مصطفى قشنني
كان لرفض الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس للجائزة السمينة التي تحمل إسم “الشيخ زايد”، والمُموّلة من قبل سلطات الإمارات، – التي تنتمي إلى سلالة “مدن الملح”، حسب توصيف عبقرية الرواية العربية عبد الرحمان منيف- ، وقعا على الساحة الثقافية والأكاديمية العالمية، علما أنّه قد سبقه إلى رفض مثل هكذا جوائز، العديد من القامات العالمية، نذكر على سبيل المثال: الكاتب الإسباني الرائع خوان غويتيسولو، – عاشق مدينة مراكش الحمراء – الذي امتنع عن تسلُّم جائزة معمر القدافي الأدبية، معللا رفضه، بكونه موقفا” ينسجم مع قناعاته ومواقفه المناصرة لقضايا العدل، وهي خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماهي مع مواقفه(غويتيسولو) المناهضة دوما للأنظمة الإستبدادية”.
نفس الموقف عبّر عنه من قبل، الروائي المصري الكبير صنع الله ابراهيم صاحب الروائع الروائية: “اللجنة”و”بيروت بيروت”و”شرف”و”نجمة أغسطس” والقائمة طويلة، الذي رفض بالمطلق أن يتسلّم الجائزة الحكومية التي تُسلّمها سلطات بلاده، الموسومة ب”جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي”، مبرّرا رفضه، لكونه ينبع من خلفية قومية، ترفض بالمُطلق أن يتسلّم الجائزة من كيان قُطْري أو عُروبي “يتواجد به السفير الإسرائيلي، ويحتلّ فيه السفير الأمريكي – الإمبريالي – حيا بأكمله في العاصمة المصرية – قاهرة المُعز – وتضمّن اعتراضا على العواصم العربية التي تستقبل الإسرائيليين بالأحضان، في ظل ممارسات الدولة العبرية الوحشية وأحلامها التوسعية”.
الموقف ذاته عبّر عنه القاص المغربي الكبير أحمد بوزفور صاحب روائع: ” الغابر الظاهر” و “تأبّط شعرا” و “النظر في الوجه العزيز” و”صياد النعام” …الذي رفض تسلّم جائزة المغرب للكتاب، معتبرا تصرّفه ينسجم مع رفضه لأزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتدهور الوضع الثقافي وركوده في المغرب…
كذلك رفض الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري جائزة مهداة من صدام حسين، وأخرى من معمر القدافي، معللا رفضه بكلّ لباقة، أن الأولى، لم تكن من اختصاصه(الفلسفة)، والثانية رفضها لأنه لا يستحقّها.
في ذات سياقات رفض الجوائز، نذكر موقف الكاتب الإيطالي الشهير كورادو أوجاس، الذي ذهب إلى السفارة الفرنسية في العاصمة روما، وأعاد وسام الشرف الفرنسي، الحاصل عليه قبل عقد ونيف من الزمن ، بسبب منح الوسام ذاته، للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قائلا:” في رأيي لم يكن ينبغي للرئيس إيمانويل ماكرون أن يمنح وسام جوقة الشرف رئيس دولة أصبح شريك لمجرمين، أقول هذا ليس إحياء لذكرى جوليو ريغيني، إنما أيضا لفرنسا، للأهمية التي ما زال يمثلها هذا الوسام..”.
في سياق مُختلف، نجد رفض الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر، لجائزة نوبل للآداب، مبرّرا ذلك برفضه المزاج السياسي للقائمين على الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة… ناهيك عن العشرات من اللاءات الرافضة للعديد من الجوائز الثقافية والإبداعية ، التي تُمنح في ظروف وسياقات مُلتبسة..
وبطبيعة الحال، لن يكون الفيلسوف والمفكر وعالم الإجتماع الألماني صاحب المقولات الكبرى والأفكار العظيمة هابرماس آخرهم، هذا الأكاديمي الفذ، الذي يُمثّل امتدادا لمدرسة فرنكفورت النقدية، ورائد نظرية “الفعل التواصلي”، والمنتصر لقيّم الحداثة والحرية والتحرر والإنعتاق والتنوير… هابرماس صاحب فكر انساني يمْتَح من المعرفة وينشغل بما يموج في المُحيط الثقافي والإجتماعي والسياسي الكوني، متسلحا دوما بالروح النقدية، لخلخلة المفاهيم والبنيات والقيّم والمُثل التي تأسّست عليها الحضارة الغربية، كالعقلانية والتقدم العلمي والتقني (…)وكلّ ما يرتبط بالحق كقيمة وكفلسفة انسانية، من أهم معالمها و روافدها، تحرير المستضعفين ومناهضة أشكال الهيمنة والإقصاء والتهميش والإستلاب والإغتراب وتشييء الفرد، ورصد اختلالات وتناقضات وبشاعة الرأسمالية المتوحّشة والإقتصاد السياسي المصاحب لها، وأثره على منظمومة القيّم والحياة الإجتماعية للأفراد.
هابرماس يُشكّل نموذجا للمثقف العضوي الديناميكي، الذي ينصهر مع حركة المجتمع في تفاعله مع الشرط التاريخي…هذا العيار الكاريزمي رفض – كما جاء على لسان أشهر مجلة ألمانية اخبارية ” دير شبيغل ” – أن يتحوّل (هابرماس) إلى “آداة دعائية اماراتية، يتمّ تدريبها وتمرينها على اخفاء وحشية نظام حُكم وراء ستار دخان من المفردات السامية والتألق الثقافي”.
موقف هابرماس – هذا – ألقى بحجرة كبيرة صلدة في آتون الثقافة العربية الراهنة، الراكدة والآسنة، التي تتغذى على طفيليات الولاءات الزائفة والإسترضاءات الخسيسة، وتنهل من أجندات مفخّخة بما يُرضي ديكتاتوريات القمع والإستبداد ومصادرة حقوق الإنسان.
آخذين في الحسبان، أنّ الجوائز العربية تعاني من عقدة شرعيّة مانحيها والقائمين عليها، والخلفيات اللا ثقافية واللا أخلاقية التي تسْندها وتُعضّدها، ناهيك عن ما يُغلّف هذه الجوائز، من عهر قيّمي و تسطيح وخواء فكري ورطانة وضحالة معرفية، بحكم أن هذه الجوائز تُمنح وتُفصّل على مقاس يُشبه “سرير بروكرست” السلطات الرسمية المانحة لها، واشتراطاتها التي غالبا ما تكون مؤطرة بخيارات سياسية و إيديولوجية، تُضمر خلفيات مركّبة تحرّك القائمين عليها.
الجوائز العربية، تعاني – أيضا – من انتهازية ووصولية وتزلّف المرشّحين لها، من أشباه المبدعين وأنصاف المثقفين، الذين من أجل الظفر بها يمكنهم أن يصطفوا مع الشيطان ، وأن يُسوّغوا ما لا يُسوّغ، ويتماهون مع التقاعس والخذلان، مثقفون ومبدعون نكوصيون، موغلون في المناكفات والمهاترات، يشبهون في تنطّعهم، الأحصنة الطروادية الهجينة الدم والهوى والصهيل. يعيشون بضمائر معطوبة، ووجدان عليل ونفوس سقيمة، ومفاهيم كسيحة، ممزّقون بين ولاءات من يدفع أكثر، ومن يُجزي العطايا و يغدق النعم…يمرّغون كرامتهم ان وُجدت في الوحل، فهم أعجز وأجبَنْ من أن يُضحوا من أجل قيّم الحق والعدل والإنتصار لقضايا شعوبهم، والتي هي مسؤولية لا تخرج عن اطار الزمان والمكان، لأن وظيفة المثقف – باعتباره جزء لا يتجزّأ من نسيج مجتمعه ،لأنهُ ضميره ونسغ وجوده وكيانه- هي الإنحياز إلى المقهورين والمسحوقين من مواطنيه، في مواجهة سلطة القهر، وليس في تبرير جُرمها وعنفها وقمعها، وتسويغ شموليتها وديكتاتوريتها.
لذلك، حين عبّر هابرماس عن موقفه الشجاع هذا، فإنّ الأمر لا ينزاح عن شهادته وموقفه من العصر الذي يعيشه ، هذا العصر الذي هو من صناعه و بُناته، والمتمترسين في خندق صياغة أفكاره، وبوصلة توجّهاته العلمية والأكاديمية الراقية، إنه موقف تماس مع الكبرياء الإنساني والشموخ الكوني والتعَمْلُق الحضاري، موقف ينمّ عن صلابة الرؤيا وجرأة الرأي وحصافة الفكر و يقظة الضمير والروح والوجدان..موقف يُعري مُحترفي الخيانة ومُسوّغي الخذلان والهوان وعُباد الدولار من أشباه مثقفينا طبعا..
حرةمنذ 3 سنوات
أكثر من رائع ،!!!!! كتابات قل نظيرها ,!!!!!! بطلها مثقف و من عيار منقطع النظير ,أقف انحناء لكتاباتك .،👍👍🏻👍