ذ. يحي زروقي
في رحم الجمال تولد ألف قصيدة وقصيدة، وفي رحم الثورة لا يولد إلا شاعر واحد. هذه المعادلة الصعبة لاتتكرر دائما، لكنها تقع مع الشاعر حينما يمتلك ناصية الشعر، ويتمكن من القبض على أسراره، ومجاهله بواسطة لغته العميقة الكثيفة، ورؤياه البعيدة جدا تستشرف الأفق، وتبشر بأنسنة جديدة شعارها “الجمال الممتد، والثورة المورقة”.
فارس الحرف الجميل، لاينفك يراعه يخط لنا أجمل الصور، وأبدع المجازات، فنتنهد كلما تذوقنا جماليتها، وبناءها الفني البديع.
وبالمقابل تهزنا انتفاضته هزا كلما تفجر ينبوعه الشعري ضد الظلم، والعته، واللاحب، والإقصاء… إنه الشاعر”عبد السلام بوحجر”.
وحينما نتحدث عن الجمال في شعره لا بد أن نشير إلى شعره الغزلي العفيف الذي يذكرنا بفطاحل شعراء الزمن الجميل دون خدش للحياء، أو تجاوز للعفة، أو تحايل على المتلقي. يقول عبد السلام بوحجر في قصيدة “هند”:
وما كشفت هند عن ساقها* لتجذب عيني إلى نصفها
ولكن سبى قدها ناظريَّ * وفاجأني الحب من طرفها.
وفي قصيدة “من أوراق حب قديمة” يتحفنا بشذى شعره الآسر قائلا:
في نُهَى نظرتيها اللتين تألقتا..
رمتا
سحر سحريهما في الضلوع
فأضرمتا
جمرة الحب من زمن..
همتا
بعناقيد ضوئية في الخيال.
على أن هذا العشق العفيف سرعان ما يتحول إلى عزة نفس وتمرد على كل ما من شأنه أن يضعف من شخصية الشاعر الذكورية. يقول في قصيدة “مقام الهوى”:
… وأقسم: لن أتورط في لعبة الحب ..
لن أتداعى على كتف امرأة
أو أذوب على صدرها مثل قطعة سكر
ولكن سحرك أوقعني فجأة في هواك
فصرت أسير حبالك.. !
وكما رأينا فإن عبد السلام بوحجر بإمكانه أن يكتب الشعر التقليدي والشعر التفعيلي معا دون أن ينقص ذلك من قوة شعره، وسلاسة لغته، وجمالية إيقاعه وهذا يدل على عمق قراءته للشعر التراثي، والحداثي معا. تجربة شعرية مائزة بهذا الشكل لا يمكن إلا أن ننعتها بالرائدة لا سيما أن فيها من الإشارات النقدية والتنظيرية، وإن قلت، إلا أنها تشكل لبنة أساسا في قراءة الشعر عموما وماهيته، ورؤياه.
ففي تحديد ماهية الشعر يقول في قصيدة “وتر للرحيل” من ديوان الغناء على مقام الهاء
الشعر أوله احتراق
يجري على وتر الألمْ
والشعر آخره اختراق
دوما.. يرفعه النغم
وفي هذا السياق تقول الشاعرة الأمريكية “إيميلي دكنسن”: “إذا قرأت كتابا وأحسست بقشعريرة لايمكن حيالها لأي نار أن تبعث الدفء في جسدي، عرفت عندها أنني أقرأ شعرا. وإذا شعرت كما لو أن قمة رأسي لم تعد في مكانها، أدركت أن ذلك هو الشعر، فهل ثمة سبيل آخر” .
وفي مقام آخر من الديوان نفسه يقول في قصيدة “قال لي شاعر”
يقول لي شاعر: وقد هزني السحر…ا
أقوى وأبلغ مما تفعل الخمر…ا
ما السر في كل هذا؟ ما بلاغته؟
ما الأمر حير عقلي ذلك الشعر..ا
فقلت: صف ما ترى أو ما تحس به
وحين أصغي إلى إيقاع داخله
أخالني عندليبا ناله الأسر.
إلى أن يقول:
قلبي اعتراف حقيقي المجاز. انا
رسالة من صدى عنوانها الشكر..
…..
هو الغموض الذي يبدو وضوحه في
وضوحه غامضا…أو قل هو البدر…
وإن تفضلت دع تفسير جوهره
بالحرف ..فالسحر قد يغتاله الجهر.
