عبد السلام انويكًة
عريقة هي حرف وصنائع مغرب العصر القديم، بدليل ما كشفت عنه مساحة معطيات بقدر كبير من الأهمية الأثرية والتاريخية، والتي يستشف منها أن ما شهدته هذه الحرف والصنائع من تطوير وكذا تأثير وتأثر بحضارات البحر الأبيض المتوسط، كان نتاج ما حصل من انخراط وتفاعل مع ما كان يحكم هذا الحوض من حركة تجارة ومبادلات. فضلا عما سجلته دراسات علمية توجهت بعنايتها للوجود الروماني بالمغرب، من اتساع لوعاء هذه الحرف والصنائع من حيث انتاجها وأزمنتها وأمكنتها بالمجال الروماني. وعليه، اشتهرت عدة مواقع بمغرب العصر القديم بأنشطة انتاجية وتجارية عدة، من قبيل تمليح السمك وعصر الزيتون وطحن الحبوب وصناعة النسيج والتعدين، فضلا عن حرف ارتبطت بما هو بناء وتعمير وزخرفة. اشارات وغيرها استهلت بها الجهة المنظمة توطئ ندوة علمية وطنية، استضافتها كلية العلوم الانسانية والاجتماعية/ جامعة ابن طفيل بالقنيطرة يوم 23 ابريل الجاري، وقد ارتأت لها موضوعا موسوما ب”من موريطانيا الطنجية إلى المغرب الأقصـى الحرف والصنائع والتقنيات بين المعرفة المحلية والرومنة والأسلمة”.
ولا شك أن زمن المغرب القديم حتى دخوله العصر الإسلامي، يمكن فهمه عبر ما هناك من مثاقفة بين ما هو محلي من جهة ووافد من جهة ثانية، فضلا عما جاءت به التنظيمات الاسلامية عموما من حيث استدماجها لمعطيات موروثة عن حضارات سابقة. مع ما يسجل من تنوع حرفي بالمغرب الأقصى، بالتوازي مع ما حصل من تفرع وقيام لـ”الأحياء الصناعية” بمدن هنا وهناك، فضلا عن بوادر نشأة تنظيمات حرفية “حنطات”، وتكوين “سلسلة انتاج” بدءًا من أمكنة استخراج المادة الخام مرورا بورشات تصنيع حتى الأسواق، ومن ثمة تشكيل مجالات لأنشطة فلاحية ومعدنية ترتب عنها تأسيس دور سكة وقيام مدن منجمية. وهو ما يقتضي السؤال عن أثر الأركيولوجيا الاسلامية وما بلغته من نتائج من شأنها إغناء الموضوع. وعليه، أهمية ضبط إيقاع هذه التحولات وإبراز التغيرات التي طبعت التقنيات المعتمدة باعتبارها انعكاسا لحاجة مجتمعية واقتصادية، مع التركيز على مظاهر الاختلاف و/ أو الائتلاف، و/ أو القطيعة والاستمرار، و/ أو الثابت والمتحول.
وبما أن التأريخ لحِرَف المغرب القديم ومعه حقبة ما قبل الاسلام حتى القرون الهجرية الأولى، يفتقر لدراسة تركيبية شاملة شافية رغم مما تم الكشف عنه، فقد جاءت ندوة “من موريطانيا الطنجية إلى المغرب الأقصـى الحرف والصنائع والتقنيات بين المعرفة المحلية والرومنة والأسلمة”، لتسليط بعض الضوء على موضوع الحرف والصنائع وعلى القائمين عليها بموريطانيا الطنجية زمن الحكم الروماني، مع العناية بفترة ما قبل الاسلام وبعد دخوله المغرب الأقصى حتى منتصف القرن الخامس الهجري لِما لها من أهمية كمرحلة انتقالية. مع تشبيك منشود بين حقلين علميين خلال العقود الأخيرة، علم الآثار ثم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، استنطاقا لكل المصادر المكتوبة ومعها البقايا الأثرية المادية. هكذا تقاسمت ندوة كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بالقنيطرة هذه، جملة محاور متكاملة جمعت بين التأريخ لحرف وصنائع مغرب العصر القديم والوسيط: بين النص المكتوب والمعطيات الأثرية، اشكالية البحث في تاريخ المغرب ما قبل الاسلامي: أنموذج الحرف والصنائع، حدود الوصل والفصل بين المحلي والوافد فيها، الطبيعة والانسان والتقنيات..الحتمية والإمكان وشروط التطور التاريخي، دور هذه الأخيرة في تحديد معالم أسلوب الانتاج، الأنشطة الفلاحية وحرف وصنائع البادية، سلطة المدينة في تنظيم الحرف والصنائع ومسألة التمايز الاجتماعي، المتغيرات الدينية والاجتماعية وانعكاساتها على الحرف والصنائع. محاور ارتبطت بجملة تساؤلات، توجهت بعنايتها لقراءة تنوع حرف مغرب الفترة الزمنية المعنية في الندوة؟ التخصص الحرفي هنا وهناك على مستوى المناطق؟ طبيعة العلاقة بين الحرف والوضعية الاجتماعية للحرفيين؟ محددات التمييز بين مستويات الحرف ومقامها؟ درجة ارتباط الحرف بالرجال والنساء؟ دور الحرف في العلاقة بين البوادي والمدن. تساؤلات وغيرها أثثت برنامج ندوة كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بالقنيطرة، والذي تقاسمته مداخلات علمية رفيعة المستوى لثلة من الأساتذة الباحثين المتخصصين في المجال عن عدة مؤسسات جامعية وطنية.