عبد السلام انويكًة
إرث وحكي رمزي أصيل وتلاقح بين سلف وخلف أصيل، ذلك الذي كان ولا يزال يطبع رمضان تازة العتيقة، لِما هناك من تجلي حضاري ومشهد وتقاليد احتفاء بالشهر الفضيل. ولعل ما لا يزال يطبع نهار المدينة خلال ساعات ما قبل الفطور ومن سكون تام خلاله، قبل استعادتها نبض حياة ليل بسحر خاص حتى السحور، كذا من عبادة واقبال وأدعية تضرع لله عزو وجل وقيم تآزر وتسامح وفعل خير وتلاوة قرآن وقراءات وجهد واجتهاد. ما تكون عليه تازة بعمارتها وشواهدها وأعلامها ومظاهر نمط عيشها الأصيل وارثها المادي واللامادي، يجعلها حقا بأجواء روحانية خاصة خلال هذا الشهر الكريم فضلا عن ثقافة ومظاهر تعج بما هو صوفي، لِما لرمضان من قدسية في أنفس أهالي كذا من اعتبار ومكانة خاصة في وجدانهم.
ولعل من أثاث تازة الصوفي ومن سمفونيات ليالي شهر رمضان بها إن صح التعبير، ما كان يملأ سماءها وأركانها منذ زمان والى عهد قريب من روح تراث، جمعت بين عبق “مهلل” وصدى “غياط” ودفئ صوت ونغمات “نفار” ضمن ايقاع روحي ليلي تعاقبي تعاقدي ثلاثي من فوق صومعة جامع المدينة الأعظم عبر قرون. هكذا كانت ليالي رمضان تازة أمس تجمع بين سماع لحن ونغم صوفية وتوسلات ومدح وشفاعة ومن ثمة نوبات، كل هذا وذاك من إرث رمزي رمضاني يحضر في ذاكرة أهالي وبحضن كبير يُتقاسم.
ويبقى “النفار” بمكانة خاصة في ليالي رمضان تازة أمس، ليس فقط لِما كان له من أثر في تأثيث اجواءه بروح خاصة انما لِما تحفظه الذاكرة الشعبية من حكايات تخصه، يعتقد أنها كانت سر اعتماده لإسماع كائن ليالي رمضان المدينة عبق زمن، من صوت وصدى وألحان وتراتيل روحية من فوق صومعة جامعها الأعظم الموحدية، وعبر دروبها وفضاءاتها تنبيها لغافلين وايقاظا لنائمبن. مع أهمية الاشارة لِما كان يقوم به “نفار رمضان تازة” من جولات بين دروب احياء المدينة من حين لآخر، لجمع ما يجود به الأهل من عون مادي وعيني(سكر، ملابس، ثمر، دقيق، زيت، زيتون وتين..)، مردداً عبر سحر نفارة تسرق أنفس سامعين “حق النفار يا أهل الدار”. بل مما لا يزال عالقا في الذاكرة من عادات شعبية ارتبطت بهذه الجولات التي كثيرا ما كانت تؤثثها براءة أطفال واثارة، نجد ما كان من معتقد كرامات. وعليه، كثيراً ما كانت أسر تازة تطلب من “النفار” النفخ في أبواب بيوتها اعتقادا منها في جلب كل رزق وبركة وطبع حياة بطول عمر وسعد وصحة ونِعم، هذا فضلا عن جولة ختامية له لجمع زكاة فطر عبر دروب المدينة صبيحة يوم العيد.