مثل هذا الكلام لايمكن إلا أن يصدر عن شاعر متمرس بالكتابة الإبداعية التي نجد لها تقاطعا حتى الكتابات الإنسانية. يذكرنا هذا بقولة لعميد الأدب الأنجليزي “ساميول جونسون” حينما سئل عن ماهية الشعر قال: “من الأسهل كثيرا أن نتحدث عما هو ليس بشعر. فنحن جميعا نعرف ما المقصود بالضوء؛ لكن ليس من السهل أن نقول ما هو”
وفي معرض حديثه عن ثوابت القصيدة التي لا يمكن الانفكاك منها، أوالتنازل عنها. يقول في قصيدة ”بريد الأبجدية”:
أشهد أنني في الشعر لم أبدأ
وأن جمال كل قصيدة ترقى إلى رؤياي
قبل الوزن والمعنى.
إن الشاعر عبد السلام بوحجر يؤثث قصيدته بثوابت صارمة في مقدمتها الرؤيا، والوزن والمعنى؛ إذ الشعر لا يمكن أن يصل إلى مرتبة الخلق والإبداع إلا إذا توافرت فيه هذه الأسس. وهذا لعمري تنظير نجده في كتب النقد والأدب قديمه وحديثه.
والمقطع يذكرنا ببيت عبد الرحمان شكري في ديوان “ضوء الفجر”
ألا يا طائر الفردو * س إن الشعر وجدان.
وبيت أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة* أو حكمة فهو تقطيع وأوزانُ.
أما عبد السلام بوحجر فيتحفنا بقوله:
والشعر كان ولم يزل
نهرا مليئا بالخيال
يمتد من جبل الأزل
ويصب في بحر الجمال
هذا الزخم في القيم الجمالية في شعر عبد السلام بوحجر نجد له مسوغا ذاتيا كونه كرع من مدرسة الجمال عند الرومانسيين مع أبي القاسم الشابي، وإيليا أبي ماضي…. ومسوغا موضوعيا باعتبار الزمن الشعري الجميل هو النموذج الأمثل لإحياء العشق، والوضوح، والحرية، والبساطة، والعودة إلى الفطرة. ينشد قائلا:
والبدر يعلو
عن سياج حديقة الشعراء والعشاق..؛
يسكب ضوءه الصيفي والصافي
على أوراقنا المتناثرات
وبين أعمدة الضياء.
وكرزتا الثغر المعافى تدعواني
لارتشاف النبع في الظل الظليلْ… !
وفي موضع آخر من القصيدة يقول:
ما ينفع الإنسان يبقى
في البساطة والحقيقة شمسنا
أو ضلنا وضلالنا
مادام في دمنا دم يهفو إلى أجراسه العليا
أليس لنا اتجاه واحد يبدو..
وأفق واحد يبدو..
وناي واحد يشدو..؟
والشعر كما نظر له المنظرون رسالة قبل كل شيء تدعو إلى نشر قيم الجمال ونبذ كل مظاهر القبح، والالتزام بهذه المبادئ، والمرحوم عبد السلام بوحجر لم يحد عن هذا الحيز؛ إذ كرس شعره من أجل هذين المبدأين. يقول في قصيدة “وتر للرحيل”:
أقسمت أن أمضي إلى
أفق المحبة واثقا
أرنو إلى دنيا العلى
وأعيش عمري صادقا.
وأيضا:
لن يأخذوا مني وفائي
أو يسرقوا مني القصيده
كي ينشروا يا أقربائي
خبرا دنيئا في جريده.
ويقول أيضا:
من جرحي الشاهد
كالثقب في رئة القمر
طلعت عيون قصائدي
فوهبتها لبني البشر.
إن عبد السلام بوحجر في ثورته على الظلم والإقصاءلا ينشد إلا جمالا وبهاء وحُقَّ له أن يلقب بشاعر الجماليات. انظروا إلى جمالية القول، وبلاغة الكلام في شعره:
سأقول لا للانطواء، وأقول لا للظالمين، مادمت أجترح الغناء دربا إلى فجر اليقين.
وأيضا:
إني رفضت مناصبي
وقنعت دوما بالرغيف
وتركت كل حقائبي
للآخرين على الرصيف.
إلى أن يقول:
كالنار أصعد لامعا
كالماء أخرج صافيا
كالبدر أسطع رائعا
كالفجر أولد عاليا.
ورغم كل المضايقات التي تعرض الشاعر إلا أن عاطفته المرهفة والسامقة جعلته يغفر للخصوم كل خطاياهم، وهذا لعمري من أسمى مشاعر النبل، والسمو، وعزة النفس والكمال الإنساني. يقول في هذا الشأن:
كل خصومي أسامحهم
واحدا واحدا..
ويقول في قصيدة ”تقصى”:
تقصى لأنك لا تمجد كاتبا متصهينا
أو كافرا بالله أولصا.. !
إلى أن يقول:
…ولكن أنت لن تقصى
فقلبك مترع بدم الجموح
ومقلتاك تحدقان
من الجمال إلى الجمال
وجذوة الإيمان في أعماقك الخضراء
لا تخصى.
وفي هذا المقام يقول الدكتور مصطفى السلوي”والحق أنه لا يمكن لشاعر أن يصدر عن مثل ما صدر عن عبد السلام بوحجر، إلا إذا كان من طينة الشعراء الكبار؛ أولئك الذين آمنوا برسالة الشعر، وعشق تعبيراته وصوره وبهائه”.
ليس ببعيد عن هذه الشهادة،وهذا الاعتراف بهامة الشاعر الفحل عبد السلام بوحجر يقول الناقد الطيب هلو: ”يؤسس الشاعر المغربي عبد السلام بوحجر، على امتداد دواوينه، بناء شعريا خاصا،يمتاز بأناقة اللغة الشعرية التي لا يخطئها القارئ المتذوق، وبإيقاعه السلس الجميل، سواء في انتقاء الأوزان أو في اختيار القوافي والمكونات الإيقاعية الداخلية التي تزيد النص بهاء وجمالا.
بالإضافة إلى كل مكتسبات الشاعر الأدبية والجمالية تحظى نصوصه الإبداعية بخاصية قد لاتتوافر لدى كل الشعراء الحداثيين الذين استطاعوا أن يكرسوا كتاباتهم للمتلقي على اختلاف فئاتهم العمرية، ومستوياتهم العلمية والتربوية بفضل لغته الكثيفة، وقضاياه التي تهم الرأي العام، وإيقاعه الشعري الذي يحدث في نفس القارئ النغم والمتعة والتجاوب السريع، وهذا يدفعنا إلى التأكيد على ضرورة توظيف نصوصه الشعرية في الكتاب المدرسي لترسيخ القيم الإنسانية مثل قيم التسامح، والبساطة. ناهيك عن صقل الذوق الفني والجمالي في نفوس الناشئة. ولا أدل على ذلك، فإن شعره يتناسب والوتر مثل قصيدة “بلاغة الرباب” التي يقول فيها:
جاءت تحمل الرباب،
جرت عليه قوسها وجرحها فانساب
من حولها نهر من الضياء
وانقشع الضباب
نظرت يا أحباب
في وجهها المرشوش بالبهاء
شعرت بالبكاء
في أول اللقاء…
في ختام هذه الورقة أكاد أجزم أن الشاعر”عبد السلام بوحجر” جمع بين حُسنيين: رهافة الحس، والالتزام في المواقف، وهما ميزتان من الصعب أن يتوافرا الآن في المنجز الشعري لعدة أسباب أهمها أن عبد السلام قارئ نهم لشعر التراث، ولمدارس الشعر منذ السياب إلى نزار قباني ومحمود درويش، وبإمكانه أن يزاوج بين الشعر العمودي والتفعيلي دون أن يسقط في السطحية أو التقريرية، كما أنه تمكن من تطويع اللغة الشعرية وجعلها في متناول القارئ العربي مثل الشاعر المصري “أمل دنقل”.
لائحة المصادر والمراجع
الدواوين الشعرية
ستة عشر موعدا عبد السلام بوحجر، منشورات الدفاع الثقافي، تازة، الطبعة الأولى فبراير 2006.
الغناء على مقام الهاء عبد السلام بوحجر، منشورات ومضة، طنجة، الطبعة الأولى يوليوز 2013.
ديوان قمر الأطلس عبد السلام بوحجر، مطبعة فضالة، المحمدية، الطبعة الأولى يناير 1999.
الكتب والدوريات
عبد السلام بوحجر شاعر الجمال جماعة من المؤلفين إعداد وتنسيق محمد ماني منشورات العلامة الجمالية، الطبعة الأولى يونيو 2018.
مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية ذو القعدة 143هـ/أكتوبر 2011م المجلد 8العدد 3ص237
شهادة الطيب هلو في حفل توقيع ديوان ستة عشر موعدا.
يحي زروقيمنذ 5 سنوات
شكرا لكم دمتم في خدمة الشعر والنقد