاش في النّاس نوايا***الحق اليوم غاب و الباطل طوالوا حبابوا

نوري ساس الكلام للّي يـفهم معنايا***و الدنيا ما تدومـش عند اللّي تزهالـو

لـيـام دّور بـين هذاك و بين ذايـا***و الــفلك يدور كل واحد يعطيه فصالو(112).

هكذا يقوم الشاعر بانتقاد المجتمع وتوجيهه، يشعره بخيباته والمصائب التي قد تلحقه، فينبري لإعطاء النصيحة بعد تشخيص العلل. لهذا نجد الكثير من الشعراء البدو لا يختلفون في سلوكهم ومعاملاتهم عن المصلح المرشد الزاهد المتعفف الذي يلقى احتراما قل نظيره. فيكون خطابه ثورة على ما هو سائد. “إنه القوة التي تدفع الناس والحيوان وما دونهما من صورة الحياة إلى التجمع بصفة دائمة أو في مناسبات معينة كالنسل أو الدفاع عن النفس”(113).

أما في الحقبة المعاصرة فقد عاشت دول شمال إفريقيا محنة الاحتلال، فكان لابد للشعراء من الانخراط في معركة المقاومة، والجهاد الذي كانت له حمولة دينية أمام ما اقترفته الآلة الاستعمارية من جرائم بشعة في حق شعوب هذه المنطقة من قارة إفريقيا، خاصة الاحتلال الفرنسي والإسباني. وقد حضر الوازع الدين الذي وحد كلمة هذه الشعوب وجعلها تنتظم في خندق واحد لصد الاستعمار وإجلائه عن أراضيها. أما الشاعر فبالإضافة لانخراطه في هذا الشأن الوطني، كان لزاما عليه أن يسدي النصيحة لأبناء جماعته، لأنهم أهله، مرتكزا على التعاليم الإسلامية التي تخاطب الوجدان.

من صابك يا إمام عادل***و يخاف من الإله ما يعرف خوفين

يعدل ما يكون مـايل***تربـح للسلام من افضـالو فالدارين(114)

يعاني المجتمع الذي يعيش فيه الشاعر من عدة مشاكل، اجتماعية بالأساس، تهم الفقر والجهل والبطالة، ناهيك عن ظلم الحكام، الشيء الذي يجعله يتفاعل مع كل هذه الأحداث وإلا سيغرد خارج السرب. أما الشعر البدوي فقليلون هم الشعراء الذين يتفاعلون مع قضايا المجتمع، ربما لأن هؤلاء يتعاملون مع قضايا الجماعة كونها غريبة عنهم، بل الشاعر نفسه يعيش حالة الاغتراب وغياب الشعور بالانتماء، فهو يعيش أزمة البحث عن “الأصول”، عن الجيل الأول القادم من شبه الجزيرة العربية، وبالتالي فهو دائما يفترض أن هناك مكانا بعيدا قدم أسلافه منه. لهذا تحضر تيمة الرحلة والفيف والطلل والغز، والحنين لل”وطن” في نصوصه. لهذا نجد العديد من هؤلاء الشعراء لا يهتم بما تمر به الجماعة التي يعيش فيها لأنه لا ينتمي إليها.

مقابل كل هذا العديد من فحول الشعر البدوي تبنوا القيم الدينية والإنسانية لتحصين المجتمع من الانحراف والأخلاق السيئة التي الجماعة تتشبث بخصوصياتها الثقافية، لأن في ذلك استمرارية لها. هكذا تجلت النصوص الدينية، والتي يمكن التأريخ لها منذ عهد الموحدين، حيث نذكر أحد شعراء هذا العهد وهو أبو العباس احمد ابن عبد السلام الجراوي الفاسي (528هـ/609هـ)، الذي يعرف بشاعر الدولة الموحدية. نذكر هنا أن مؤسسس الدولة الموحدية الفقيه محمد بن تومرت ظل يحارب كل ما كان يراه، حسب اعتقاده، مجالا للهو من غناء ورقص وآلات ترافق المظاهر الاحتفالية، بدعوى “المر بالمعروف والنهي عن المنكر”(115). أما الشعر الشفوي فطبيعي أن تكون بداياته متواضعة على مستوى الشكل والمواضيع المطروقة، لكن كانت هناك حركة شعرية شفهية ليشهد استمرارية وتطورا في عهد المرينيين ثم الوطاسيين خلال القرن 13م، والسعديين خلال القرن 16م. ومن النصوص الشفهية التراثية ما كتبه الشاعر ابن غرلة الذي شغف حبا برميلة أخت الأمير عبد المومن بن علي الكومي قائد دولة الموحدين ورفيق درب المؤسس محمد بن تومرت، وهو النص الذي كان سببا في إعدام الشاعر بسبب غزله والتشهير بأخت الأمير، نذك له النص الشعري الشفهي التالي، الذي تتجلى فيه قوة النظم وجمال الصور وبعد المعاني والتصريح، ولغته عربية:

(مقتطف من موشحة تعرف بالعروس)

من يصيدْ صيدا ***فليكن كما صيدي

صيدي الغزاله***من مراتع الأُسدِ

كيف لا أصول ***واقتنصتْ وحشيّه

ظبية تجول ف***ي ردا وسوسيّه

صاغها الجليل***فهي شبه حوريه

تنثني رويدا = إذ تميس في البردي

تعجن الغلاله***والرِدى مع النهدي

ربّ ذاتِ ليله***زرتها وقد نامت

والرقيبْ في غفله***والنجوم قد مالت

رمتُ منها قبله***عند ضمِّها قالت

قرْ قرْ واهدا***لا تكون متعدّي

تكسّر النبالة***تفرط العقدي(116)

ومن الزجالين أيضا، سعيد بن إبراهيم السدراتي، العربي المنالي، ابن زاكور، الطيب العلمي، ابن طاهر الهواري، الشيخ الحراق، ابن شجاع، عبد القادر العلمي، ابن داوود، العذراوي، الكفيف الزرهوني …(117).

 الشعر عامة، ومنه البدوي، إنما هو تلك الوسيلة التي تهذب أخلاق النفس من عزة وكرامة، ووازع ديني يؤدي لتوازن الروح.

يعتبر شعر الملحون من الأركان الأساس للشعر العامي، ونحن إذ نستحضره هنا فلعلاقته بالشعر البدوي ذي الأصول النبطية، فكلاهما يتقاسم اللغة والمنبت والمواضيع، فشعر الملحون واسع الانتشار، أي أنه يتلقاه ويفهمه جمهور واسع عكس الشعر البدوي الذي يقتصر على جمهور خاص بمناطق جغرافية محدودة، أي بالبادية أ وأهل البادية الذين ارتحلوا للمدن واستقروا بها دون أن ينقطع تواصلهم بالبادية. ثم إن شعر الملحون قد لقي عناية فائقة من طرف الجهات الرسمية وجمعيات المجتمع المدني، وكذا من طرف طبقة اجتماعية يمكن القول عنها أنها ميسورة أو الخاصة. فالملوك أنفسهم اهتموا لشأن شعر الملحون. ومنه مقتطف من نص للفقيه المفضل أفيلال: 

صبروا لْحكام ربنـــــا   

يفقـــــر ويغنـــــــي

كل يــوم في شــــان   

مُولَــــيْ الملك حكيـــــم(118)

يعتبر السجع، او الكلام المسجوع من المحسنات البديعية للنص الشعري العامي، ومنه البدوي، حيث تتجلى قوة اللفظ والإيقاع الذي يشد المتلقي، فيعمد الشاعر إلى زخرف الكلام الذي يذكي حماس الجمهور ويجعل النصوص الشعرية تجد المنفذ إلى نفوسهم التي تتولد لديها قابلية لحفظ هذه النصوص وغنائها. ويعتبر شعر الرجز من الشعر العامي لما فيه من رجز يليق للغناء والإنشاد، فكان متداولا بشكل واسع بين عامة العرب.

شعر الملحون جزء من هذا الأدب الشعبي. فلا نرى فاصلا بينه وبين الشعر البدوي سوى ما اتسم به شعر الملحون من سمات التمدين والحضارة والنخبوية، وجل نصوص شعر الملحون معلومون شعراؤها. علما أن الفضاء الطبيعي للشعر البدوي هو البادية، ويمكن إيراده ضمن الأدب التقليدي المتوشح بصفاء التعبير والحفاظ على تراث الأقدمين.

ننتقل للحديث عن الشعر الموجه للعناء الموسوم ب”العيطة”، فهو أيضا شعر عربي بدوي عامي شفوي، يختص بجميع مميزات الشعر البدوي، ويتفرد بغنائه الذي تتعاطاه النساء كما الرجال. أما النساء فهن “الشيخات”، والشيخة هي تلك الشخصية التي وسمت مرحلة من تاريخ المغرب على عهد مرحلة “القايدية” نسبة لقواد الاستعمار، إبان الاحتلال الفرنسي للتراب المغربي. و”العيطة” لون غنائي شخص المغرب دون غيره من بلدان شمال إفريقيا. فالمرحلة الاستعمارية جعلت من “الشيخة” رمزا للمقاومة حيث أصبحت ناطقا بلسان حال القبيلة ضد الاستعمار وقواده. هكذا جاء شعر “العيطة” ليسم تلك المرحلة من معاناة الشعب المغربي، وهو موجه للغناء، حيث تزخر الخزانة الغنائية والأدبية المغربية برصيد هائل من هذا الشعر عبارة عن أغاني يرددها المغاربة في سائر البقاع، كما أن هذا الشعر حظي بكم غير قليل من التتبع والدراسات الأكاديمية. هذا الشعر تختزنه ذاكرة الشيخات، ثم انضاف الرقص للغناء من أجل الفرجة وإلصاق معنى قدحي بصفة الشيخة من طرف قياد الاستعمار خاصة القايد التهامي لكلاوي قائد الحوز. ولنا في شخصية “خربوشة” أفضل مثل لنضال هذه الفئة من الشعب ضد الاحتلال وشد الهمم لأجل المقاومة، إبان مغرب الاستعمار والقواد والباشوات والعيان والخونة. شعر “العيطة” هو شعر بدوي شفهي، وقد ظل كذلك إلى الزمن الراهن شأن بقية ضروبه، من زجل وملحون وشعر بدوي يخص شرق المغرب وغرب الجزائر، منبته البادية، ولو أن شعر الملحون اقتصر على المدن. فقد نما وسط القبيلة يعانق همومها وتطلعاتها، يتميز بالتلقائية والعفوية، وكثيرا ما يجهل المؤلف، لذا فهو منتوج الجماعة التي ظهر فيها. ورغم التحول الثقافي فإن هذا الصنف من الشعر لا يزال قائما مستمرا تتناقله الأجيال ويحظى باهتمام الدارسين. وأجمل ما في الشعر البدوي، ومنه شعر العيطة” جمال الإلقاء بكل ما تزخر به القصيدة من تناغم وبديع وسلاسة لفظ وتعبير قوي خشن، يرافقها عزف وآلات وترية وإيقاعية بما لها من مقامات وطبوع موسيقية شعبية. عكس اللون الشعري البدوي بشرق المغرب الذي يقوم عناؤه على الآلات الصوتية والإيقاعية.

لا يمكن ربط الشعر البدوي باللغة العربية فقط. قد تكون لغته عربية، لكن حمولته تتعدد باعتبار ثقافة الجماعة التي نشأ فيه، فهما غالى البعض في عربية الشعر البدوي لابد من الإقرار بأنه يرشح باسم المجموعة البشرية التي يعيش فيها الشاعر، هذه الجماعة هي ساكنة شمال إفريقيا التي تضم عددا من الأعراق والثقافات واللغات. ثم إن اللغة العامية هي مزيج بين كل اللغات السائدة بين ساكنة هذه المنطقة.

إن “العيطة” والشعر البدوي عامة، شعر شفوي عامي، وبالتالي فالباحث يحب أن يعي أن مادة البحث لن تكون مكتوبة، فمنهجية البحث اقضت الاستماع لعدد كبير من أغاني الملحون و”العيطة” والشعر البدوي (هذا الأخير نقصد به الشعر الذي هو متداول بشرق المغرب وغرب الجزائر). 

نورد هنا نصا قديما من أغاني شعر “العيطة” مجهول صاحبه، وهو من النصوص التراثية القديمة المحبوكة نظما، تعد ضمن متون “الحصبة”، وهي متعددة الأغراض، أهمها المروءة والكرم، وهي تروي وقائع تاريخية عن القايد أحمد بن عمر قائد عبدة صاحب “عزيب”(الترحال بقطعان الغنم لأجل الماء والكلأ) بمنطقة “الميلحة” قرب “ثييحونا” (أي الدكاكين، مفردها اثحانت، أي الحانوت بالعامية، والمنطقة هي دوار الشلوح حاليا). وتشير القصيدة لموت  السلطان الحسن الأول(حسن يا حسن كنتي ماتموتشي حتى يسبقوك العديان):

عيطة “اعزيبو في لمّيلحة”

اعلي قبلك بايتة نتسنى سيدي احبيبي

حرك يا مول السناح الزيتي

على قبلك بايتة عساسة

ونبوج عند راسك آوين آوين مالو ماجا

فين انصيبو ايوا ايوا

في حانوتو ايوا ايوا

بايع اوشاري ايوا ايوا

ارخيص أوغالي ايوا ايوا

أنا يا نانا أديني معاك يا بابا لغدر عيب

أولايلاه أولايلاه

بايت جفيني يا سيدي احمد

المضمة حاسكة رهيفة كامونية

سبع سلامات في السلام ألغادي زربان

على قبلك بايتة نتسنى أسيدي احبيبي

اديني امعاك أسيدي لغدر عيب بايت جافيني يا سيدي احمد

اعلي يا فريك لحمام

علي اوزيد في لوهام

بلغ لوحيدة اسلام

سبع سلامات في السلام الغادي زربان

عودلي كيف سار بيك ألباس عليك

الله يا داتي طالت الساعة بيك اوبي

اصحاب أسيدي والوشي باس

لالة لالة كيف ديري ليه خل اعزيبو في لمليحة

أنا آش هذا بنا فين ما نشوف الزين اندي كيتو

أيلي وبابا آش هذا بنا ما بيدي ما ندير ليك مولانا اهديك

علمتيني ارفاكتك أو سخيت بي

والله ما أنا تاعتو ليام اعطاتو

سيدي مسعود يا بن احسين تحكم في الظالمين

سير ألي خان عهدو ليام تجيبو

أبابا سيدي عيان أو شاد الطريق

ايلي ايلي آش هذا بنا خل اعزيبو في الملحة

لباس حاجتي في الساقي ادوي

لباس شيخنا حمدوشي الحمدوشي سيدي علي

سيدي اصباحك سيدي امساك ما جيت غير نرهى معاك

لباس عيط نسمع عيطك يا سيدي بن داوود

واهي سيدي الحاج العربي ادوي

لباس كون صبرت حتى إحن سيدي

آه وأنا ويلي جيتي تبليني

من غيرو ما انوالفوا لا اطيب علي

بوي الغليمي اخضر الدفف لي زاراولف

هذاك هذاك ازها اولا بلاك علي

فين العاهد فين رفاكة اولي درنا لدهم لعيساوي

آه يا وهي جيتي تبليني

كون صبرت حتى إحن ربي

عييت انا ما انكابر حتى اجرات فيا

فين العهد فين ارفاكة لي درنا

زربي عطلتني

يا بنتي يا لالة هنية

بايتة عند اوصابحة امريضة

نودي كري لي لغدر عيب

ماح ماح يا ماح الروح امشات في لمزاح

دار احبيبي عالية

فيها خوخة دالية

فيها لحمام تا اكركر تاع ماليه وردية

بايتة عندو وصابحة امريضة يا عنيي

نوضي كري لي أساخي بي

خوي خوي لغدر 

هناك ملاحظة لابد من إبدائها، هي بمثابة إشكال يعترض سبيل الباحث في مجال الشعر البدوي، وهي أن جل النصوص شفوية يحفظها عامة الناس وتتداول بينهم، وبالتالي في تتعرض للتحريف، نقانا وزيادة، فنادرا ما نعثر على نص أصلي، فالسبيل لضبطها هو تحقيقها، وتلك مهمة قد تكون مستحيلة، خاصة وأن جل النصوص الشعرية البدوية القديمة مات أصحابها، ومن عوامل تحريفها الغناء، كما هو الشأن بالنسبة لشعر “العيطة”، كي يتماشى مع اللحن والسجع، فيتم الحذف والاستبدال والإضافة. ومع كل هذا الشعر الشعبي، ومنه البدوي، وعاء تاريخيا لشعوب شمال أفريقيا، وغيرها من البلدان التي عمرها العرب، ليصبح بذلك الشعر البدوي ظاهرة اجتماعية مرتبطة بحياة الناس في أبسط تفاصيلها. لهذا نرى أنه عند قراءة تاريخ الشعوب لابد أن توازيه قراءات أخرى إضافية، منها الشعر الشعبي. فالكثير من الكثير من الباحثين والمؤخين كانوا يعودون لنصوص الشعر القديم من أجل تأكيد أحداث مضت ولا دليل على وجودها، لأن من هذه النصوص ما كان يصف المعارك أو الغارات أو شخصيات قضت أو أحداث لم ينتبه لها المؤرخ، كما كانوا يستعينون بالشعر لشرح آيات القرآن، أو ليس الشعر ديوان العرب؟

أما بالمغرب فلا ريب أن العديد من الوقائع تم السكوت عنها أوردها الشعر الشعبي، فتصير دولة بين الناس لا يعرف صاحبها لأنها منتوج شعبي، شأن الأمثال والحكايات والقصص والنكت، كلها تقال سرا ويحفظها الناس وينقلونها من جيل لآخر فلا تنقرض. شعر “العيطة” مثلا تناول التاريخ السياسي والاجتماعي المغربي كما لم يتناوله المؤرخون، وهو شعر صادق، ومنه الظاهرة “القايدية” التي وصفها شعر “العيطة” بشكل غنائي لا يزال متداول إلى الزمن الراهن رغم كل تعرضت له “الشيخة” من اضطهاد وتشويه في المواخير، وقس على هذا من “حركة” واحتلال فرنسي أو دولي، ومجاعات وأوبئة، وغيرها. كما نجد عند الشعراء البدويين في شرق المغرب والجزائر نصوصا تروي المعاناة مع المحتل الفرنسي والإسباني. فالشاعر البدوي عين لا تغفل عن قضايا الجماعة ولا تنام، تسر القول أو تجهر به. الشعر البدوي تعبير عن الألم كما هو تعبير عن الفرح. إنما هو خطاب يتم تمريره بشكل فرجوي تلتف حوله الجماعة وتتبناه ليصبح في ملكيتها.

يمكن اعتبار الشعر الشفوي متنوع الأشكال، منه الزجل والملحون والموشح والبدوي، وشعر العيطة، ونحن نرى أنه شعر أنجبته الجماعة في سياق منتوجها الثقافي الجماعي، فمنه ما اختصت به النخبة، مثل شعر الملحون الذي حظي بالعناية والتدوين والغناء واهتمام الدارسين، وقد برز له مشايخ ورواد وأعلام ومدارس. ثم الزجل الذي هو الآخر شفهي مرتجل ينتج عن نبض المجتمع وأحواله، وقد يراه البعض كلاما عاديا لكن حقيقته غير ذلك لأنه حمال لصور ومعاني وفلسفة المجتمع الذي نشأ فيه، ومنه الغنى كما الحال في الزمن الراهن مع الشاعر الزجال أحمد الطيب لعلج وحسن المفتي وغيرهما. نورد مقتطفا من قصيدة لحسن المفتي:

الثلث الخالي

حجبوك لعدا ياولفي ونار الشوق مابغات تهدا

ومع لحزان والوحدة ضاعت ايام

حالف مايضيع غدا

لوبناو عليك صور نهدو بدراعي

أو قطعو بيك لبحور نشقها بشراعي

لو حطوك في جبل عالي

أو حتى في الثلث الخالي

لوحطوك في جبل عالي

أو حتى في الربع الخالي

لازم نوصل ليك ياحبيبي

حجبوك لعدا وظنوني دغيا ننساك

ثم نصا آخر للشاعر الزجال أحمد الطيب لعلج: 

حواء

بونا آدم عاش ف الجنة

عمره ما ذاق طعم المحنة

مهني عاجباه الراحة

عيات تغمزه التفاحة

لكن حواء بغات التفاح

ما بغيت تفاح ولا نفاح

قالت يمانا لبانا

يا ذاك “المدفدف” بعبانة

اخدم يا ادم تحرك

وانت فنيان غير مورك

العناد يا حواء خسارة

ما بغيت محنة ولا تمارة

الوالدة غرات الشيطان

داربه دورة الحيطان

واهبط للأرض تالف مسكين

كيف المذبوح بلا سكين

….

هذا الزجل موجه نحو غناء، ولو أن جل الشعر الشفهي العامي يكون صالحا للغناء باعتبار إيقاعه وموسيقاه وشفهيته. نتساءل هنا عن مصدره الشعر الشفهي هل هو الحقل الديني، باعتبار طقوس العبادات التي ظل البشر يزاولونها وما يرافقها من كلمات ذات إيقاع ورموز ودلالات، ومخاطبة الموات ومحاولات التواصل مع العالم الأخروي، والتواصل مع الجن والعالم السفلي وكل ما نسجه المخيال البشري من أساطير، وإضفاء صفة القدسية والألوهية على عدد من الكائنات وحى البشر وعبادتها، وهذا مشرك إنساني في تفاعله مع الطبيعة التي باشر باكتشافها كما فعل مع جسده بالوشم وطلائه بالألوان … التفاعل مع الطبيعة هو الذي جعل البشرية تقلد بيئتها بما فيها الحيوانات، الفن هو تقليد الطبيعة ومنافستها لتحقيق الجمال.

إن الشعر البدوي الذي أوردنا في موضع سابق أن جذوره عربية، لا يمكن تناوله بالدرس بهذه الصفة، لأنه أضحى يعيش في بيئة مختلفة عن شبه الجزية العربية واليمن، إنها البيئة الأمازيغية بكل ما تحمله من زخم تاريخي وإرث حضاري وتراث وثقافة. فالشعر البدوي بهذا المعنى لم يعد عربيا خالصا، اللغة أضحت مجرد وسيلة، فهناك شعر أمازيغي هو الآخر بدوي تفاعل ما الثقافات الوافدة ومها العربية والإسلامية، أي ذلك التفاعل اللغوي لدرجة استمزاغ عدد من الجماعات العربية واستعراب عدد من المجموعات الأمازيغية(119). طبعا هذا التفاعل لم يقتصر على اللغة وإنما تعداها للثقافة، وهو تفاعل، حسب رأينا، سلبي أكثر مما هو إيجابي بسبب الخراب الذي لحق العمران والإبادة التي طالت ساكنة شمال إفريقيا، كما أشرنا إلى ذلك في موضع سابق من هذا البحث.

يختلف الشعر من البادية إلى الحاضرة حسب نشأة الشاعر، ففي مقارنة بين الشاعرين البحتري وأبي تمام يفاضل عبد القاهر الجرجاني بينهما، إذ لكل منها طريقته وكل واحد يمثل طريقة في صناعة الشعر وحرفته، فأبو تمام حضري مثقف ثقافة واسعة، أما البحتري فهو بدوي لا يستطيع التعبير عن الرقي العلي الحضري وصناعة الشعر الحضرية(120). طبعا هذا القول مردود عليه، وإنما أوردناه هنا لتبيان تضارب الآراء حول المنتوج الشعري بين الحضري والبدوي، وإن كان لابد من التفاضل، فمعلوم أن العرب كانت تلتمس المراضع لأبنائها من البادية كي تتعلم فصاحة اللسان العربي وتالف خشونة العيش. أما الشعر فلكل منها خاصياته ومميزاته، والعر العربي كما وصنا كان نشأته الأولى بالبادية، وفحوله من البادية، والمجتمع العربي بدوي. لهذا نعتقد انه لابد من ثورة على النظريات القديمة حول الشعر لأجل التجديد وفق المناهج الحديثة، إذ لا يعقل أن يبقى الشعر حبيس تنظيرات الجرجاني وما شابه إلى زمن الراهن، وقد تمر قبلها بحور الفراهدي والهندسة الكلاسيكية للقصيدة، من الانبعاث إلى تجديد الرؤيا، وطرق مواضيع وأغراض تتمشى والتطور الحضاري وتحول المجتمعات التي تتحدث اللسان العربي، حتى لغة النص تبدلت، فمثلا لا يمكن مقارنة نص لامية العرب للشنفرى بشعر راهن على مستوى اللغة والمعاني.

الشعر البدوي المغربي مجاله واسع باعتبار الطبيعة الجغرافية المغربية والدينامية البشرية، وكذا مجال استقرار هؤلاء السكان الذين يشكلون الجماعة. البادية في الزمن الراهن هي المجال الترابي الذي يمتد خارج المدن، فكله ريف أو قرى أو ما يصطلح عليه بالعامية “لعروبية”، ولربما هذه التسمية جاءت من كلمة “أعراب” بمعنى البدو الذين يجاورون الحواضر. هذا الكلام يدعونا لنسوق نموذجين من الشعر البدوي، ربما هو مختلف عن الشعر البدوي الذي تحدثنا عنه سابقا، لكن نورد القليل منه كي لا نقفز عليه ونغمره، فيبقى عرضة للضياع، ولو أن الحديث عنه يتطلب بحثا مستقلا. هناك إذن، النموذج الأول هو المعروف ب”إزران”، وهو شعر بدوي ريفي قديم قد الإنسان في هذه الأرض، أشعار غالبها موجه للغناء، ثم الشعر البدوي بمجال بني يزناسن والمعروف بشعر “العرفة”، وهو نوع من “التبراح”، عبارة عن كلام مسجوع يصاحبه عزف على مزمار ضخم له قرنان، وضرب على الدفوف، ورقص. ومنه نذكر الأبيات التالية، وجل هذا الشعر الشفهي العامي قائله مجهول:

الصَّابَّة و الݣانشو يلغى»»» وين درت آ خويا ديك البلغة.

سلسلوني و رماوني في لا جيپ»»» و كيف ندير نجيك آ لوليد.

إيلا من ربي الله، الله يسامح»»» إيلا من لعدا حتى لذيك الدار .

من آحفير لبركان داروا يومين »»» “السمية” هي و زوج اخرين.

هاا هاااه آ مّا ، بني يزناسن ها لالة على بكري »»» يحكموها جدود القايد المنصوري(121)

ثم نص آخر لشاعر يزناسني جمع فيه بين العربية والأمازيغية، وهو الشاعر المعاصر من مدينة أبركان أحمد اليعقوبي:

ﻻ ﺗﺒﻜﻲ  ﻃﻴﺮﻱ ﻻ ﺗﺸْﻜﻲ ﻟﺠْﺮﻭﺡ

ﻃِﺮْ ﻭﺗْﻌﻼّ ﺳِﺢْ ﺍﻟْﻔﻮﭪْ ﻭ ﺭُﻭﺡ

ﻧﺎﺱ ﻣْﺠﺮّْﺑﺔ ﺗْﻨﺼْﺤﻚْ ﺑَﺎﻟﻮُﺿﻮﺡ

ﺍَﺑْﻠﻤْﺜﻞْ ﻭﻧْﻈﻢ ﻛْﻼﻣْﻬُﻢْ ﻣﺸْﺮﻭﺡ

ﻻ ﺩّﻳﺮ ﻛﻲ ﻟﺤْﻤﺎﻣﺔ ﻭﺗْﺰﻳﺪ ﻑ ﻟﻘْﺮﻭﺡ

ﻣﻴﻦ ﺳﻤْﺤﺖْ ﻑ ﺍﻟﺒﺎﺯ ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪﻩ ﺭﻭﺡ

ﺃﻧﺖ ﭬﺎﻟﺖْ ﻟﻪ ﺷﻴﻦْ ﻓﻮﻙ ﺑَﺎﻟﺠِّﻴﻒ ﻳﻔُﻮﺡ

ﺷُﻒْ ﺫﺍ ﺑَﻠْﻌﻤْﺮﺍﻥ ﻳﺮْﭬُﺺْ ﻭﺍﻟﺮّﻳﺶْ ﻳِﻠُﻮﺡ

ﺍﻃْﻠﻊ ﺍﻟﺒﺎﺯ ﺳْﻤﺎﻩ ﻭﺭﺳﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺠْﻨﻮﺡ

ﻭﺭْﻋﺪ ﺑﻠﻌﻤْﺮﺍﻥ ﺧﺎﻕْ ﺗﺰْﻫﻖْ ﻟﻪ ﺭﻭﺡ

ﺑﻌّﺪْﻫﺎ ﻭﻫْﺮﺏ ﻭﻣﺎ ﻧﻔْﻌﺖ ﻣْﺪﻭﺡ

ﺣﺰْﻧﺖ ﻟﺤْﻤﺎﻣﺔ ﻫﺎ ﻭﺑﺪّﺍﺕ ﺗْﻨﻮﺡ

”  ﺑﻮﻳﺎ ﺍﻟﺮﺍﻱ ﻳِﻨﻮ ﺫﺍ ﻣﺠْﻴﻮﺡ

ﻃّْﻔﻎْ ﺫﻱ ﺑَﻠْﻌﻤْﺮﺍﻥ ﺩْﺟﻴﻎ ﺍﻟﺒﺎﺯ ﻳِﺮﻭﺡ “

 ﺑﻮﻳﺎ ﻭﻋْﻠﻰ ﺭﺍﻳﻲ ﺫﺍ ﻣﺠْﻴﻮﺡ

ﭬْﺒﻂْ ﻓﻲ ﺑَﻠْﻌﻤْﺮﺍﻥ ﺧﻠّﻴﺖ ﺍﻟﺒﺎﺯ ﻳﺮﻭﺡ(122)


    معلوم أن هذا النوع من الشعر البدوي الشفهي ارتبط بالغناء، لأنه منتوج موجه أصلا للغناء، وهذه خاصية لأن الغناء يسهل حفظه، لهذا يجد الباحث نفسه أمام كم هائل من الأسطوانات والأغاني يتوجب عليه الاستماع إليها وتفريغها.

ثم نعرض بعض النصوص الأمازيغية الريفية “إزران” التي مفردها “إيزري”. “وقد تقابله في اللغة العربية تسمية “البيت الشعري”، وهو نمط يعتمد على تجميع ارتجالي لأبيات متعددة لا روابط عضوية بينها، بل قد يتجاوز البيتين أو أكثر، متضادي المعنى دون حرج”(123). إنه شعر شفهي مرتجل مغنى، محمل بعاني الصراع مع تصاريف الحياة والمآسي والمعاناة، ثم إقبال على الحياة بكل حب وفرح ضد المستعمر والمعتدي.

نسوق هنا نموذج من هذا الشعر، من “إزران” لشاعر مجهول، ينتسب للجماعة التي أبدعته وغنته فخلدته، وهو نص غزلي يطفح حبا وشوقا للحبيب الذي هجر محبوبته وسافر بعيدا خارج الوطن، وما تبقت منه غير آثار تزيد الحبيب اشتياقا وصبابة: 

بسم الله أنبدا إماينزي غانبدا أبذا زي رابي ذا رخير إغا نارقا

أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا -أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا

أبداخ ذي ثاواث حاسباخ ثيمينوثين أيا رالا يما أيا الوالدين

أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا -أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا

أيا رالا يما أيا الوالدين إنو وا زاماخ أمينيخ ماين غاري ذي كوور إنو

-أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا -أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا

أذراحاخ أذساقسيخ الطارب ذي ثامسامان أسينيخ أريضا ما تغيما ذا كخسان

أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا -أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا

إنايي أذام أكاخ ماين واميكي بابام لعزيز ماين خش أوياخ ذواواران إيوذان

أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا -أيا رالا أيا رال أيا رالا بويا

أماين روخ إيثران ثناين إذايي فهمان أنانايي أدات أنام ذ الحب إتغينغان

شجاث أوابريذ أوذيني ياقيمان مارا ذمامي لعزيز إناس أذيعايان

…….

خزا غا روجنا مايندين يرقان ذ موراي أناخ إذين إطلاعان

أيما ذاروبي أيما ذا سواس أيما أناش واياكين الحب ذي دشا يوذاس

أرال ثامزيذا أرالا ينو مُخاس رخذماث واريخادام الحب إتعماذاس

أثخاذانت أواراغ ثهاراس أتواهاراس فكاخ مامينو ذاي إسكان زا كيذاس

إوا راح إوا راح أومي زايي ثاسخيذ أومي كيش أنوماخ أوغا ذايي ثاجيذ

أثزويذ الخارج أوغا ذايي ثاجيذ ثاجيذ بوحبار إنو ذي رمراح إتشميذ

روخا عاذ إوفيخ ثاعشيث إوور إنو رالا بويا تسناس إزران خ مامينو

أخشاييد ركوسي أعذراخ أغيمي ناش عاذ أتمزيانت أرهام يوزا غاري

سيذس شعيب انفتاح راغا إجو راغي راغاد خمامينو راغاد أورا خافي

إثران أوجنا شاناج إثداث إنو أراح سيوذاس أسرام إوان ذايي يتون

أرالا يما ذاوراخ أم لهوا ذاوراخ أمرشيغاض ذي ثازري حالاوا

رالا ثاسريث أناخ ثاقيم ذي ثاغماث أوسيغد أذام إنيخ أذ ميمون رفاح

أيا موراي أناخ سارا شواي ذي رمراح ما را ذايا أخياق ذا وور أذاش إراح(124)

نتساءل مع عدد كبير من الباحثين في مجال التراث الشعبي، ومنه الشعر البدوي، عن الأسباب التي أبعدت هذا الجنس الأدبي عن دائرة الاهتمام والدرس، خاصة وأن الثقافة المغربية حظيت باهتمام ثلة من الدارسين منذ أمد قريب. ربما هي الظروف التاريخية التي مر بها المغرب خلال مسار زمني عرف الاستعمار والصراع من أجل الانعتاق من الاحتلال، وكذا وجود ثقافات دخيلة جعلت من الثقافة المغربية ثقافة متعددة المشارب، وبالتالي فالشعر الشعبي يستلزم الوقوف عند هذا التعدد من أجل استكناف مكوناته، ضمن سياق البحث في تشكيل بنية المجتمع المغربي.

الشعر البدوي انطباع وتعبير عن الحياة اليومية في أبسط معانيها وتجلياتها، ونافذة يمكن للجماعة أن ترى وتبلغ ثقافتها من فضاء خاص هو البادية بحقولها وماشيتها ونسائها وأعراسها وأحزانها ورجالها، وآلامها، وكل ما عانه المجتمع المغربي إبان فترات الاستعمار بشتى ضروبه ودوله، واعتداءات المخزن وقياده. ثم الاغتراب خارج الأرض. كل هذه التقلبات أثرت المادة الشعرية التي كان الشاعر وأفراد الجماعة يتغنون بها. ظاهر غناء الشعر الشفوي كانت ولا تزال فاشية بين جميع أفراد المجتمع، ولن يستقيم الشعر البدوي من دونها، وهي ظاهرة تطال جميع صنوف الشعر الشفوي الشعبي. فكما هو صعب تحديد بدايات ميلاد شعر شفهي مغربي، من العسير أيضا الإلمام بهذا الصعر وفق تصنيف محدد، بمعنى أن الشعر الشفهي تركيبته متنوعة ومتعددة، منها، الزجل، والشعر البدوي، وشعر الملحون، والشعر الحساني، وشعر العيطة، و”الݣوال”، وكلام “العرفة”، و”إزران”. وإن ما يسند زعمنا هذا النصوص الشعرية ذاتها، فهي شفهية وعامية، وتتشابه على مستوى الثيمات وحتى الحقول الدلالية، وقوتها في شفهيتها، وهي موجهة للغناء، حرة تحمل إيقاعا موسيقيا يجعلها تتسرب لأفئدة الناس قبل عقولهم، فيقبلون على ترديدها وحفظها وتناقلها. أما عن الأثر الذي طبع الشعر الشفوي فلابد من الانتباه لعاملين مهمين هما العامل الجغرافي، ثم العامل البشري، فأما العامل الجغرافي فلا شك أن موقع المغرب، وبلدان شمال إفريقيا، كان محط تهافت عدد كبير من الحضارات والشعوب التي توافدت عليه غازية تنهم من معين خيراته وممرا نحو قارة إفريقيا عبر مراحل متقدمة مت تاريخ البشرية، ثم العامل الثاني وهو الدينامية السكانية، أو لنقل البشرية لأن الشعوب التي توافدت على المغرب ظلت منبهرة بفتنة هذا البلد وعمدت للاستقرار فيه على امتداد الحقب التاريخية الغابرة ناقلة معها ثقافتها لتنعكس على الحياة القافية للسكان الأصليين. لهذا جاءت الثقافة المغربية متأثرة بكل هذه العوال التي لا يمكن محوها، ربما نستطيع دراسيا التمييز بينها، لكن يستحيل الفصل بينها كمكونات تشي باندماج كبير حد الانصهار بين كل الثقافات الوافدة. هكذا جاء المنتوج الأدبي، الشعري الشفهي العامي البدوي المرتجل موضوع هذا البحث، ينضح بكل هذه النبضات الإنسانية.

د. محمد حماس

كاتب وباحث في التاريخ من المملكة المغربية

الهوامش

  • 76.            يقول الشاعر: كل شيء أضحى مبتذلا ولا خير يرجى، انقلبت الأحوال وتبدلت معيشة الإنسان خاصة المسكين المحروم حيث تفاقمت معاناته.
  •   يقول الشاعر: نبات الدوم قد أينع بفضل ما أنزل الله من غيث، أما النخل فقل ثمره، والفلاح أصبح يقتني مؤونته تاركا محصوله وزرعه. 
  •   عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، المقدمة، (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، د. ت.)، ص. 496 – 522، 527-535.
  • الممالك العربية القديمة، الموسوعة المعرفية الشاملة.
  • عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، م. س، ص 496، 522، 527-535.
  • غسان حسن أحمد الحسن: الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، قسمان، (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1990)، القسم الأول، ص. 65
  • ويلفريد ثيسيجر، الرمال العربية، أبو ظبي، موتيف ايت للنشر، 1992، ص. 77.
  • عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة …، م س، فصل في أشعار العرب واهل الأمصار لهذا العهد
  •   عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة … م س، ص. 496-522-527-535
  •   محمد المرزوقي، الأدب الشعبي في تونس، الدار التونسية للنشر،1967، ص. 51
  • ارنست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة أسعد حليم، مهرجان القراءة لجميع، مصر، 1998، ص. 13
  • عبد القادر فيدوح، آراء التأويل ومدارج معنى الشعر، صفحات للدراسات والنشر، 2009، ص. 87
  • خورخي لويس بورخيس، صنعة الشعر، ست محاضرات، ترجمة صالح علماني، دار المدى، بيروت، 2007، ص. 14
  • نفسه، ص. 110
  •  نفسه، ص. 117
  • محمد المنوني، ورقات عن حضارة المرينيين، منشورات كلية الآداب بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط، ط3، 2000، ص. 324
  •   سعد الحاوي، فنية التعبير في الشعر الجديد، مطبعة الأمانة، ط. 1، 1988، ص. 39
  •   جابر عصفور، مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، ط. 5، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص. 302
  •   حسني عبد الجليل يوسف، التمثيل الصوتي للمعاني دراسة نظرية وتطبيقية، الدار الثقافية للنشر، ط1، القاهرة،1998، ص. 60
  • حسن نجمي، غناء العيطة الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب، ج2، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص. 54. وهذا قول مردود عليه، فمن جهة هو لا يستند لمصدر أو مرجع، ومن جهة ثانية المعنى لا يستقيم، وحسب رأينا فإن المخزن هو المعروف في تاريخ المغرب الحديث بالبلاد التي يقبض عليها المخزن ودار الملك، يقابله تسمية بلاد السيبة، أي الأرض التي تقطنها القبائل الخارج عن طاعة المخزن، ومن هذا المنطلق فإن “الشيخة المخزنية”، في اعتقادنا، هي التي تعيش في أحضان قياد المخزن والاستعمار، تغني لهم لتؤنس وحدتهم وتنشط أعراسهم. أما “الݣبلي”، فربما يحمل إحالة جغرافية، حيث حرف “ݣ” هو في الأصل “ق”، ينطقها البدو “ݣ”، ليصبح “القبلي”، أي جهة القبلة التي هي مجال استقرار هذه الجماعات العربية عند قدومها للمغرب، أي لشمال إفريقيا بلاد الأمازيغ. 
  • حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، م س …، ص. 221
  • عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، ج6، دار الفكر، بيروت، 2000، ص. 15 وما يليها.
  • محمد سعيد القشاط، الأدب الشعبي في ليبيا، ط، 2، طرابلس، 1977، ص. 182-183
  • نفسه، ص. 112
  • محمد المرزوقي، الأدب الشعبي في تونس، الدار التونسية للنشر، 1969، ص.86.
  • شاعر من مواليد مدينة ندرومة بالجزائر سنة 1833م. توفي رحمه الله عام 1913 عن عمر يناهز الثمانين ودفن في زاوية درقاوة بجانب سيدي بلغيث بمدينة ندرومة. يعد من الفحول الشيوخ. له العديد من القصائد البدوية المعروفة ب”الحوزي” 
  • قول الشاعر: يا لائمي في لوعتي لم تجرب محنتي، ولم تذق لوعة الغرام والهجر والبعاد، لكنت بكيت لما أبكاني والتمست لي الأعذار في الصد والجفاء. أنا الذي اكتويت بنار الهوى على الدوام، نار متقدة بداخلي ودليلي حيران. إن الذي أهواه غاب عني بعد طول عشرة وألفة، فلم أنل رضاه ولا دواء. جرح قلبي بسيف حادة من خداع، رماني بأسهم جفانه فأداني قتيلا ظاهرا للعيان. ما من سبب سوى أني زرت بستانا ومن تكلف وجدت هلالا من الجمال واقفا. عشق الجمال يخبر عن حالي. علتي يا أهلي في عشق الغزالة التي سلبت مني عقلي بعد أن لقيتها صدفة.
  • نسبة الشيخ بوعمامة محمد بن العربي بن الشيخ بن الحرمة بن إبراهيم الملقب بـ أبو عمامة، والذي صار شهيراً باسم الشيخ بوعمامة، وأحد الشخصيات الوطنية الجزائرية التي مزجت بين المكانة الدينية والثورية في التاريخ الجزائري من 1881 إلى 1908م … لجأ إلى شرق المغرب واستقر بمنطقة فجيج.
  •   هي سلسلة جبال تقع في غرب الجزائر، وأيضا بلاد الظهرة بشرق المغرب وهي أرض يسكنها عرب بنو معقل، يتعاطون تربية الشاة.
  • يقول الشاعر: إنهم بنو هلال إن كنت تسأل عنهم، فهم أهل نوايا حسنة، أتوا للجامع الأحمر، يتناولون طعاما من تمر وخبز وشاي ولحم مشوي، يقومون في لمة أهل وأحباب، جاؤوا من منطقة “تيولي” نحو “لبرازية”. جاؤوا يوم الحضرة، هم آل أبي بكر رضي الله عنه، كل من نظر إليهم يشفى من نورهم. عم الفرح بالذكر والسماع والتلبية، وقد استقبلهم السيد بكل حبور يرجو الله بالدعاء المستجاب، وهو يقول، إنهم أحباب جدي، وسط أجواء من الفرح يدعو لهم بوفرة المال والبنين.
  •   يقول الشاعر: هاجت الأفكار وتفاقمت. يا لائمي قد تبتلى الهجر إن لم تذق الحب حتى تعذر الجائح دون إرادته، ولم تهززك ريح جمار نار ملتهبة. قال طائر الحبار السفر يقطع سلاسل الفقر، فطلب الرزق يتطلب الهجرة والترحال. صحة الخبر أنني لما عزمت السفر ظننت أن غيابي لن يطول، حين خرجت للقفر هائما فوق البيداء العامرة دون ندم على قرار اتخذته، كنت أمني النفس بالترويح عن الكدر والأهوال ومتعة البصر. فلما رأيت الميناء تطلعت للديار يظهر حسنها والأشجار العالية. السفن تمخر اليم وسط الموج، فمثلي تلتمس له الأعذار. زاغت قدماي حتى أضحيت مثل المهر تائها وسط الأزهار، فزادت نار شوقي أعالجها باصطبار. خرجت العذراوات من الفتيات الجميلات يوم الجمعة للشاطئ يعزفن ويغنين أشعارا، فصارت المدينة في بهجة وسرور. خرجت البنات للزيارة فهلم لكل من أراد أن يمتع النظر بجمالهن مثل البدر المتوهج بلباسهن الجميل.
  •   يقول الشاعر: أحن لعزيز القلب بجانبي، أحظى بجواره بين العرب، بقصبة الأوداية قائد العرب. لون الجار مثل المرآة وعشرته تمر بلا مشاكل. المحبوب البعيد لابد من السعي لرؤيته، فيسعد القلب كلما أهل. أنا من أهل النخوة تطلب العناية، نظفر به بفضل من الله وعونه. السير يكون في المقدمة ليصنع المشارب. أنا لا أفتخر لأن من يشكر نفسه كاذب، ومن يقل عكس هذا عليه أن يجرب ويحارب بجانبي، لسوف يرى هل يصمد أم يهرب. أنا المتربص اللبق الأمي أنصف الناس لكل ذي حق حقه، أحسن الضيافة، أدافع عن عرضي. لي بفضل من الله مل يكفيني، أرجو الصلاح في الدين والصلاة والقراءة، لن من مشى في هذا الطريق لن يتعب. اصبر يا قلبي يا عارف كل شيء. لماذا تلقي بي للصعاب والمتاعب، فأنت لا ترضى لإلا بمن تهوى وتحب، فصفاء القمر متعب لكلينا، انا لا أعلم الغيب، أومن بما قدر لي. في الليلة العاشرة اتخذت من دراعي وسادتي فبت في حضن أم الدلال، ذاك عشقي وأنا به أفتخر، فراشها أحمر تزينه الأزهار. سخر لي الله الرزق مثل الماء أصله من البحر، يسقي العشب بالمطر فتجري سواقي وأودية.
  • يقول الشاعر: الشيخ المتمكن من صنعته يكون على دراية بكل شؤون الحياة لا تغيب عنه طرفة عين، لأنه صاحب مذهب ومبادئ.
  •   يقول الشاعر الشيخ محمد بلخير، وهو يصف شيخه بوعمامة من أولاد سيد الشيخ الذين من منطقة البيض بالجزائر والمستقرين أيضا بمدينة العيون شرق المغرب، يقول، سيده جميل المحاسن والمراتب، مقامه تزينه قبب خضراء، ببركته يجابه المشاكل والأعداء، فكلام الشاعر هذا نور وأساس كل معرفة وفهم كلما ضاقت به الشدة والمحن.
  •   يقول الشاعر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في سن مبكرة، لم يتجاوز 62 سنة، فما بعدها لا مجال للعيش، ذاك هو عمر أمته، ومع كل ذلك فلي متسع من الأمل للعودة إلى أهلي والظفر برؤيتهم. فما هو حلو بالنسبة للآخرين أضحى مرا بالنسبة لي، فأبث حزني وشكواي لخالقي.
  •   دودو أبو العيد، الشاعر وقصيدته، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط. 1، 1986، ص. 7.
  •   يقول الشاعر: إن حيلته قليلة ولم يجد أناسا من أولي العزم يسندونه ويساعدونه، أناس شيمتهم الصبر، وليس بالغدر، وإنما بالنوايا الحسنة لأن الباطل تفشى بين الناس وكثر. الناس في غفلة عن الدينا الفانية التي لا تدوم. فالأيام دولة بين الناس، تارة لك وتارة عليك.
  • بول شيدلنجر، التحليل النفسي والسلوك الجماعي، تر، سامي محمود علي، دار المعارف، القاهرة، ط، 1، 1958، ص.13.
  •   يقول الشاعر: الأمام العادل يخشى الله ولا يخاف شيئا آخر. يحكم بالعدل، فيحظى بسلام الدارين، الأولى والآخرة.
  •   الرقيق القيرواني، تاريخ إفريقيا والمغرب، …، م س …، ص. 20-21-22-23 وفي مواضع أخرى.
  •   عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، الشركة العالمية للكتاب، ج3، ط.2، بيروت، 1900، ص. 911
  •   نفسه، عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، … ج3، فصل الموشحات والأزجال
  •   يقول الشاعر: إن الأمر لله من قبل ومن بعد، فهو مدبر كل شيء وما على العباد إلا الصبر لحكمه، فهو الذي يغني ويفرق، وهو مبدل الأحوال، له الملك وله الحكم.
  • محمد حجي، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج2، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، ط1، الرباط، 1978، ص. 555
  •   فتحي أحمد عامر، من قضايا التراث العربي دراسة نصية نقدية تحليلية مقارنة الشعر والشاعر، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص. 132 (لا وجود للسنة أو الطبعة)
  •   يقول الشاعر: يتحدث عن الاشتغال في الحقل ويذكر أدوات حفر الأرض “الصابة” و”الكانشو” يشيهان الفأس، تم اعتقاله وقد ترك بلغته، وأخذوه من مدينة أحفير إلى مدينة بركان، وهو يدعو الله على الظاله، ويحمد الله إن كان ابتلاء من عنده، أما إن كانت من غير الله فهو لن يسامح ولن يغفر لمن كان السبب في محنته، ويفتخر بانتمائه لقبيلة بني يزناسن الزناتية، والتي ظل آل المنصوري الشجعان يحكمونها على مر التاريخ. ولد القايد المنصوري في المنصورة قرب تلمسان حوالي سنة 1879م، تولى قيادة بركان خلفا لوالده سنة 1906 م ثم عزل بعد احداث غشت سنة 1953م. ورد له اعتباره باكثر في سنة 1956 حيث عين رئيس دائرة ابركان لمدة ستة اشهر ثم خلفه قدور الورطاسي.
  •   يقول الشاعر: يخاطب الطائر أن يحلق عاليا رغم الجراح فالمهم هو الحرية، فالناس من خوله يقدم له النصيحة الخالصة التي يجب أن يأخذ بها، ليس كالحمامة التي استهترت بالقول وأخذت تعير طائر الباز المفترس كونه يأكل الجيفة وتفوح منه رائحة كريهة. أما الحمامة فانشغلت ببلعمران(نوع من الطيور يزهو بريشه) وتركت الباز يرحل، ثم انبرت تبكي وتندب حظها وصارت حزينة بسبب اختيارها غير السديد. . 
  •   اليماني قسوح، بعض الأشكال التعبيرية ذات الطابع الاحتفالي بقبيلة آيت ورياغل بالريف الأوسطـ ـ تدوين دراسة (الجزء الربع)، مقالة، موقع ثاويزا، يونيو 2006. حسب رأي دييفذ هارت مونتكونري.
  •   يقول الشاعر في هذا النص الذي هو شعر ستغنى به جماعة من طرف فتيات، يبدأه باسم الله الخالق، والتوكل على الله ورضا الوالدين، لا أستطيع يا أن أبوح لك بما يملأ قلبي. سوف أسأل الفقيه بثمسمان (مدينة قرب الحسيمة بالريف الأوسط شمال المغرب) كي أعلم منه هل تبقى إلى الآن تسطن العظام. فأجابني أنه سوف يعمل من أجلي ما لم يفعله والدي العزيز وما تكبدته عنك من كلام الناس ولمزهم، حتى بكيت، النجوم وحدها تفهمني فقالت لي إن الحب هو الذي جعلك عليلة وجعل جسدك مريضا. تركوني على قارعة الطريق لم يبق لي من أحد ولم يسأل عني حبيبي العزيز، قولوا له أن ينتظرني .. تطلعت للسماء لا شيء غير وجه الله. أيا أمي حذاري من الوقوع في شراك الحب الذي لم أنل منه سوى البعاد، يا سيدتي ليس لي من شغل غير الحب، وان لا أرجو سوى رضى حبيبي وان أكون بجانبه. تعالى تعالى حبيبي لماذا تخليت عني ولم يعد الشوق يذكرك بي بعد أن ألفت فلمن ستتركني بعد أن سافرت خارج البلاد ولم يتبق منك سوى رائحتك في الفناء وقد عثرت على صديقة قلبي “رالا بويا” تنشد شعرا عن حبيبي .. آخذ مجلسي على الكرسي الذي هو لك فتأتي عندي .. سيدي شعيب أرجوك اطلب من حبيبي أن يعود. أيتها النجوم في العالية في السماء وفي بدني بلغي سلامي للذي نسيني .. عروستنا التي في حجالها قد جئت أبارك لها الفرح وأتمنى لها السعادة .. أيها العريس تجول قليلا في الفناء فالقلب إذا ضاق ضاع .. أما عن لازمة “أرالا بويا” فلها عدة تفسيرات، ربطها البعض بوقائع تاريخية، منها تدمير إمارة نكور بمن فيها من طرف يوسف بن تاشفين الزعيم المرابطي سنة 1084م، حي قتل خلقا كثيرا من أهل الريف، أو الغناء في الحقول عند جمع الغلال، أو نسبة إلى كملكة أمازيغية ، أو غيرها من التفاسير والتأويلات، وهي كلمة مر كبة من “رالا” ةتعني “لالة”، أي سيدتي المفضلة، و”وبويا”ـ أي أبي أو أبتي، وجاءت بصيغة النداء والاستغاثة. وهي لازمة لجل الأشعار الغنائية الأمازيغية. وشهرتها نار على علم.
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.