هكذا كان “نفار” أزمنة رمضان تازة أمس وأمكنتها، حيث صدى عزف جامع بين اقتباس وابتهال مغربي أصيل ممتد حتى صلاة فجر كل يوم من ايام الشهر الكريم، وهو ما يعرف عند العارفين من أهل الشأن ب “تهلالت” التي من جملة ما كانت تردده من عبارات نجد “يا عباد الله قوموا لا تناموا هذا وقت الخير قوموا تغنموا يا عباد الله قوموا لا تناموا حان وقت الصلاة قوموا تغنموا”. وهكذا كانت قدسية رمضان تازة زمان، لا تكتمل هيبتها سوى بصدى ابتهالات ليلية راسخة في كيان أهالي، تلك التي تجعلهم باحتفاء وجداني رمضاني خاص وعبادة وتقرب من الله تعالى ودعوات. ولعل بقدر ما تشهد مهمة “النفار” في رمضان تازة على احتفاء واصالة وزمن روحي حضاري جميل، بقدر ما هي عليه من تحديات وسؤال استمرارية وتلاقح أجيال باعتبارها ذاكرة وإرثا رمزيا احتضنه أهل أمس المدينة وحافظوا عليه على امتداد قرون. وهكذا كان أهل تازة يجددون وصلهم خلال شهر رمضان مع تقليد النفار، وهكذا أيضا كان جامع المدينة الأعظم يزداد بهاء واشعاعا روحيا خلال رمضان، لِما يكون عليه من اقبال وقطبية وتدفق وتعبد وحج من كل حدب وصوب.
يذكر في علاقة بتقليد النفار، أن آلة “ترومبيت” الموسيقية هي التي تعرف في ذاكرة المغاربة الشعبية ب”النفار” أو “النفارة”، على أساس ما جاء في نصوص بحثية تاريخية ذات صلة. واذا كانت ألة النفار في شكلها الحالي حديثة العهد نسبيا، فإن أصولها لا شك أنها أندلسية قد تكون جلبت زمن العصر الوسيط الى فاس العاصمة أول الأمر من مدينة قرطبة التي كان المسلمون بها يستخدمونها لتقليد الافرنج. مع أهمية الاشارة الى أن هذه الآلة كانت تسمى بداية ب”البوق”، الذي هو بإحالة ومرجع دلالي روماني “debucca” “حلزون”.
ولعل آلة النفار التي أثثت ولا تزال رمضان تازة العتيقة بدفئها وصداها ورمزيتها، كانت موجودة بإسبانيا خلال القرون الأولى الهجرية. انما خلال أواسط القرن الثامن الهجري زمن حكم السلطان أبي عنان المريني، دخلت الى فاس بواسطة أسرة العزفي التي اشتهرت بمدينة سبتة. وكان أبا عنان خلال هذه الفترة كما تذكر الرواية التاريخية، قد أقام بكل حي من ثلاثة أحياء أساسية بهذه المدينة السلطانية، حصنا به برجا عاليا كانت منه تنتقل أصوات هذه الآلة النحاسية الموسيقية وصداها. وتذكر النصوص البحثية أن بفاس كان برج”البواقين” بحي الأندلسيين على مقربة من جامع القرويين قبالة سوق الشموع، ثم برج اللمتيين بجوار منبع مائي كان تحت اشراف شرفاء وزان (دار الضمانة)، مع برج ثالث آخر كان بعدوة فاس.
هكذا انتقلت هذه الآلة الموسيقية الروحية النحاسية في البداية الى مدينة فاس، حيث تبلورت رمزيتها وتبلور شكلها وايقاعها وتحول اسمها الى “النفار” أو “النفارة” خلال هذه الفترة من زمن مغرب العصر الوسيط. ومن فاس العاصمة انتقلت الى باقي مدن وجهات البلاد العتيقة ومنها تازة. لتحل محل آلة الطبل الذي شكل لفترة أداة تواصل ارتبطت بحكم دولة الموحدين. ولعل آلة النفار التي انتقلت الى المغرب من بلاد الأندلس، عرفت بهذه الأخيرة جملة تغييرات عندما بدأ استعمالها لإيقاظ النائمين خلال رمضان. علما أن المغرب لم يتبع هذا التقليد الروحي الذي طبع بلاد الاندلس سوى ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي، متى بدأت اصوات النفارات ترفع وتتدافع من صوامع جوامع ومساجد رغم ما سجل حول الأمر من حرج ديني.
وكانت آلة النفار قد بلغت فترتها الذهبية بما عرفته من صنع نحاسي رفيع وثمين، لدرجة كانت هذه الآلة سبيكة ذات معادن سبعة كما تذكر النصوص. مع أهمية الاشارة الى أنها كانت تصنع خلال مطلع القرن الماضي بسوق السفارين بمدينة فاس، من نحاس خالص أصفر ومن قِبل حرفي واحد متخصص محتكر لمنتوج أقل ربحا، على أساس أن آلة النفار أداة بقدسية خاصة تحتاج ال ترخيص من مصلحة أحباس المدينة لتوفير ما هو مطلوب منها. وآلة النفخ هذه كانت تصنع من صفحات معدنية نحاسية يتم الصاق اطرافها بعد تركيبها، وكانت أقل طولا في الماضي قبل أن تبلغ حاليا حوالي المترين. بل كانت تتكون من اجزاء ثلاثة يتم ادخال بعضها ببعض لتشكيل آلة نفخ مستقيمة، ومن ثمة امكانية صدور اصوات هرمونية عالية منها، علما أن عزف ونفخ النفار لا يقوم على قوة صوت دفعة واحدة مثلما هو معروف في آلة “ترومبيت”، بل على نفخ تدريجي مع اعادة الصوت الواحد وعليه ما هي عليه آلة النفار الساحرة هذه من اصالة روح وتراث.
لقد كان نفار رمضان تازة زمان بدور معبر اجتماعي، بقدر ما ارتبط بمهمة حراسة ليلية بقدر ما كان ملزما خلال هذا الشهر بأدوار أخرى منها الاعلان عن بدايته بعد رؤية الهلال، من خلال نفخ ونفارة بحوالي نصف ساعة، كذا القيام في كل ليلة بنفخ وعزف من اجل اصوات طقوسية خاصة عبر أربع فترات. تلك التي تعرف ب”الشفع”، حيث بعد نصف ساعة بعد صلاة العشاء مثلا بجامع المدينة الأعظم كما حال ما كان قائما بجامع القرويين بفاس، يقوم النفار بأصوات ذات تعبير خاص بعد تلقيه الإذن من موقت حريص على زمن الصلاة به، بحيث إثر ذلك كان يقوم بزيادة في اصواته عبر جمل متلاحقة متسلسلة دون انقطاع، مع دوران من فوق أركان صومعة الجامع الأعظم قبل تنويعه لجمل صوتياته الروحية هذه.
أما الفترة الثانية من نشاط نفار رمضان تازة، فهي التي يتم فيها القيام بما يعرف ب “الدقان” بعد حوالي ثلاث ساعات من صلاة الشفع، حيث يقوم بدق ابواب البيوت عل ايقاع ونغم أصوات نفارة تتضمن مثلا قول،”عباد الله نوضوا تسحروا في طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله”. وفي فترة اخيرة ترتبط بالسحور وقطعه، يكون النفار بحاجة لجهد أكثر لحوالي ساعة ونصف علما أنه لا يقوم بذلك بشكل مسترسل، بل يتوقف لأخذ نفَسه قبل اعلانه نهاية السحور من فوق صومعة جامع المدينة الأعظم الموحدي المريني عبر ما هو شجي روحي من صوت.
ويسجل أنه خلال شهر رمضان كان عمل نفار تازة يقتصر على جامع المدينة الأعظم، لموقعه على ربوة بعلو معبر يسمح له بإطلالة محْكمة ومن ثمة بلوغ صداه الى كل الجنبات. مع أهمية الاشارة الى أن ممارسي هذه المهنة مؤقتا من نفارين خلال هذا الشهر الفضيل، كانوا في معظمهم صناعا حرفيين من جهة وبانتماء للطائفة العيساوية من جهة ثانية، منهم نذكر مثلا الى عهد قريب قبل حوالي ثلاثة عقود كل من “علال الكعوي” ثم”جلول الشرابي” ومعه أبوه وعمه ممن توارث المهمة، كذا المكنى ب “باسوطة” الذي توفي أواسط ثمانينات القرن الماضي، فضلا أيضا عن “حاجي” لفترة ثم ابنه عبد العزيز لبعض الوقت.
يبقى ختاما أن مقابل ما هناك من اختفاء بات جليا يخص بعض جوانب ارث وصوفية رمضان تازة، في علاقته بأمكنة وعلاقات ومواقع ومنشآت وانسان وعيش وتعايش وسلوك ومن ثمة مدينة عتيقة. هناك ما لا يزال يؤثث ليالي رمضان هذه الحاضرة المغربية التاريخية من هيبة خاصة وقدسية مشاهد ورمزية تفاعلات ممتدة، تعني ما تعنيه من عمق هوية وأصالة وروح مدينة مغربية اسلامية.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث