عبد السلام انويكًة
إطار ثقافة وتنظيم كانت ولا زالت ضمن تجليات عدة ومستويات، فكان الانتماء اليها ولا يزال أداة تصنيف سسيولوجية لشواهد وتفاعلات وذهنيات وعقليات ونمط حياة هنا وهناك من المجال. فضلا عن كونها لم تكن وعاء وعي وتساكن وتآزر وقوة مع الزمن فحسب، بل مكونا مستقبلا باستمرار لكل جديد قادم وفق هذا المرجع وذاك وهذا المصير أو ذاك. وعليه، ما طبعها من تمدد وتقلص وتشعب وتحول وتفكك..، إثر ما حصل لهذا السبب وذاك من دينامية داخلية بإفرازات همت هذا المستوى وذاك. تلك هي القبيلة المغربية وهكذا ما يخصها من درجة تعقيد ومن ثمة صعوبة تعريف ورؤية وقراءة، لِما هي عليه من تباينات وإثنية وثقافة ونمط عيش وعلاقات وموطن وحركية. وهكذا ما طبعها ايضا من تقاطع بتعبير”ارنست كًيلنر”، ومن هيكلة متجددة تبعا لعامل دينامية ذاتٍ وجوار، فضلا عن أثر زمن وطبيعة وسياسة وغيرها. اشارات يحق معها سؤال موقع القبيلة في تشكيل المجتمع المغربي، ودرجة وحدود امكانية القفز عنها وعن غيرها من الديناميات لفهم ما حصل وما لا يزال مستمرا من تطور وجمود ووعي على هذا المستوى وذاك. ومن ثمة هل انتهى ما جاء به ابن خلدون وشغله من جدل حول القبيلة والعصبية، أم لا يزال نظره وعمرانه قائما ضمن ما هنا وهناك من تجليات؟، وهل انتهت ميكانيزمات سلطة القبيلة في بعدها الرمزي، وما هناك من ظواهر قرابة ومشترك وذاكرة وعناصر تلاحم، فضلا عن شواهد مؤطرة جامعة بين أسواق وأضرحة وصلحاء ومواسم وثقافة وتعبير واعتقادات وسبل عيش وغيرها؟.
وغير خاف عن باحث مهتم أن ما حصل من إنصات سسيولوجي للقبيلة بالمغرب، ارتبط بأواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبما طبع هذه الفترة من أطماع استعمارية فيه. مع ما تقاسم هذا الانصات من أسئلة لم تكن بهواجس تخص شأن القبيلة فحسب، انما ايضا ما هناك من مكونات مجتمع وثقافة وسياسة جمعت بين مخزن وزوايا ومكامن قوة وسبل تدبير وغيرها، لبلوغ ما كان منشوداً من تسرب وتوغل وتوسع ومن ثمة من قبضة، عبر ما يجب من استراتيجية استعمارية وخطط محكمة. ولعل ما توجه به مستكشفو وسسيولوجيو وانتروبولوجيو واتنولوجيو هذه الفترة، من عناية تجاه القبيلة المغربية عموما، لم يقتصر على جهة دون أخرى بل شمل كل البلاد من ساحل وداخل وجبال وسهول وصحراء. وبقدر ما جمعت عناية هؤلاء بين هاجس معرفة وتعرُّف وغزو وفرض سلطة وثقافة..، بقدر ما كانت على علة خلفياتها بأثر فيما حصل من معطيات ذات أهمية حول مكون المغرب القبلي، وعليه ما تراكم من نصوص وأبحاث وتقارير عدة، منها ما شمل قبائل ممر تازة الاستراتيجي على مستوى أعالى حوض ايناون.
وفي علاقة بهذه الأعالي وما ورد عنها في المصادر التاريخية، يتبين أنه بقدر ما طبع قبائلها من امتداد في زمن المغرب ومن ارتباط بممر استراتيجي في علاقة شرق البلاد بغربها، بقدر ما كانت عليه من حضور وتفاعل عبر فترات تاريخ المنطقة منذ العصر الوسيط، فضلا عن تجلياتها التي لا تزال بعض شواهدها الاجتماعية والثقافية قائمة حتى الآن. وأن هذه القبائل حيث مقدمة جبال الريف شمالا وجبال الأطلس المتوسط جنوبا، كانت بجدل تحالفات وولاءات وانتماءات ومواطن ودينامية ساهمت في وجودها ولحمتها وصيرورتها. مع أهمية الاشارة الى أن ما طبع مكون قبائل تازة رغم مما شهدته من تحولات وصدمات من فترة لأخرى، يجعل من المنطقة مختبرا خصبا لدراسة القبيلة واختبار ما يرتبط بها من مفاهيم. علما أن قبائل تازة عموما لا تزال تحفظ بعض توازناتها وأصولها، وأنها لم تفقد كل هويتها. وعليه، ما طبعها ولا يزال من مكامن قوة وارتباط بمواطن، فضلا عن لحمة ظهرت جلية مطلع القرن الماضي، لِما أبانت عنه وشكلته من عقبة في وجه التوغل الاستعماري، ومن روح مقاومة خلال فترة ما سمي بالتهدئة زمن الحماية، مع ما انخرطت فيه ايضا هذه القبائل من مقاومة مسلحة ضمن جيش التحرير، التي انطلقت عملياته في تماس معها مطلع أكتوبر من سنة ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين.
عن قبائل هذه الأعالي ارتأينا ورقة حول قبيلة البرانس الشهيرة بالمنطقة، التي بقدر قدمها وامتدادها في زمن المغرب وبلاد الغرب الاسلامي، بقدر ما يسجل من تواضع إلتفات بحثي صوبها… ومن ثمة ما
هناك من قلة نصوص على أهمية ما حصل خلال السنوات الأخيرة من حيث قيمتها المضافة التحفيزية. وعليه ما ينبغي من عناية وتوثيق وطرح وجدل إشكالات، من قبيل ما هناك من علاقة مثلا بنشأة كيانات سياسية مغربية منذ العصر الوسيط، من حيث سؤال أساسها وامتدادها ووقائعها بل وسندها وحضنها من عدمه. ولا يخفى عن دارسين ومهتمين بتاريخ المغرب الاجتماعي أن أصول القبائل من قضايا البحث التاريخي والسسيولوجي التي لا تخلو من أوجه تعقيد، ومن هنا ما لايزال قائما من فرضيات ونقاش مفتوح يجعل هذه المسألة دون خلاصات شافية. واذا اعتمدنا في هذا الاطار ما أوردته المصادر التاريخية، نجد ابن خلدون يتحدث عن البرانس ويقدمها كتكوين منحدر من أسرة كبيرة شكلت قومية بربرية. وعن برانس تازة التي قد تكون من بقية هذه الأسرة الكبيرة، وحول استقرارها بمجال تلال مقدمة جبال الريف، هناك اعتقاد في كون استقرارها يعود لتاريخ دخولها المغرب نهاية القرن الثامن الميلادي. وعن أصولها يذكر ابن خلدون ايضا أن علماء النسب قسموا البربر لقسمين، الأول منهما ينحدر من جد يدعى”مادغيس” والملقب ب”الأبتر” ويقال لشعوبه”البتر”، أما الثاني فهو ينحدر من جد يدعى”برنس” ويقال لشعوبه “البرانس”. ويسجل أنه مع الفتح الاسلامي لشمال افريقيا كانت كل القبائل المنحدرة من البرانس، قد استقرت باقليم طرابلس أي ليبيا الحالية تحديدا منها منطقة برقة. متى غادرت قبيلة البرانس الشرق للاستقرار بالمغرب، هنا لا يذكر التاريخ أي شيء عن الحدث ومن ثمة ما هناك من اعتقادات حول الموضوع لا غير.
وقبيلة البرانس التي ورد أنها كانت أكثر تكوينات بلاد الغرب الاسلامي وفرة وأنه لا يخلو قطر من أقطارها من أحد بطونها، هي قبيلة مكونة بدورها من عدة قبائل نذكر منها قبيلة “صنهاجة” و”كتامة” و”مصمودة” ثم “أوربة”، التي يسجل ما لا يزال من بقية لها ضمن تراب برانس تازة. وقبيلة أوربة التي تعرف محليا ب”وَرْبَة”، هاجرت غربا لما انهزم كسيلة في إحدى معاركه أثناء الفتح الاسلامي، من قبل زهير بن قيس البلوي أواخر القرن الثامن الميلادي. وبهجرتها هذه استقرت بحوض سبو قبل أن تتم مطاردتها من قبل ابناء عقبة بن نافع انتقاما مما فعلته في معركة “تهودا”، وقد كان هذا خلال حملة موسى بن نصير على المغرب في أواخر القرن الأول الهجري، حيث تمكنت قبيلة أوربة من تكوين حلفها من قبائل كانت تستقر بين جبال الأطلس وجبال الريف، ليبدأ ذكرها مقرونا بإمارة الأدارسة.
وعن سؤال تسمية قبيلة البرانس، معروف أن البرنس قميص طويل كان يلبس في صدر الاسلام وربما كان بثوب ملصق برأسه (قب)، وهذا النوع من اللباس لا يزال منتشرا بالبادية المغربية. وأن “البرنس” هذا يعني ايضا لباسا معروفا ب”السلهام” وقد كان ولا يزال يصنع من الحرير والصوف، وهو بجميع أصنافه كان لباسا خاصا بالرجال في البوادي، بحيث تزداد الحاجة اليه خلال الفصل البارد في المناطق ذات الطبيعة الجبلية. علما أن هذا اللباس تحول الى لباس مخزني زمن دولة الموحدين بالمغرب، وأن سلاطين دولة بني مرين بعدهم كانوا يلبسون الأبيض الرفيع منه، فضلا عن العلماء والفقهاء وأهل الصلاح خلال هذه الفترة من زمن مغرب العصر الوسيط، واليه قد يكون ينسب “البرنوسي” ومن ثمة ربما أصل إسم البرانس، هذه القبيلة الشهيرة في تاريخ المغرب وتاريخ أعالي ايناون التي تستوطن تلال مقدمة جبال الريف شمال تازة، على مستوى مجال ترابي تتقاسمه وتقطعه ثلاث أودية شهيرة بالمنطقة هي واد”لحضر” واد “الاربعاء” واد”اللبن الأعلى”، والتي تصب جميعها في وادي ايناون أحد أهم روافد وادي سبو. ويسجل أن قبيلة البرانس تستوطن مجالا بطبيعة جبلية مع ارتفاع بحوالي الألف متر، فضلا عن قمم شهيرة بارزة بها وكمية تساقطات متباينة بحسب الفصول. مع أهمية الاشارة لِما يتوزع على مجال القبيلة من منابع مائية شهيرة بدوام جريانها اللهم ما يحصل من تراجع في صبيبها خلال السنوات الصعبة مناخيا. وفي علاقة بمجال القبيلة الطبيعي الترابي، يسجل أن من فرق أو فخذات القبيلة، من يعيش في ارتباط بالجبل من قبيل مثلا فرقة “بني بوعلى” وفرقة “وربة”، ومنها من يعيش بالسهل من قبيل مثلا فرقة “الطايفة” وفرقة “بني فقوص”، ولعل موطن القبيلة هو بحدود طبيعية مع بلاد الريف شمالا، تلك التي تمتد من تايناست حيث قبيلة صنهاجة غربا حتى قبيلة اكًزناية شرقا. ويظهر حول ما هو مجالي يخص قبيلة البرانس من خلال مصادر تاريخية مغربية وتقارير استكشافية حديثة، أن هذا المجال كان بغطاء غابوي هام مع انتشار واسع لأشجار شوكية، منها شجرة “الصبار” التي كانت تملأ المنطقة الى عهد قريب. وهذا المشهد البيئي بمسالكه الوعرة وفجاجه، بقدر ما جعل القبيلة بمناعة عبر تاريخها،
بقدر ما يظهر من خلاله أن الجغرافيا كانت بدور في توجيه ما شهدته القبيلة من وقائع منذ القدم والى عهد قريب.
ويسجل التاريخ من خلال مصادر مغربية، أن قبيلة أوربة السابقة الذكر، والتي تعد جزء من تركيب برانس تازة العام، كانت أول قبيلة مغربية بايعت المولى ادريس الأول على الإمارة والقيام بالأمر والصلاة والأحكام وغيرها. ما يعني أن “أوربة” ومن خلالها البرانس كانت أعظم قبيلة بل أكثر عددا وأشد قوة في مغرب العصر الوسيط، علما أن هذه البيعة كانت في وليلي سنة 172ه. وهنا ما يسجل من تباين بين قبيلة أوربة بالبرانس التي تستوطن تلال مقدمة جبال الريف شمال تازة، وبين قبيلة أوربة بجوار وليلي. وعليه، قد تكون الأولى جزء من الثانية، والعكس ايضا قد تكون الثانية جزء من الأولى. وأن التي توجد بجوار وليلي قد تكون هي الفرع، والتي توجد بشمال تازة قد تكون هي الأصل. انما ومن خلال ما تذكره نصوص التاريخ، يظهر أن نشأة امارة الادارسة بالمغرب قامت على جهد وقوة ونفوذ قبيلة أوربة البرنوسية، التي كانت بدور كبير في توحيد القبائل حول دعوة المولى ادريس، من قبيل قبيلة مكناسة وزواغة ونفزة وغمارة وغيرها. وكان ادريس الأول قد نزل عند قبيلة أوربة التي وفرت له الدعم من خلال زعيمها عبد الحميد الأوربي الذي كان من أوائل من اعتنق الاسلام بشمال المغرب، وأنه عندما تقرر زواج ادريس بابنته كنزة اعتنق الجميع الدين الاسلامي. وبما أن قبيلة البرانس من خلال أوربة كانت بدور في نشأة أول امارة اسلامية بالمغرب، ظلت مرتبطة بحضورها سنويا من خلال أعيانها، في حفل كان يقام ولا يزال سواء بضريح ادريس الأول بمدينة زرهون أو بضريح ادريس الثاني بفاس، وكانت القبيلة تتجه سنويا لهذه الأضرحة بهدايا رمزية وأضحيات مع قدر من المال.
وقبيلة البرانس التي ارتبطت بنشأة امارة الأدارسة في مغرب العصر الوسيط، والمستوطنة لشمال تازة حيث مقدمة جبال الريف، هي بتركيب قبلي تتقاسمه فرق عدة نذكر منها أولا: فرقة أو قبيلة “وربة” التي تشمل فخذة “بني خلاد” و”ولاد رحمون” و”ولاد عبو” و”ولاد عيسى” ثم “التربيين”. ومنها ثانيا: فرقة أو قبيلة “بني فقوص” وتتكون من فخذة “بني فتح” و”ولاد جرو” و”ترايبة” و”لحالحة” ثم “ولاد حدو”، ومنها ثالثا: فرقة أو قبيلة “الطايفة” ومن فخذاتها نذكر “أهل تلوان” و”أهل بوهليل” و”بني ورياغل” و”شقارنة” ثم ولاد سيدة”، أما رابعا: فهناك فرقة “بني بوعلى” وتضم فخذة “الفزازرة” وأهل الصخرة” ثم “حجر عبد الله”. مع أهمية الاشارة الى أن من الدارسين والباحثين من يرتب قبيلة البرانس ضمن بلاد جبالة التي تعربت واستوطنت جبال المجال المتوسطي بين الريف وطنجة. ولعل من تميزات جبالة هذه وما تلتقى به مع برانس تازة، طريقة نطق العربية فضلا عما هناك من نمط عيش ولباس وبيوت وتقاليد وعادات وغيرها.
ويسجل أن قبيلة البرانس التي تستوطن شمال تازة، محاطة بقبيلة غياتة جنوبا وقبيلة التسول غربا وقبيلة اكًزناية شمالا ومغراوة شرقا، هي بتراث لامادي واسع من صوره ما ارتبط بنمط حياتها وعيشها. وفي هذا الاطار وبحكم طبيعة مجالها الجبلي، كانت ولا تزال تعتمد الزراعة من قمح وشعير فضلا عن أشجار زيتون وتين .. وتربية ماشية. وحول طبيعة سكنها وأسلوب بناء بيوتها، يسجل ما كان يعتمد فيها من مواد محلية من أحجار وطين..، والتي نفسها كانت توضع على سطوح بيوتها في انسجام مع طبيعة فصول وموقع وموضع. مع ما طبع سكن القبيلة هذا من تفرق وتباعد، قبل أن يعرف تجمعا هنا وهناك ضمن دواوير بالمرتفعات.
ومن إرث القبيلة الرمزي، نذكر ايضا ما كان لـ”شيخ الجماعة” من دور في تدبير شؤونها وجميع ما يؤطرها من تنظيم وعلاقات ومواعيد ولقاءات فضلا عن تدافعات وطوارئ كلما دعت الضرورة. ومن جملة ذاكرة القبيلة ايضا ما كان لها من ارتباط بالزاوية الوزانية، ثم فيما بعد بالزاوية التيجانية التي نذكر من مظاهر ميلها وعلاقتها بها الى عهد قريب، رحلة كان قد قام بها الشيخ التيجاني الابن مطلع القرن الماضي عبر ترابها، عندما استقبله قائدها رفقة فرسانه وعندما استقبل ايضا من قبل فرقة الطايفة وفرقة وربة بحضور مقدم الزاوية المعتمد بتازا، قبل أن يتابع رحلته صوب شرق البلاد مرورا بسوق الخميس الشهير بالقبيلة وكذا ما يعرف ب”بوهليل” و”جامع الخمسين”. وعن ذاكرة القبيلة الروحية نسجل ما كان ولا يزال للشيخ الصوفي أحمد زروق من مكانة خاصة لديها، وما كان يحضى به صاحب الزاوية الزروقية هذا، من موقع رمزي وهيبة ذات علاقة بخلوة وضريح يتوسط مجال القبيلة بحسب ذاكرتها
الشعبية. وعليه، واسع أثاث القبيلة الثقافي الذي لا تغيب عنه سلطة وتأثير هذا الأخير، وهو ما كان بدور أمني كثيرا ما كان يعتمد ويؤخذ بعين العناية من قبل المخزن في بعض الفترات.
وموقع الشيخ زروق هذا في هوية القبيلة وذاكرتها، هو ما جعلها منذ على الأقل مطلع القرن الماضي، تستضيف موسما احتفاليا سنويا في بلدة شهيرة محليا ب”تلوان”، حيث يوجد ضريح بمكانة خاصة لدى القبيلة بحسب الذاكرة المحلية هو للشيخ الصوفي الشهير أحمد زروق، الذي خلف مؤلفات عدة توزعت على ما هو تصوف وعبادات. وقد نسجت روايات عدة حول ما تميز به من كرامات، تلك التي لا تزال متداولة ضمن هذا المستوى وذاك بالقبيلة وجوارها. وعن إرث القبيلة الثقافي والروحي غير بعيد عن ضريح هذا الأخير، ينظم سنويا احتفاء ديني روحي آخر في مكان يعرف محليا ب”البرية”، نسبة لشجرة زيتون ضاربة في القدم يعتقد أن بمكانها هذا تمت بيعة المولى ادريس الأول من قبل أعيان قبيلة أوربة البرنوسية، والسند الوحيد المعتمد في هذه الرواية كون المنطقة التي توجد بها هذه “البرية” لا تزال تسمى لحد الآن ب”أوربة” أو “وربة” بالنطق المحلي. والى جانب ما يقام من احتفاء روحي إن في موسم “الشيخ أحمد زروق” أو في موسم “البرية” والذي يعرف تحديدا باسم “لامة” البرية”، يسجل أن المناسبتين ومعهما المكانين كانا بأدوار تربوية وتعليمية منذ الماضي، ففيهما يتم تعليم القرآن وقراءته وتحفيظه للصغار، بل حتى برامج ما ينظم بهما سنويا من احتفاء يطغى على برنامجه قراءة القرآن من قبل فقهاء القبيلة، التي اشتهرت بأعلامها وقراءها شأنها في ذلك شأن ما طبع شمال المغرب وخاصة بلاد جبالة بحكم ما هناك من قرب وتواصل منذ القدم.
وحول تراث برانس تازة ايضا، ما هناك من زخم احتفاء وفرجة لاتزال تطبع وتتقاسم فصول السنة وأنشطتها ومناسباتها ومواسمها المحلية وغيرها. سياق نستحضر فيه ما كان ينظم بالقبيلة على مستوى دواويرها بمناسبة عيد الفطر من غذاء جماعي، كانت توازيه طلقات نارية ورقصات. وبقدر ما كان يطبع هذا الاحتفاء من بعد روحي فرجوي بقدر ما كان يستحضر روح حماية القبيلة وقدرة الدفاع عنها. أما بمناسبة عيد الأضحى فالاحتفاء كان أكبر وأهم بحكم ما يميز القبيلة من تقاليد متوارثة، منها ما كان يعرف الى عهد قريب ب” البا الشيخ”، حيث مطلع القرن الماضي بحسب تقارير مستكشفين أجانب، وهذا التقليد الحفل كان يسمى أيضا لعبة “بوجلود” التي كانت تنظم من قبل عشرة مشاركين، منهم أولا “البا الشيخ” باعتباره رئيسا لجماعة الفرجة واللعبة، وكان يضع على رأسه قناعا أسودا من جلد الماعز. ثانيا زوجة البا الشيخ “سونا” التي كانت تقوم بدور “العبدة” فيما كان يقدم من عرض، واضعة على وجهها ويديها صباغة مسحوق بارود. ومن المشاركين الآخرين في اللعبة ايضا نذكر شخصا كان يدعى “باعيو”، ليقوم الجميع بطواف منتظم في الدوار والانتقال من بيت لآخر وسط حشد من متفرجين مرافقين. تقليد احتفالي بقبيلة البرانس انقرض من المنطقة، بعدما كان قائما الى غاية العقد الثاني من القرن الماضي تقريبا، عندما أحكمت القرات الاستعمارية الفرنسية قبضتها على القبيلة خلال هذه الفترة.
انما من تراث القبيلة التعبيري الفرجوي الشهير بباديتها، ما لا يزال يعرف محليا ب”تشكلل”(الفرايجية) وهي رقصة بتفرد ايقاع وترتيب تعبير وحركة جسد جماعة وبناء نغمي، فضلا عما تحتويه من حكي وشخوص وأدوار وشيخ ضابط لقيم وقواعد وزمن فرجة. ولعل “تشكلل” هذا وما يعرف ايضا برقصة “المقص”، هو فسحة بدوية شفاهية بتعبير وهوية نطق محلي خاص ولحظات عفوية خاصة ايضا. ورقصة البرانس هذه رقصة ذكورية لها أثاثها ولباسها ومقاماتها وأدواتها الموسيقية التقليدية (بندير، تعريجة، مقص، غيطة…)، بل تعد لسان حال القبيلة في مناسباتها الخاصة والعامة على امتداد فصول السنة. رقصة بقدر ما يطبعها من فرجة وزجل بدوي وحركات بهلوانية يقوم بها من حين لآخر أعضاء الفرقة بشكل أحادي أو ثنائي، بقدر ما ينبثق حكيها من بيئة محلية وما تحفظه هذه البيئة من ذاكرة ومشترك ومعيش ونمط حياة وأحلام ورسائل وغيرها. تجعل من “تشكلل”هذا، إرثا برمزية انسانية خاصة في علاقته بالقبيلة.
بعض فقط من زمن ومجال وموقع وهوية برانس تازة، التي بقدر ما تحضر مصادر تاريخ المغرب منذ العصر الوسيط، بقدر ما يصعب القفز عنها باعتبارها عينة من قبائل البلاد وزمنها الاجتماعي وتاريخها الجبلي، الى حين مزيد من إنصات أكثر لباحثين ودارسين، في أفق ما ينبغي من نصوص مؤسَّسة شافية ومن ثمة من خزانة علمية رافعة لذخيرة تراث المنطقة اللامادي، ومن خلالها لشأنها وتطلعاتها ورهانها التنموي المحلي.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث