عبد السلام انويكًة
واسعة هي ملاحم وموارد زمن المغرب الوطني، التي أحيطت بعدد من الدراسات والابحاث من قبل باحثين مهتمين مغاربة خلال العقود الأخيرة، ومن ثمة ما حصل صوب هذا التراث اللامادي الوطني من تراكمات معبرة وذخيرة نصوص، بل من خزانة تاريخية غنية رافعة مكتملة وفق تفكير ونهج جديد وأرشيف، يسجل ما كان للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير من فضل معبر فيها. ولعل بقدر ما لحظات ومنعطفات ووقائع ومحطات المغرب الوطنية الفاصلة، هي بحاجة لعناية وانصات وتقاسم أكثر وأهم في أفق ما ينبغي من تلاقح أجيال وتعبئة وإعداد وتقوية مشترك رمزي، بقدر ما هذا وذلك من الورش والرهان يقتضي الانخراط الجميع كل موقعه، مؤسسات ومصالح وصية وإعلام ومجتمع مدني وتعبير فني وثقافي..الخ.
اشارات لا شك أنها ذات أهمية خدمة لإرث البلاد الرمزي هذا، وما يقتضيه من إحياء وإحتفاء وتثمين وحرص وحماية وإغناء وترسيخ عبر هذا وذاك من السبل والمستويات. واشارات أيضا ذات أهمية لتسليط بعض الضوء حول ملحمة وطنية بدلالات ومكانة خاصة في ذاكرة المغرب الجماعية، ويتعلق الأمر بوثيقة مطالبة المغاربة باستقلال بلادهم في ذكراها الثمانين (11 يناير 1944)، هذا الحدث الوطني الذي شكل وعيا وجرأة وإجراءاً وإقداما فاصلا في زمن الحماية والحركة الوطنية المغربية. ولعل عريضة أو وثيقة المطالبة بالاستقلال هذه، بقدر ما لا تزال حية في ذاكرة المغاربة الوطنية بقدر ما هي مناسبة للتأمل فيما حصل عبرها من وحدة موقفٍ وتعبئة ورفضٍ ورد فعل وطني خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب المعاصر، فضلا عما أسهمت به على مستوى ايقاظ ضمير المغاربة جاعلة منه أداة تحرير وسبيل استقلال. وبالنظر فيما حصل عبر هذه الوثيقة من روح وطنية والتفاف وتلاحم وموقف قوي وتحد للمستعمر، يتبين أنه لا غنى عن الرجوع دوما لرمزية هذه الوثيقة وهذا الحدث الوطني، وعيا بما شكله من منطلق وسياق عمل ونبل أهداف. هكذا ارتأينا بعض الضوء تنويرا للناشئة حول ملحمة وثيقة المطالبة باستقلال المغرب قبل ثمانية عقود، ولجعل تاريخ البلاد الوطني بأثر في تقوية روح الانتماء والاعتزاز بما هناك من ماضٍ وتراثٍ رمزي وذاكرة وطن.
والمغرب يحتفي بالذكرى الثمانين لهذه الوثيقة الوطنية ذات الرمزية الخاصة، من المفيد الاشارة الى أن وضع الحركة الوطنية بالمغرب أواسط ثلاثينات القرن الماضي والى غاية الأربعينات منه، لم يكن يسمح بأي تصعيد تجاه سلطات الحماية الفرنسية، ومسألة الانتقال الى مطلب الاستقلال لم يكن وارداً بتاتاً لكون هذه الفترة كانت فترة تراجع للعمل الوطني نظر لطبيعة القبضة الاستعمارية. علما أن الوطنيين المغاربة خلال هذه الفترة الدقيقة تعرضوا لحملة قمع شرس واسع وعنيف، بحيث بسبب مجرد مطالب وطنية بسيطة تعرض هؤلاء لعمليات نفي وإبعاد، وهو ما كان وراء انكماشهم ومن خلالهم انكماش الحركة الوطنية، ناهيك عما حصل من تمزق في كتلة العمل الوطني ومن ظرفية أمنية فرضت عدم القيام بأي شيء من شأنه ازعاج وضع فرنسا في جبهاتها.
وغير خاف على باحثين ومهتمين بتاريخ المغرب الوطني المعاصر، ما عرفته البلاد من وقائع خلال الحرب العالمية الثانية كانت بدور وأثر في دفع الوطنيين المغاربة لتجاوز سقف المطالبة بالاصلاحات الى المطالبة بالاستقلال. وهو التفكير والموقف والمبادرة والحلم الذي بقدر ما تقاسمت تفاعلاته كل جهات البلاد بمنطقة الاحتلال الاسباني ومنطقة الاحتلال الفرنسي، بقدر ما انتهى الفعل الوطني على اثره بعريضة الحادي عشر من يناير من سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين بفاس. ولعل من العوامل التي كانت بأثر في دفع الوطنيين المغاربة للمطالبة بالاستقلال ولانتفاضتهم على المستعمر، هو ما كان من دعاية ألمانية قوية أظهرت فرنسا ضعيفة غير قادرة على أية مواجهة لشدة ما تعرضت له بالجبهات. دون نسيان ما كان لفرنسا من أثر فيما عانى منه المغاربة من جوع وعرى وخصاص وميز وقمع..، ناهيك عما نادى به الميثاق الأطلسي صيف ألف وتسعمائة وواحد وأربعين من حق للشعوب في تقرير مصيرها، وما ترتب عن الانزال الأمريكي في الشواطئ المغربية من تقزيم للوجود الفرنسي في المغرب
كدولة حامية. فضلاً عما حصل من اشارات قوية صوب المغرب، إثر محادثات السلطان محمد بن يوسف مع الرئيس الأمريكي روزفيلت والوزير الأول البريطاني تشرشل والمقيم العام الفرنسي نوكًيس. وكانت سنة وحدث اندلاع الحرب العالمية الثانية، مرحلة جديدة في طبيعة العلاقة والاتصال بين السلطان محمد بن يوسف والحركة الوطنية، نظر لِما حصل من نضج وطني وحيوية وشجاعة واقبال سلطاني على معركة تحرير وفق رؤية جديدة كانت مفتقَدة. علماً أن معركة الحركة الوطنية لهذه الفترة لم تكن سهلة، لِما كان عليه الاستعمار من قوة قبضة على البلاد. ولكون السلطان كان هو المؤتمن على سيادة البلاد والمخول شرعاً ودولياً للاعتراض على الاقامة العامة الفرنسية على أساس مضمون اتفاقية الحماية، فقد كانت له تحفظات حول عدد من اجراءات المستعمر وفي نفس الوقت اتصالات مع نخبة من الوطنيين الملتفين من أجل قضايا الوطن. يذكر أن هزيمة فرنسا عام ألف وتسعمائة وأربعين أمام ألمانيا، سمحت بصفحة جديدة في تاريخ الحركة الوطنية المغربية وعمل السلطان، فبقدر ما كانت فرنسا الحامية تستحضر قوتها وقدرتها لسحق كل معارضة شعبية، بقدر ما كانت هزيمتها أمام الألمان متنفساً لإبداء الموقف والمضي في المطالبة بالحقوق وتأكيد الشخصية المغربية. مع أهمية الاشارة هنا لِما طبع السنوات الثلاث لإندلاع الحرب الثانية من عمل وطني خفي وجهد في التنظيم ووعي في المجتمع، ذلك الذي أفرز جيلاً جديداً وطنياً استثمر جوانب عدة شملت ما هو رياضة وثقافة وكشفية.. خدمة لقضية الوطن، وهو ما كان بأثر في تحول الكفاح الوطني من المطالبة بالاصلاحات الى المطالبة بالاستقلال.
وكان عبد الرحيم بوعبيد قد أورد بعد اللقاء المغربي الأمريكي في أنفا (الدار البيضاء) خلال شهر يناير من سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، أن العمل الوطني عرف دينامية جديدة وأن مرحلة الاصلاحات باتت متجاوزة وإنهاء معاهدة فاس بات وارداً والمطالبة بالاستقلال أصبحت هي الهدف. كل هذا وذاك كان وراء خلق حزب الاستقلال، إثر ما كان من اتصال سري بين الحزب الوطني والسلطان عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، وما كان من استقبال وتنسيق خاص في مكان خاص بالقصر الملكي حيث تم القسم على الاخلاص لخدمة الوطن. ولعل كان ما حصل من تحالف وعمل مشترك بين الوطنيين الذين تزعموا توقيع وثيقة الحادي عشر يناير وبين السلطان، جعل هذا الأخير يُنعت بزعيم الحركة الوطنية. وإذا كانت عريضة المطالبة بالاستقلال قد أدانت نظام الحماية وأكدت رغبة المغاربة في تجاوز واقع الحال مطالبة بالتفاوض مع الفرنسيين والاسبان، للاعتراف باستقلال البلاد والانضمام للميثاق الأطلسي، فإن رد فعل الاقامة العامة كان معاكساً برفضها العريضة من جهة وزيادة ضغطها على السلطان من جهة أخرى، فضلاً عما أقدمت عليه من قمع والقاء للقبض على قادة الحزب ومنهم أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي وأحمد مكوار وعبد العزيز بن ادريس والهاشمي الفيلالي بتهمة اتصالهم بالألمان وإعدادهم لثورة مسلحة بالمغرب.
هكذا بعد حدث الانزال الامريكي وما كان له من تداعيات، انتعش العمل الوطني في مغرب الحماية من جديد بعد فترة جمود بفعل القمع الاستعماري، وبات جلياً أن مطلب الوطنيين بعد ما حصل ليس سوى الاستقلال عبر التنسيق مع السلطان. وهكذا تم الاقدام على خطوة تاريخية حاسمة وفاصلة تمثلت في تقديم عريضة الاستقلال في الحادي عشر يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين. وهكذا أيضاً تم تفجير قنبلة هزت أركان المستعمر في المغرب، والتي بقدر ما كانت مفاجأة بالنسبة للشعب المغربي وللفرنسيين الاستعماريين والمتعاونين معهم، بقدر ما أبانت عن موقف سلطاني صدم الاقامة العامة بالمغرب والتي تجددت على إثره آلتها القمعية لدرجة إعلان حرب على شعب بعدد من المدن كفاس والرباط وسلا وأزرو ووجده وغيرها، بحيث تم اعتقال آلاف الوطنيين واستشهاد العشرات منهم وإعدام ونفي آخرين. وفي الوقت الذي كان فيه السلطان محمد بن يوسف يتصل وينسق سرياً مع الوطنيين حول سبل مواجهة تعنت السلطات الفرنسية، كانت دعايتها تقول بأن السلطان لم تكن له أية علاقة بحركة الاستقلال وأنه كان ساخطاً عليها. وكان قد تم تهيئ عريضة الحادي عشر من يناير للمطالبة بالاستقلال في سرية تامة وتكتم من قِبل الجميع، مع ما حضي به هذا المشروع من بحث دقيق لأسابيع مع عرض ما كان يتم التوصل اليه في كل اجتماع مع السلطان، الى أن تمت الموافقة على صيغته النهائية في بداية يناير من سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، حيث جاء دور استنساخها وتوقيعها في سرية تامة أيضاً، ثم الاتفاق على الطريقة واليوم والساعة التي تقدم فيه الوثيقة للسلطان.
وكانت الجهة التي تكلفت بإعداد الخطوط العريضة للوثيقة تحت اشراف أحمد بالفريج، تتكون من شباب طموح متشبع بروح وطنية ومستعد لكل موقف وتطورات. بحيث بعد عرض ما كان يتم التوصل اليه من قبل هؤلاء على السلطان وبعد تجميع ما كان يسجل من ملاحظات وأفكار داعمة، كان يتم عرضها من جديد لمزيد من التدقيق والإغناء على بعض الوطنيين في سرية تامة لتجنب أي تسريب. من هنا يعتقد أن الوثيقة في مسارها كانت بصيغة أولى، تطورت من خلال ما كان ينضاف لمضمونها بعد ما كان من نقاش قائم واتصال مع السلطان. وفي هذا الاطار ورد أن ما انتهت اليه الوثيقة كان تسوية لجملة نقاط أفرزتها نقاشات ومفاوضات بين كل الأطراف، مع أهمية الاشارة الى أنها كانت في البداية عبارة عن أكثر من مشروع ورؤية قبل ما حصل من توافق ومصادقة في نهاية المطاف على نص مختصر أكثر تركيزاً. بل من الاشارات التي وردت حول ما تم التوصل اليه وما تم اختصاره وعرضه على السلطان، الى أنه كان ينص على ضرورة اقامة نظام ديمقراطي وملكية دستورية من خلال الدعوة الى انتخاب مجلس وطني بالاقتراع العام ومجالس محلية أو جهوية منتخبة أيضاً بنفس الطريقة، وهو ما تحفظ عليه السلطان كتعبيرات بالنظر لِما قد تثيره من ردود فعل.
يذكر أن وثيقة الحادي عشر من يناير للمطالبة بالاستقلال، كتبت في منزل محمد الزغادي بالمطاحن الادريسية بفاس وضربت على الآلة الكاتبة باللغة الفرنسية التي تطوع بها محمد الغزاوي، وكان ممن قام بعملية توثيقها فضلاً عن محمد الزغادي كل من أحمد باحنيني وأحمد لحمياني ختات وادريس المحمدي وعبد الكريم بن جلون التويمي وعمر بن عبد الجليل التلمساني. ولعل اختيار هذا المكان لكتابتها وتوثيقها كان أمراً مقصوداً حرصاً من المعنيين على سريتها وتجنب تسرب المعلومة حولها لجواسيس الاقامة العامة. وفي هذا الاطار من المفيد الاشارة الى أن من نقل الوثيقة للسلطان وهو مقيماً آنذاك بالدار البيضاء هو محمد الغزاوي، وأن من ملاحظاته وأوامره بعد الاطلاع عليها التصريح بشكل واضح بمطلب الاستقلال. هكذا أضيفت لفظة استقلال بعدما كانت الوثيقة مبنية فقط على فكرة المطالبة باستبدال معاهدة الحماية بأخرى تليق بالمغرب وسيادته. وكانت الوثيقة قد وضعت في الأصل كما سبقت الاشارة لذلك باللغة الفرنسية قبل ترجمتها للعربية، والذي تم تكليفه بنسخها باللغة العربية لجمال خطه كان هو عبد الوهاب الفاسي الأزعر الذي كان معلماً بالقرويين. وللاشارة فإلى حد هذه اللحظة لم يكن حزب الاستقلال قد ولد وتأسس، بحيث عندما تم الاتفاق على صياغة الوثيقة حدثت فكرة من سيرفعها للسلطان وغيره من الجهات، وهنا ورد أنه ما دام أن الوثيقة خاصة بالمطالبة بالاستقلال فمن الأحسن أن يُطلَق على الجمع الذي أعدها إسم“حزب الاستقلال”، وقد تضاربت الآراء حول من كان سباقاً لهذا الاسم “حزب الاستقلال” هل أحمد باحنيني أم أحمد بلافريج. هكذا إذن ظهر للوجود حزب الاستقلال الذي قيل أنه حل محل الحزب الوطني عندما بات الأمر يتطلب تقديم وثيقة الاستقلال، وهكذا تم جمع توقيعات الوثيقة وعددها ستة وستون توقيعاً وتم تعيين أربعة وفود لتقديمها في تاريخ واحد موحد، لكل من السلطان أولاً ثم الاقامة العامة والمفوضية الأمريكية والمفوضية الانجليزية ثانياً.
ولعل اختيار يوم الحادي عشر من يناير لتقديم الوثيقة وتسليمها للسلطان، ارتبط قصداً بيوم جرت العادة أن يستقبل فيه السلطان محمد بن يوسف أسبوعياً مستشاراً فرنسياً معتمداً كواسطة بينه وبين الاقامة العامة، وما تم الترتيب له بدقة وحرص هو ما حدث فعلاً وقد شاهد هذا الأخير أن هناك وفداً من الوطنيين في قاعة الانتظار تم استقباله قبله ودامت مقابلته للسلطان مدة ساعة، وبعد استقبال السلطان للمستشار الفرنسي أطلعه بأنه توصل بعريضة تطالب بالاستقلال وأمره بإبلاغ المقيم العام بذلك. وبقدر ما أثارته هذه الوثيقة من حماس شعبي كبير أربك ادارة الحماية والاقامة العامة، بقدر ما جعلت هذه الأخيرة تختار لغة التهديد والاستفزاز الذي بلغ أوجه ومداه مع اعتقال أحمد بلا فريج ومحمد اليزيدي بعد حوالي أسبوعين عن تقديم الوثيقة. بحيث كان هذا وذاك سبباً من اندلاع مظاهرات شعبية شملت الرباط وسلا وفاس خاصة، وهو ما واجهته سلطات الحماية بقمع واسع لم ينل من قوة العمل الوطني الذي زادت قوته مع عودة علال الفاسي من منفاه في الكًابون، وإلقاء السلطان لخطابه الشهير في طنجة عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والذي أعلن فيه صراحة انحيازه الى صف الوطنيين المطالبين بالاستقلال.
تبقى عريضة المطالبة بالاستقلال للحادي عشر من يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، محطة تأمل في زمن مضيء من زمن الحركة الوطنية المغربية، وملحمة نضال احتوت صور كفاح وطني حابل بالعبر التاريخية والسياسية. ولعل بقدر ما يعود سياق ما حصل مع هذه الوثيقة الى بداية ثلاثينات القرن الماضي، حيث تأسيس كتلة العمل الوطني كرد فعل على نوايا ودسائس المستعمر من خلال ما عرف ب ”الظهير البربري” الذي استهدف تخريب البلاد والعباد. بقدر ما كانت هذه الوثيقة نِتاج صف وطني وفعل توافقي تبلورت على إثره جملة مبادرات على درجة من الوعي في علاقتها برهان الانتقال لِما هو أعمق في معركة المغاربة الوطنية ضد الحماية. وهو ما ترتب زمنياً وانتقل من مطالب اصلاحات أواسط ثلاثينات القرن الماضي الى مطالب اصلاحية استعجالية، ثم فيما بعد الى حراك وطني أنتج وضعاً جديداً شكل انتقالاً من عريضة مطالب اصلاحية الى عريضة مطلب استقلال، من خلال وثيقة تاريخية صريحة فاصلة عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين. وبالنظر لطبيعة مسار وكيفية تبلور وثيقة المطالبة بالاستقلال، فقد شكلت استراتيجية عمل دقيقة بأهداف واضحة منشودة تأسست على تلاحم عرش وشعب لخوض معركة تحرير بلاد. هكذا كانت وثيقة الحادي عشر من يناير بمثابة البنزين الذي بقدر ما قوى روح الكفاح الوطني، بقدر ما كان وراء تهيئة شروط ما حصل لاحقاً من مقاومة مسلحة وعمليات لجيش التحرير، خاصة بعدما تطاول المستعمر على سلطان البلاد الشرعي. ومن هنا فإن ما طبع المغرب من أحداث خلال غشت ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، لا يمكن عزله عن فحوى وأثر وثيقة الحادي عشر يناير ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، والتي اعتبرتها الاقامة العامة بادرة ملكية وجناية لا يمكن تجاوزها، وبالتالي ما حصل من تهيئ لشروط خلع سلطان البلاد وتنزيل ما تم حبكه من مؤامرة. انتهت بعكس نيات المستعمر المبيتة عندما خرج الشعب المغربي رافضاً ما فرض من أمر واقع، حيث اتسعت ردود فعله في كل الجهات وتشكلت خلايا مقاومة مسلحة تكللت بانطلاق عمليات جيش التحرير بشمال البلاد، تلك التي زعزعت الاستعمار وهزت أركانه فكانت بدور وأثر وافترة وجيزة في عودة سلطان البلاد الشرعي لعرشه واستقلال المغرب.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث