الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية (جزء1)

admin
2024-03-31T19:21:49+02:00
ثقافة وفن
admin31 مارس 2024آخر تحديث : منذ شهر واحد
الشعر البدوي بشمال إفريقيا .. مقاربة تاريخية (جزء1)
  • د. محمد حماس

لا شك أن الشعر الشعبي المغربي له مكانته وقيمته في المضمار الإبداعي المغربي عامة، والأدبي خاصة، حيث تزخر البيبليوغرافيا الأدبية المغربية بكم هائل من الدواوين الشعيرة الشعبية، في الزجل، والملحون، والحساني، وكذلك اللون البدوي الذي تزخر به منطقة شرق المغرب، إذ يمكن تعداد كم من الشعراء الذين لهم حضور قوي في هذا اللون الشعري، الموسوم بالبدوي، نسبة للبادية، لأنه يمتح من طبيعتها، وثقافتها، وطباع أهلها. فتتردد الصور الشعرية لتنقل مشاهد البادية، تنقل الصور الجميلة لطبيعتها. كما يتسم اللون الشعري البدوي بعمق المعاني ومعجمه الخاص، إذ يصعب تعاطيه أو فهمه من قبل غير المنتمين للمكان الذي ينتمي له هذا الشعر.

إن جمال القصيدة البدوية، لا يمكن حصره في ركن من أسس المتن الشعري، بل كل مكونات القصيدة، والتي هي موجهة في غالب الآحيان، نحو الغناء. هكذا نجد نصوص الشعر البدوي تزخر بإيقاع موسيقي طافح، يجعل منها قطعة موسيقية تهتز لها مشاعر القارئ والمستمع، لأن قوتها في شفويتها.

غالبا ما يتم الاستماع لقصائد الشعر البدوي بفضاءات، “الحلقة”، أو الأفراح، أو اللمات الضيقة، أو خلال المهرجانات المنظمة لهذا الغرض. إنه تراث يكاد ينقرض، لأنه يوجد بجهة شرق المغرب التي تتقاسمه مع الجارة الجزائر.

لقد تم حصر الموضوع، يتوخى مقاربته نظريا لأجل التعريف بهذا اللون الشعري الذي هو ليس في متناول كل متلقي، بسبب معجمه اللغوي أساسا. هكذا، ووفق تصور منهجي، سوف نكشف عوالم الكتابة الشعرية عند زمرة من هؤلاء الشيوخ، واستثمارها كمادة تراثية تقوم على التوصيف، ونقل أحداث لوقائع زمنية، وأسماء أعلام، وفضاءات مكانية وزمانية، في قالب فني جميل.

 سوف نكشف ملامح هذا الجمال من خلال الصور والمعاني التي تزخر بها النصوص الشعرية التي جلها مغناة. ثم نلتفت لتعدد الأغراض الشعرية عند الشاعر.

من خصوصيات الشعر البدوي، أن الشاعر نفسه يقوم بعملية غناء قصائده.

معلوم أيضا أن مثل هذه المادة التراثية يصعب تجميعها، باعتبارها مادة شفوية يتم تدوينها من أفواه أصحابها أو ممن عايشوهم، فقليلا ما نجد المادة مكتوبة أو مجموعة في ديوان. بمعنى البحث يقتضي العمل الميداني في جزء مهم منه. إضافة إلى شقه النظري.

من هنا، فإنجاز هذه الدراسة، اعتمادا على الوصف والتحليل، سوف يتطلب منا التنقل في تراب القبيلة لإنجاز المقابلات والوقوف على الأمكنة، خاصة تلك التي تشكل تجمعا لأفراد يتعاطون لهذا اللون الشعر البدوي، والغناء الشعبي. ثم التركيز على عدد من المدن التي لازال ينتشر بها مثل هذا المنتوج الشعري، منها وجدة، وجرادة، وعين بني مطهر، وتاوريرت، وضواحي هذه المدن.

تهدف هذه الورق طرق موضوعات الشعر البدوي، الذي هو منتوج أدبي شعبيي ارتبط مكانيا بالبادية، إن على مستوى الموضوعات، أو الصور، أو المعاني … ومن ذلك يستمد خصوصياته. الشعر العربي القديم هو أيضا ولد وترعرع في البادية، حيث الرمس والفيف والخيمة والناقة وغيرها من المشاهد التي أثرت القصيدة العربية على يد فحول الشعر واللغة العربية المتينة، والشعر البدوي يمتح من هذا التاريخ الشعري، فنجد فيه أثرا واضحا من النبطي، ومن اللغة العربية القديمة، حيث تحتفظ القصيدة البدوية بالعديد من الكلمات العربية التي عرفت الهجر ولم تعد متداولة.

نهدف أيضا لجعل هذا اللون الشعري في دائرة الاهتمام النقدية، ليعتني به الباحثون والنقاد، لأنه يزخر بالكثير من أوجه الجمال، وغنى المعجم العربي الذي يمثل جزء من تراث وثقافة المجتمع العربي عامة، بالحجاز واليمن. يتميز أيضا بالسليقة الشعرية، والشاعرية وقوة اللغة، والجمال، فيأتي القول صادقا، والمعنى عميقا، وقوة الانطباع، ويتبدى توصيف اللغة الشعرية، والألفاظ، والتراكيب، والأساليب، والإيقاع، الخارجي والداخلي، والصورة الفنية بمختلف عناصرها وأنواعها، والتشخيص، والتجسيد، والتجسيم، وتوصيف الرموز، والأفكار، والعواطف، والأخيلة. بمعنى أن القصيدة البدوية، هي قصيدة عربية هاجرت من بيئتها المشرقية، عبر حقب زمنية متتالية، واستطاعت ان تصمد لتستقر في الشمال الإفريقي، وهذا ما سوف نعمل على إثباته من خلال البحث. لأن القصيدة البدوية، من خلال شعرائها الرواد، هي ذاتها التي تتوزع بين بلدان الشمال الإفريقي بما في ذلك مصر.

ثم إن الشاعر البدوي له حضور وشخصية قوية، على مستوى الهندام والوقار، والثقة، واتخاذ الموقع داخل المجلس. فنجد الشاعر يلقي قصيدته في المناسبات العائلية، والمجالس المحترمة. كما أن معجم القصيدة لا يخل بالحياء، بقدر ما يعتمد الحكمة والموعظة، أو الغزل العفيف، أو النصوص التي تدخل في خيار النصوص الأدبية النبوية.

      استلزمت طبيعة الموضوع استحضار الإشكالات للإجابة عن البعض منها، إن لم تكن جميعها، ثم الوصول إلى خلاصات، علما أن المهمة لن تكون يسيرة، لأنها ستتطلب الوصف والتحليل واعتماد الشهادات الشفوية، والمقابلات، والمرابطة بالمكان، والاتصال المباشر بالأشخاص ذوي الصلة حيثما وجدوا.

الإشكال الأول، يعرف بالشعر الشعبي عامة، وتصنيفاته، ثم الشعر البدوي الذي نتساءل إن كان يقتضي التصنيف ضمن حيز الشعر الشعبي، أم يقوم بذاته، اعتبارا لخصوصياته الكثيرة التي لا تقع في تماس مع بقية ألوان الشعر الشعبي، من ملحون، وزجل … ثم نتناول الشق النظري الذي يروم طرح بعض من مواصفات الشعر في مقاربة بالعملية الإبداعية الأدبية، في محاولة للتصنيف، حيث يتم تحديد مقولة الشعر البدوي وخصوصياته، وعنصر يروم التأصيل لهذا اللون الشعري، وطرح إشكال التأصيل، بمعنى هل يمكن اعتباره شعرا عربيا، اعتبارا للمعجم اللغوي؟ أم هو عامي؟ وطرق قضايا الشعر البدوي، وموضوعاته.

الإشكال الثاني نسعى من خلاله لاستعراض بعض من النصوص الشعرية، والحديث عن أصحابها على سبيل الاستئناس والتعريف باللون الشعري، وفحول هذا اللون، ثم الوقوف عند ظاهرة كون هذا الشعر يغنى في غالبيته، ويغنى من الشعراء ذاتهم. فهم ينظمون القصائد وفق إيقاع وموسيقى تجعل النصوص تستمد قوتها من شفويتها، أي لا نستلذ النص إلا بسماعه من صاحبه، إلقاء أو بفضل الأداء الغنائي.

التأطير الجيوتاريخي لمجال البحث

تمتد جهة الرق على واجهة بحرية طولها 200 كلم، على البحر الأبيض المتوسط، حيث تنوع تضاريسها بين السهول، والأنهار، والجبال، والنجود العليا والصحراء، وهي مدخل لإفريقيا، وامتداد نحو البلدان المغاربية خاصة الجزائر جهة الشرق. كما أنها تطل على قارة أوروبا عبر البحر. مناخها جاف وشب صحراوي، أراضيها شب قاحلة بسبب ارتفاع درجات الحرارة وقلة التساقطات.

تعتبر مدينة وجدة حاضرة جهة الشرق، باعتبارها مدينة ألفية عرفت توافد العديد من الشعوب عليها. أسسها الزعيم المغراوي زيري بن عطية سنة384 هـ/994م، وهو مؤسس مملكة المغرب الأقصى، من أجل التحصن بها، حيث كان في حرب مفتوحة على عدد من الواجهات، ضد المنصور بن أبي عامر في الأندلس، والفاطميين،  وأنصارهم من الصنهاجيين في المغرب الاوسط … فأحاطها بالأسوار التي لا زال البعض منها قائما يشهد على هذا التاريخ. فتحها القائد المرابطي يوسف بن تاشفين سنة 1073م(1). بينما يرى صاحب الترجمانة الكبرى عكس هذا، فهو ينسب النشأة الأولى لحاضر وجدة أو مكانها أو صورها إلى مرحلة قبل الإسلام، حيث بناها بنو يفرن ملوك تلمسان الذيم كان لهم الملك والسلطان آنذاك (2). ثم جاءت بعدها النشأة الثانية على يد زيري بن عطية المغراوي الذي شيد أسوارها وأبوابها وجعلها عامرة بأهلها من زناتة، واتخذها قاعدة لملكه، “لما قتل زيري بن عَطِيَّة يدو بن يعلى صفا لَهُ أَمر الْمغرب وَلم يبْق لَهُ بِهِ مُنَازع وهابته الْمُلُوك وَبَقِي الْأَمر مُسْتَقِيمًا بَينه وَبَين الْمَنْصُور فِي الظَّاهِر فَسَمت همته إِلَى بِنَاء مَدِينَة تكون خَاصَّة بِهِ وبقومه وأرباب دولته فَبنى مَدِينَة وَجدّة وشيد أسوارها وَأحكم قصبتها وَركب أَبْوَابهَا وسكنها بأَهْله وحشمه وَنقل إِلَيْهَا أَمْوَاله وذخائره وَجعلهَا قَاعِدَة ملكه لكَونهَا وَاسِطَة الْبِلَاد وثغرا للعمالتين، الْمغرب الْأَقْصَى والأوسط، وَكَانَ اختطاطه إِيَّاهَا فِي شهر رَجَب سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة، وَلم يزل زيري بن عَطِيَّة فِي علو سُلْطَان وارتفاع شَأْن إِلَى سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة”(3).

أما على العهد المريني فقد عرفت وجدة بناء المسجد الأعظم سنة 1296م على يد يوسف أبي يعقوب، لتتعرض بعد ذلك المدينة للتخريب على يد هذا الأخير سنة 1272م(4)… كانت وجدة بوابة نحو مملكة تلمسان التي أقامها بنو عبد الواد، فنزل السلطان أبو سعيد المرينى مدينة وجدة واكتسح بسائط تلمسان(5)، فصارت لمدينة وجدة مكانة سياسية واستراتيجية في خضم الصراع القائم بين مملكتي فاس وتلمسان، أي بين المرينيين وأبناء عمومتهم من بني عبد الواد. وتعود تسمية وجدة إلى الكلمة الأمازيغية “إيوجذي”، أي الزهر الأصفر الذي يتوج نبات السدر، شأن جل الأماكن بالمغرب والشمال الإفريقي التي تحمل، طوبونيميا، أسماء أمازيغية. تعرضت وجدة لهجمات أدت إلى تخريبها بسبب الحروب العنيفة على عهد السعديين الذين أوقفوا الزحف التركي عليها(6). ثم استرجعها المولى إسماعيل في عهد العلويين سنة 1692م. وقد شهدت وجدة اقتتال أبناء مولاي علي الشريف مؤسس الدولة العلوية، محمد والرشيد، هذا الأخير انضم إليه العرب النازلون بسهل أنجاد(7)، فهزم أخاه محمدا سنة 1664م(8). واستمرت وجدة على هذه الحال إلى أن تم احتلالها من طرف الفرنسيين سنة 1907م.

عندما انتفض الجيلالي الزرهوني الملقب بالروكي بوحمارة، ضد السلطة المركزية للمخزن، صارت وجدة أيضا في دائرة اهتماماته لقربها من الريف، فاستمال جماعاتها العربية، ومنهم جماعة “لمهاية”، عرب من الأثبج الهلاليين، حيث أغاروا على وجدة سنة 1886م يتزعمهم الحاج السهلي المهياوي، فانتصروا على عرب أنݣاد من أولاد علي بن طلحة، لكن، وبسبب موقف عرب لمهاية ومساندتهم للروكي بوحمارة، وجدوا أنفسهم في مواجهة المساندين للسلطان، ومنهم الحاج محمد الصغير ولد البشير زعيم قبيلة بني يزناسن، فأجبروا عرب لمهاية على اللجوء إلى أرض الجزائر … واستمر بنو يزناسن في مقاومة الفرنسيين بعد هزيمة الجيش المخزني في معركة إيسلي سنة 1844م، إلى أن هزموا واحتلت فرنسا مدينة وجدة في 24 مارس 1907م(9).

لا ريب أن وجدة بتاريخها العريق شكلت ولا تزال إحدى الحواضر بمغرب العصر الوسيط، حيث كانت محور أحداث خلال الصراع القائم بين جميع الشعوب التي مرت بها منذ تأسيسها من قبل زيري بن عطية، شأنها شأن حواضر مثل فاس ومراكش وتلمسان … أحداث ساهمت في بناء تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، رغم ما تعرضت له من تدمير لأسوارها، وصراعات دامية بين الجماعات العربية الوافدة وسكانها الأصليين من زناتة، وكذا فيما بينهم.

كثرت الأسماء التي تم إسقاطها على وجدة، حيث تضاربت آراء المؤرخين، بين تسمية “أنݣاد” التي تعني بالأمازيغية مكان تجمع الماء والأرض المنبسطة، فهو عبارة عن سهل شاسع استقرت به بعض الجماعات العربية من سليم وهلال، ثم وجدة، أو “وجدات”، “وجديجة” نسبة لقبيلة بني وجديجن إخوة مغراوة وبني يفرن من زناتة(10). أما طبونيميا “وجدة” من “إيوجدي” بالأمازيغية الزناتية القديمة تعني تلك الزهرة الصفراء التي تخرج مع ورق السدر. أما ما عدا هذه التسميات فلا نعتقد أن لها سندا تاريخيا أو طبونيميا، والتاء المربوطة في آخر الكلمة قد استعملها العرب لتأنيث الكلمات كما في مدينة تازا التي غالبا ما تكتب خطأ بتاء مربوطة في الأخير.

لقد عملت القبائل الأمازيغية المتواجدة بهذه المنطقة على الحفاظ على ثقافتها، وحاضرة وجدة ظلت فضاء لهذه الثقافة. ينضاف لهذه المعطيات التواجد اليهودي، واعتناق عدد من القبائل الأمازيغية لها، ولو أنه في رأينا لا يمكن الحديث عن اليهودية سوى كشرعة وليس هوية أو شخصية (identité et personnalité) أو ديانة. لكن ما يهمنا أن وجدة ظلت محط صراع بين كل المجموعات التي مرت بها. صراع مع فروع زناتة السكان الأصليين والجماعات العربية، وغيرها التي تواجدت بها قبل مجيء العرب واستتباب الإسلام بالغرب، وكذا الصراع الصنهاجي الزناتي، والموالاة للأمويين … ناهيك عن الدور الاقتصادي الذي لعبته وجدة في التاريخ الوسيط بفضل موقعها الاستراتيجي.

هذه الأحداث التاريخية هي التي جعلت وجدة تضم عددا غير متجانس من الشعوب والقبائل مختلطة الأعراق والأصول، واللغات، والتنشئة، والثقافة، الشيء الذي يبرر هذا التعدد في البنية الاجتماعية، وكذا التنوع في الثقافات، فكان المجال الإبداعي متنوعا، ومنه الأدب الشعبي الذي منه الشعر البدوي الذي شكل مشتركا بين الجماعات العربية التي تستقر بربوع الشمال الإفريقي.

الجذور والهجرة من المشرق

إن المطلع على ما أورده جل من كتب عن تاريخ بلاد إفريقية، شمال إفريقيا، عند صاحب الاستبصار، والمسالك والممالك، وغيرهما، وحتى عند بعض الباحثين في الزمن الراهن، سيلاحظ غياب الموضوعية، من خلال التحامل على ساكنة البلاد، أي على الأمازيغ، وإضفاء العديد من المغالطات التاريخية عن استقرار العرب من سليم وهلال وغيرهم ببلاد إفريقيا، الشيء الذي يجعل الاعتماد على مثل هذه الكتابات مجازفة علمية يستحسن التغاضي عنها. وفي المقابل هناك ما أورده عبد الرحمن بن خلدون الذي يمكن اعتباره مصدرا موضوعيا لحد بعيد، بسبب ما أورده عن الاستقرار العربي بشمال إفريقيا، وعن الشعر النبطي وانتقاله للمعمور.

تاريخيا لابد من العودة إلى ظروف استقرار الجماعات العربية بشمال إفريقيا، والذي يمكن إرجاعه إلى زمن الغزو العربي لهذه البلاد وما شهدته من حروب بين الأمازيغ والولاة العرب الذين كانت معاملتهم للأمازيغ خشنة لم تقتصر على نشر الدين الإسلامي، وإنما على الاعتداءات وانتهاك الأعراض(11).

    لقد عرفت أرض الأمازيغ حضارة كبيرة وحمل شعبها ثقافة تفاعلت مع الثقافات المجاورة لهم منها الثقافة بونية التي هي ثقافة أمازيغية فينيقية، ثم إن الملك ماسينيسا شجع الفكر اليوناني خلال القرن الخامس قبل الميلاد وقد ألف يوبا الثاني كتاب “ليبيكا” يتحدث عن بلاد الأمازيغ(12).

لابد أيضا من التوكيد على دور الأمازيغ في نقل العربية، لغة، والإسلام عقيدة وفكرا من المشرق إلى المغرب في إطار هجرات عدد من العلماء لطلب العلم والأخذ عن المشايخ هناك، ثم العودة لبلدانهم، ولنا في دولة الموحدين أفضل نموذج عن هذا. وقد عرف شمال إفريقيا، بروز عدد من العلماء الذين كان لهم دور كبير في مجال عدد من العلوم، في الفقه، واللغة(ابن منظور)، والنوازل(الونشريسي)، والفلسفة(ابن رشد)، والرحلة(ابن بطوطة)، وعلم النباتات(ابن البيطار)، والتاريخ(أبو القاسم الزياني) … وغيرهم من العلماء الأمازيغ المسلمين.

إن الجمات العربية، من هلال وسليم وغيرها، توافدت على الشمال الإفريقي منذ بدايات وصول المسلمين إلى هذه البلاد لتتواصل هجراتها عبر مراحل تاريخية وصفت بالحرجة، حيث تم استقدامهم من صعيد مصر(كما سنورد في فصل من هذه الورقة)، أردفتها جماعات عربية أخرى خلقت الكثير من الفوضى بهذه البلاد، ومنها مدينة وجدة حاضرة شرق المغرب، خاصة في عهد الموحدين لتنتهي مع العلويين، وقد استحوذوا على الخصب من الأراضي السهلية، لأن الأمازيغ سكنوا الجبال وتمنعوا بها بسبب ظروف الحروب والغزوات(13). هكذا اختلطت الإثنيات المكونة للبنية السكانية للمغرب(14). كما ذكر عبد الرحمن بن خلدون أن المنطقة، قبل بناء وجدة، كانت مجالا ترابيا لقبائل زناتة وفروعها من جراوة، وبني ورتغنين، ويرنيان، وبنو يزناسن، ووجديجة، وغيرها. هكذا يكون زناتة أو من استقر بوجدة عند تأسيسها من طرف زيري ين عطية. ثم جاءت الهجرات العربية لتغزو المنطقة بكاملها وتستحوذ على الأرض والزرع، وهي هجرات تمت عبر مراحل كما أسلفنا، رغم ما تحاول بعض الكتابات غير الموضوعية تحريفها.

مهما يكن من قول فإن تشبث الأمازيغ، بالدين الجديد لم يضاهيه سوى تمسكهم بأرضهم واستماتتهم في الدفاع عنها، وقد كان لهم الدور الكبير في نشر الإسلام والتشبع بتعاليمه، فاللبس التاريخي القائم حسب اعتقادنا هو بين نشر العقيدة الإسلامية والغزو العربي المتلخص في سلوك الولاة العرب ودار الخلافة بالمشرق ثم من بعدهم بنو هلال وما ألحقوه من ضرر ببلاد الأمازيغ حيث كانوا مثل الجراد المنتشر أتوا على الأخضر واليابس، واستباحوا الأرض والعرض، ووضعوا سيوفهم في قبضة كل جموح للسلطة والملك(15).

عرف المغرب غزوات بني هلال وسليم من مضر، وهم قوم كانوا على الوثنية، وبعد الإسلام أصبحوا يطوفون رحلة الشتاء والصيف أطراف العراق والشام، نجعوا إلى الحجاز، فنزل بنو سليم دون المدينة، وهلال عند جبل غزوان عند الطائف على عهد الدولة العباسية. كانوا يفسدون العمران ويغيرون على الحجاج، وانضموا إلى القرامطة، ثم نقلهم العزيز بالله إلى مصر وأنزلهم شرق النيل، لكنهم كانوا عنصرا هداما بالبلاد، فعثوا في أرض الصعيد فسادا. ضمت عرب جشم وأثبج وزغبة ورياح وربيعة وعدي، وقد عم ضررهم وتفشى شرهم بسائر البلاد، فاستقدمهم المستنصر لرياسة إفريقية وجعلهم يحاربون الصنهاجيين للانتقام من بني زيري(16). هذا وقد أشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري على المستنصر، الذي أعطاهم المغرب وملك المعز بن بلكين الصنهاجي، يقول عنهم عبد الرحمن بن خلدون، “فصاروا كالجراد المنتشر لا يمرون على شيء إلا واتوا عليه”(17). فانقضوا على بلاد إفريقية وهزموا المعتز وجيوشه، ونهبوا ممتلكاته وأراضيه، وأفسدوا المزارع والعمران، وقتلوا خلقا كثيرا من صنهاجة والعبيد … الشيء الذي أدى إلى فترة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، إن العرب أتوا على العمران وكل معالم الحضارة بإفريقية، وأبادوا خلقا كثيرا. جدير بالذكر أن الولاة العربي ومنهم موسى بن نصير وعقبة بن نافع الفهري وابن أبي المهاجر وزهير بن قيس، وابن حبيب، وغيرهم الذين راوح عددهم الثلاثين واليا تعاقبوا على تقتيل أهل إفريقيا وسبي نسائهم وخيرات أراضيهم بدعوى نشر الإسلام، ومنهم موسى بن نصير الذي توجه نحو “غزو القبائل البربرية والحصول على الغنائم وإرسال عدد كبير من السبي إلى دمشق إرضاء للخليفة الأموي، وكان لذلك أثر سيء في نفوس البربر(18) (ذكره ابن عذاري، والرقيق القيرواني، وابن خلدون، وابن الخطيب)(19). رغم هذا فالحديث عن تعريب شمال إفريقيا يبقى غير موفقا، رغم كل ما تعرض له أهلها، لأن الراهن يؤكد أن غالبية ساكنة هذه المنطقة يتكلمون اللسان الأمازيغي محافظين على أصولهم الأولى، مقتنعين بالعقيدة الإسلامية، والمغرب يجعل من اللغة الأمازيغية في الفصل الثاني من دستور 2011، لغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة الأمازيغية.

العادات والطقوس الشعبية المشتركة

اقتضت طبيعة الموضوع النبش في المشترك الثقافي لساكنة الشمال الإفريقي، حيث أن المرجعية التاريخية لهذه البلاد لا تحتمل التجزيء، فهناك السكان الأصليون، أي الأمازيغ الذين عمرواها، وكانت لهم حضارة وسلطان بها، إلا أن هذه الأرض عرفت توافد عدد كبير من الشعوب، بداية من الفينيقيين إلى العرب ثم الاحتلال الأوروبي الذي لا تزال بلدان شمال إفريقيا تعيش التبعية له، أي لبلدان أوروبا. طبيعي إذن أن تتلاقح جميع حضارات هذه الشعوب مع الثقافة الأصلية الأمازيغية لتنتج هذا التنوع الثقافي الذي يتطلب جهدا لتحديده على مستوى الأصول والهوية.

تمتد بلاد الأمازيغ من منطقة سيوا على الحدود المصرية الليبية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، إلى النيجر ومالي جنوبا، تجمع هذا الشعب اللغة المشتركة والتاريخ والعادات والتقاليد. حيث لا تزال هذه الثقافة مستمرة بدليل استمرار لغة أهلها، وكذا البنية البشرية التي تميز إثنيا بين الأمازيغي والأعراق الأخرى يجمعها الدين الإسلامي، لكن على مستوى الأصول فيمكن جدا التمييز بين ساكنة هذه البلاد. يبقى أن الطوارق سكان الصحراء، ربما هم من لا زال يثمل ذلك النموذج الأمازيغي “الخالص”، أي البعيد عن التزاوج. فالاختلاط الذي عجل بانصهار كل هذه الثقافات يعود لعامل أساس هو التزاوج بين الأمازيغ وأعراق أخرى خارج الحلقة الإثنية. فالبعض من القبائل الأمازيغية لا يزال منغلقا بعيدا عن فعل الاختلاط الثقافي، حيث أسس الخوارج (744-911م)، عدة ممالك خارجة عن الطاعة، منها سجلماسة والرستمية والبرغواطية.

إن الثقافة الأمازيغية ذات جذور تاريخية تتمظهر فيما هو تراثي، وعادات وتقاليد، وطقوس …، وفلكلور من رقص، وموسيقى، وغناء، وحكايات شعبية، وشعر، وزخرفة، وصناعات … هذا كله تلاقح مع الثقافة العربية التي حملتها الجماعات العربية مع بني هلال وسليم، والزنجية والمتوسطية. رغم كل هذه العناصر، فإن اللغة، الأمازيغية والعربية، وحتى لغة المستعمر، لا تزال مستمرة في الوجود.

وعليه، يمكن القول إن امتزاج هذه اللغات جميعها، يجعل البلدان المغاربية، تستعمل لغة مشتركة، تختلف من بلد لآخر، ومن منطقة لأخرى. بمعنى أن لغة الشعر الشعبي ليست خالصة عربية، ومنها الشعر البدوي رغم أصوله النبطية.

إن الحديث عن التركيبة الاجتماعية لساكنة شمال إفريقية، يستلزم عدة مقاربات، أولاها التاريخية على مستوى الأصول، ثم الشعوب التي توافدت على الشمال الإفريقي على امتداد فترات بعيدة. هذا القول يحيلنا من جهة ثانية إلى ضرورة البحث في الخصوصية الثقافية لساكنة هذه المنطقة من القديم إلى الراهن، بمعنى لا بد من دراسة العناصر البنيوية المكونة لها، بداية من الأسرة إلى القبيلة، كي يتسنى للباحث دراسة الدينامية السكانية. فالانتماء للأسرة والقبيلة هو الكامن وراء عملية الإنتاج الثقافية، من عادات وتقاليد وغيرها، تلك التي تشكل المشترك بين أفراد الجماعة، وهي التي نسميها ثقافة شعبية تنتسب لجماعة لا للأفراد، تتناقلها الأجيال مع كل ما يشوبها من تحريف لتصبح موروثا جماعيا ذو بعد محلي وآخر إنسانية. لهذا فالثقافة بمختلف مكوناتها تتوزع بين الماضي والحاضر، لأن طبيعة المجتمع تقتضي التحول، فالعديد من التقاليد والأعراف والعادات قد تبدلت أو انقرضت، كما هو الشأن على المستوى الفكري والفني والإبداعي، هناك تبدل وتغير، لهذا نحتاج لعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس وغيرها لدراسة ثقافة مجتمع ما. لابد إذن من ربط الماضي بالحاضر، فتتجدد العادات والتقاليد مع كل جيل عبر أنماط جديد وفق عملية التطور بما لها وما عليها. لهذا نعتقد أن الأسرة أو العائلة والقبيلة هما الموكول إليهما المحافظة على استمرار ما أنتجته الجماعة من تقاليد وعادات وأعراف وطقوس ورموز ونمط عيش، وفنون وصناعات … أي كل ما أنتجه الوجدان الشعبي انطلاقا من معاشه اليومي. لكن لابد من القول إن الناس اليوم لا يتمسكون بكل زخم العادات والتقاليد المتوارثة، بسبب التحول الذي يشهده المجتمع، ثم الثقافات الدخيلة بفعل العولمة حيث تبدت الازدواجية في الثقافة، وتراجع دور العائلة والقبيلة، رغم كون هذه المجتمعات، الشمال إفريقية، تبقى بنيتها الاجتماعية قبلية.

انطلاقا مما سبق، نتساءل إن كان سؤال التقاطب والصراع بين الثقافات المتناثرة بين بلدان شمال إفريقيا قائما؟ نصر هنا على تسمية “شمال إفريقيا” لأن الذي صنع وضعها الحالي هو الاستعمار الذي اغتصب المنطقة وخلق تحولا عميقا في تاريخها، ولا يزال، فهو الذي نصب الحدود وعمد إلى تجزيئ ترابها وتفرقة أهلها، وخلق نزاعات وبؤر توتر لن تنمحي.

لهذا يجب أن نتعامل مع موضع العادات والتقاليد بكثير من الموضوعية وفق التطورات التي يشهدها العصر، ونتساءل، هل ستستمر هذه التقاليد الموروثة مع الأجيال القادمة؟ نحن أمام سؤال إشكالي لا نقصد من ورائه أن ثقافة هذا الشعب آيلة لانقراض، لكن للتراجع مقابل إصرار الكثير من العائلات وحتى القبائل على استمرار الكثير من هذه العادات، من خلال الأعياد والأعراس، والعزاء، والمناسبات الاحتفالية التي تكون فرصة لاستعراض العديد من الموروث الشعبي أمازيغي وعربي، ومنه الشعر البدوي الذي يتم تقديمه على شكل أمداح، أو سيرة ذاتية، أو أعراس، ومولد نبوي، أعياد …، وهي مناسبات ثابتة يتمسك بها أفراد المجتمع(20).

ثم هناك ثقافة أخرى وافدة على شمال إفريقيا هي الثقافة الموريسكية، وهي ثقافة أندلسية جاءت تبحث لها عن موطن جديد بع أن ضيعت الأندلس الحضارة الإسلامية التي امتدت لثمانية قرون، فمنهم من استوطن بالبادية واحتل أراضي أهلها وزاحموهم في استغلالها، ومنهم من استوطن الحواضر، ومنهم كان أهل أدب من وزراء وكتاب، وعمال، وجباة، وأصبحوا يديرون شؤون المملكة، وصناع … المهم أنهم أوجدوا لأنفسهم أرضا تنسيهم ما عاشوه بالأندلس من بذخ حتى سقطت في أيدي الممالك المسيحية، وتعوض ما ضاع منهم على حساب أهل المغرب، ولو أن بعض المؤرخين جانبوا الموضوعية كثيرا، فمنهم من حسب طرد المورسكيين من الأندلس بلاء مقدرا وجعل منهم جمهورا جاء لبلدان إفريقية لتوعية وتحسين ظروف عيش أهل البلد، أمثال محمد المانوني في “ورقات من حضارة المرينيين”، أحمد بن محمد المقري التلمساني في “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، كتابات غير موضوعية تفتقد إلى كثير من المصداقة.

الأدب الشعبي: الثقافة الشعبية

تحمل الثقافة مفهوم واسعا، فهي نمط حياة شعب ما، أو هي كل ما تقوم عليه حياة الشعوب، من عادات وتقاليد، ولباس وطعام، ورموز، وطقوس … بمعنى أنها تعكس الحياة الاجتماعية وأساليب الحياة على جميع المستويات، بما فيها السلوك الاجتماعي ثم يتسع مفهوم الثقافة لما تبدعه يد الإنسان وفكره، من علوم وفنون وآداب، أي ما يتعلق بالفعل الحضاري. لهذا نجد أنسفنا مشدودين للماضي لما يزخر به من تراث مادي ولامادي. هذا ولو أن للثقافة مفهوما ضيقا نخبويا يعني تلك الفئة المثقفة التي تمتلك المعرفة في مجالات مختلفة، أي أنها تقوم على ما راكمه الفرد من معلومات ورصيد معرفي، وكذا على مستوى الإبداع في مجالات الفنون والآداب والمسرح والسينما وغيرها. أما في البعد الواسع، فهي ′′تعني أسلوب الحياة الذي ينتجه أعضاء مجتمع ما أو جماعات ما داخل المجتمع. وهي تشمل على هذا الأساس أسلوب ارتداء الملابس، وتقاليد الزواج، وأنماط الحياة العائلية، والاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى وسائل الترفيه والترويح عن النفس(21).

يمكن اعتبار الثقافة الشعبية نتاج مجتمع وقاسما مشتركا بين أفراده، وهي تحمل علامات هوية هذا المجتمع وخصوصياته ومعاناته وأفراحه وتلاحمه وتطلعاته .. وتقابلها الثقافة السياسية التي تنتجها النخبة السياسية Elites، بالمفهوم السوسيولوجي للكلمة، فهي تكتب تاريخها وترغم الآخر على تقبله وتحرمه من البوح بعذاباته ومعاناته، لكن ذلك لن يجدي نفعا ما دامت الثقافة الشعبية منتوج كل هذا الحراك .. والثقافة الشعبية تاريخ غير مكتوب ينتجه المجتمع ذاته، أفرادا أو جماعات، فلا يمكن نسبته لشخص بعينه، لأنه منتوج جماعي يتم تداوله على شكل قصص وحكايات وحجايات ونكت وحكم ومواعظ وطقوس وتقاليد ورموز .. فتصبح بذلك الثقافة الشعبية تراثا محفوظا في الذاكرة ينتقل من جيل لآخر، وهنا تكمن قوته. ومن عناصر قوة الثقافة الشعبية، أيضا، قوة انتشارها، وتتيح استعمالها بأشكال متعددة تحتفظ بالجوهر وتخضع للإضافات أو الحذف لكنها تستمر وتمتد عبر الزمن، وهي بذلك سجل تاريخي للوقائع والأحداث من أفراح وأتراح يمر بها المجتمع(22).

أما الثقافة الشعبية فهي كل ما تنتجه وتزخر به الذاكرة الشعبية من أقوال وحكم، وأشعار وأغاني، وقصص، ورقصات، ونكت، وطقوس، وعادات … جميعها من إبداع الجماعة، أي لا يمكن نسبتها لفرد بعينه بقدر ما هي في ملكية الشعب الذي أنتجها، وهذا المنتوج يختلف من شعب لآخر، وقد نجد تشابها بين هذا المنتوج وذاك تأكيدا للعمق الإنساني بين الشعوب. يبرز هذا التعريف العناصر اللامادية لحياة الناس في جماعة، كالأخلاق.

أما في مفهومها الكوني، فيتداخل مفهومها مع مفهوم الحضارة، بالمفهوم الأنثروبولوجي، كما أورده المفكر البريطاني Tylor Burnett Edward، حيث يتسع معناها ليشمل المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والعادات، وجميع القدرات التي يكسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع(23).

هكذا تتعدد الثقافات حسب الشعوب، إذ لكل جماعة شعبية ثقافتها، وهذا لا يمنع تناقل وتثاقف شعوب الأرض فيما بينها. فمن خاصياتها الأساس، أنها لا تعبر عن خصوصيات الفرد وإنما عن شعب بكامله، إذ تحدد هوية الجماعة الشعبية وانتمائها.

يتوجب أيضا الحديث عن علاقة الثقافة الشعبية بالفلكلور، إذ يشكل هذا الأخير أحد مكوناتها ما دام منتوجا شعبيا، لكن دون أن يطغى على مفهوم الثقافة الشعبية الذي يعد شموليا. لكن نتساءل هنا عن تبعية الثقافة الشعبية أو استقلاليتها، فهي تتعرض للتحريف والاستغلال السياسي والهيمنة الأيديولوجية من طرف النخبة السائدة، هذا يجعل مفهوم الفلكلور يحضر على حسابها ويقفز عليها، بسبب ما تمتلكه النخبة من وسائل وسلطة تجعلها تسخر الثقافة الشعبية وفق هواها ومصالحها.

      هناك من الباحثين من يجعل مفهوم الثقافة الشعبية غير مخالف لمفهوم الفلكلور، باعتبار أن الثقافة الشعبية هي ذلك الموروث الثقافي الذي يتجلى في تعدد أشكال التعبير، إلا أننا نخالف هذا الرأي لأن المظاهر الفلكلورية ما هي إلا جزء من الثقافة الشعبية التي تحتضن جميع الألوان الثقافية التي ينتجها المجتمع وتختزنها الذاكرة الجماعية، فتتمظهر في المعتقدات والعادات والطقوس والممارسات اليومية على شكل موروث سردي، وشعري، وحكايات، وخرافات، وحجايات، وحكم، وأمثال، وما إلى ذلك من فنون التعبير.

إنه بالنظر إلى الثقافة الشعبية المغربية نرى أنه لابد من الوقوف عند الثقافة الأمازيغية باعتبارها أصل الثقافة الشعبية لبلدان شمال إفريقيا، سوف نجد أنها تزخر بموروث جماعي شعبي كبير راكمته عبر قورن خلت، انضافت إليه الثقافات الأخرى للأمم الوافدة على هذه البلاد، إذ حملت إليها ثقافات أخرى، إفريقية وأوروبية وعربية وإسلامية، فكان بديهيا أن تتلاقح وتمتزج كل هذه الثقافات على أرض البلدان المغاربية لتبدع ثقافة متنوعة ومتعددة. لهذا فالثقافة الشعبية هي التي تعطي تلك الخصوصية لكل أمة، ولك جماعة شعبية. ومن عناصر الثقافة الشعبية، الأدب الشعبي الشفهي، والمنتوج المادي من بنايات، ومنسوجات، وخزف، ووسائل للطبخ، والحرث، وألبسة، ووشم، ووسائل للزينة، ولا مادية من أشعار، وسرد، ورقص، وغناء، وأمثال، ومشاهد فرجوية … وتتميز هذه الثقافة اللامادية كونها تنتشر بسرعة بين أفراد الجماعة الشعبية لأنها شفهية، سهلة التركيب والاستيعاب، متميزة بقدرتها على التكثيف والمجاز واختزان الصور، وإنتاج خطاب يعبر عن الواقع البشري وتلامس قضايا هذه الجماعة، فالثقافة الشعبية بهذا المعنى مخالفة للثقافة الرسمية، أو ثقافة النخبة(24).

تم تداول مصطلح الثقافة الشعبية خلال القرن 19م، وقد ارتبطت بالطبقات الاجتماعية الدنيا التي لم تنل حظا من التعليم، عكس الطبقات الميسورة ذات المستوى المعرفي العالي، الشيء الذي نجم عنه تباين، إن لم نقل اختلاف، بين الثقافتين، الشعبية والرسمية، وكذا ما شهده العالم من حروب – الحرب العالمية الثانية بالخصوص – نجم عن هذا الوضع تغييرات ثقافية واجتماعية كبرى، وكذا ابتكار وسائل الاتصال والإعلام، الشيء الذي أسهم في انتشار هذه الثقافة. فالثقافة الشعبية لها سلطة تجذب الجمهور(25).

لكن، في اعتقادنا، إن الثقافة الشعبية بمفهومها الواسع لا ترتبط بشعب بذاته، أو بالأحرى بزمان ومكان محددين، لأنها ببساطة نشأت مع البشرية منذ تعميرها الأرض، واكتشاف البيئة، والصراعات حول المال والسلطة، والتأمل في الكون، والموت، والوجود، والإنسان، والخلق … فكان بديهيا أن يبحث فيما حوله وما وراء الطبيعية ليستلهم المعاني، والصور، والمعجزات، والخوارق، والعجائبي، والنكت، والنوادر … ثم التعبير عنها بشتى الوسائل والأشكال، رقص وموسيقى وسرد، وطقوس، وشعر. ومع توالي العصور تتعرض هذه الثقافة الشعبية للتحريف، بمعنى التطوير، ليزيد الاهتمام بها مع انتشار وسائل التواصل والاتصال، وكذا بروز عدد من المهتمين بجمع المادة التراثية لإنقاذها من الضياع.

الفلكلور إذن، هو جزء، أو مصدر من مصادر الثقافة الشعبية، وهو الأكثر انتشارا، يتجدد ويلقى إقبالا لما يقدمه من فرجة ومتعة للجماعة الشعبية، وللنخبة أيضا، هذه الأخيرة يمكن أن تمارس عليه، وعلى الثقافة الشعبية ككل، نوعا من الاستغلال كمشروع سياحي استثماري، لأنها تمتلك الإعلام ومراكز القرار، من أجل التحكم في المجتمع، الشيء الذي يعمل على تشويه إبداع الثقافة الشعبية وجعلها مجرد مادة فرجوية بخسة، خاصة ما يشهده العالم اليوم من تحولات الحداثة والعولمة.  

تتميز حاضرة وجدة ومدن من جهة الشرق، بوجود فضاءات تستقطب شعراء ومشايخ الغناء والشعر البدوي، منها “الحلقة”، شأن عدد من المدن المغربية، وهي فضاء شعبي بامتياز، فتجد إقبالا واسعة للاستمتاع بالمغنى البدوي، وتتفرد جهة الشرق والغرب الجزائري بهذا اللون الشعري دون غيرها من بلاد المغرب، منها فضاء ساحة باب سيدي عبد الوهاب بوجدة عند أسوار المدينة القديمة للتوكيد على ثراء الذاكرة الشعبية واتصال الماضي بالحاضر، من خلال الغناء والحكي.

يقتضي الخوض في مضمار الثقافة الشعبية تناول عدد من الجوانب التي طالت حياة ساكنة هذه البلاد، منها الثقافة الدينية التي تتبدى من خلال مظاهر منها الشعائر الدينية كالصلاة، والصوم، والسماع، والذكر، وزيارة الأولياء والأضرحة، هذه الأخيرة التي تعرف انتشارا واسعا، حيث ذكر كرامات الأولياء لدرجة الخرافة والأسطورة والخوارق، التي خلقت ثقافة تستهوي عامة الشعب وتؤثر في حياتهم وتوجهها نحو الجهل بقيمة الأشياء، إذ لا علاقة لكل تلك الطقوس والممارسات بتعاليم الدين الإسلامي، وتكريس الفكر الغيبي بغرض استغلال فئات واسعة من أفراد الجماعة، إذ تخترق الأسرة والمجتمع. ثم الطب الشعبي والتداوي بالأعشاب، وتعليق التمائم، واستجداء الأولياء لقضاء العديد من حوائج الدنيا، واتقاء شر الحسد والعين ومس الجن. ومكمن الاستغراب أن يجد الناس، عن جهل، تبريرا لكل هذه المعتقدات كونها تمت للعقيدة الإسلامية، فتنتشر الزوايا التي تحظى بدعم من الدولة والجماعة حيث كثرة المريدين، وإنزال شيوخها مراتب تكاد ترقى للتقديس، وفي ذلك تشبه بسلوك الأنبياء والرسل. كل هذه العادات يعكسها الشعر البدوي في قصائده، خاصة التي تخص الأمداح الدينية.

البداوة ظاهرة اجتماعية وجغرافية. أما عن طبائع البدو فهي الجود والكرم والشجاعة، ومن الطبائع السلبية سرعة الغضب والرضا(26). الحديث عن البداوة هو في الأصل حديث عن شبه الجزيرة العربية واليمن، إلى قبيلتي بني هلال وسليم والعديد من القبائل الأخرى حسب العشيرة والبطون وامتداد النسب لكل تلك القبائل التي عمرت البادية العربية، وبعدها انتشرت في سائر البلاد من الخليج العربي إلى المحيط. الحديث عن البادية يقابله تقاليد أهل المدن على مستوى العادات والتقاليد والثقافة. فأهل البادية يصرون على بداوتهم والحفاظ عليها رغم ما يشهده توالي العصور من تطور وتبدل في أحوال الناس، فللبدو عاداتهم في الخطبة والزواج، والمرأة، وولعهم بالقنص والصحراء والخيول، والإبل. ولهم من العادات ما لا يتسع المجال لذكره على مستوى السكن بالخيمة وطريقة بنائها، ثم الأثاث الذي يستعملونه، وارتحالهم من أجل الماء والكلأ، والسفر، ثم النخوة والدود عن الأهل والقبيلة، وإكرام الضيف والذبائح، ثم التشبث بالبادية، شأن البدوي في ذلك كالسمكة التي تموت إن فارقت الماء. فالبدوي يشعر بالهناء والأمان داخل خيمته التي لا يمكن أن يستبدلها بقصر فاخر، ومن المآخذ تاريخيا على العرب أنهم أهل سلب ونهب، يغيرون على الآخرين، من قبائل وحضر، وقوافل تجارية، الشيء الذي تولد عنه حذر بلغ حد الحقد على هذه الفئة من العرب.

يجب التمييز بين البادية والريف، لأن الريف خضرة وفلاحة وجبال. أما البادية فصحراء وكثبان رملية، وقساوة في العيش وشظف، وقلة ماء ونبات. لهذا فسكانها رحل. والبادية في المغرب، بهذا المفهوم، تمتد جهة جنوبه الشرقي. وقد استوطنت بهذه المناطق قبائل أمازيغية لا تزال قائمة إلى الزمن الراهن، منها قبائل أمازيغية مستعربة، لكن أسماءها لا زالت تشي بأصولها، منها، آيث لحسن، إيزركيين، وتيدرارين، وتاوبالت، وغيرها. فالصحراء هي موطن صنهاجة الذين أسسوا لدولة مترامية الأطراف هي الدولة المرابطية. والطوارق الذين لازالوا يحافظون على هويتهم الأمازيغية الخالصة. ثم القبائل العربية من هلال وسليم، والتي حملت معها عاداتها من اليمن وشبه الجزية العربية، فكان طبيعيا أن تتفاعل وتؤثر وتتأثر، مع القبائل الأمازيغية، بفضل العقيدة والزواج.

الشاعر هنا له مهمة ليست للترف وإنما هو دور يجب أن يضطلع به في حياة الجماعة باعتبار ان الشعر ضرورة جمالية لحياة الناس، يعبر عن انشغالاتهم وعن عواطفهم ومشاعرهم وتطلعاتهم. رسالة الشعر هذه يجب أن ترقى لمستوى اجتماعي عميق، ذي بعد فلسفي يلامس عددا من القضايا والإشكالات التي تخص الإنسان من حيث الكينونة والوجود. الشاعر المبدع هو من يعي ويدرك هذا التوجه القيمي والإنساني. بمعنى ارتكاز الشعر على القيمة الأخلاقية. ونحن إذ نؤكد على هذا كله فلأن الشعر العامي أو البدوي هو بلسان عامة الناس ولغتهم، يساهمون في إنتاجه ويتغنون به، وبالتالي فمهمة الشعر هي تعميق الوعي لدى الفئات الشعبية، في المقابل نجد عددا كبيرا من الشعراء، سواء الفصيح أو العامي، يزيغون عن التوجه الأخلاقي والالتزام بقضايا الجماعة من أجل المديح والتملق والارتزاق. يتوجب على الشاعر “أن تكون له معرفة بنعوت الأشياء التي من شأن الشاعر أن يتعرض لوصفها، ولمعرفة مجاري أمور الدنيا وأنحاء تصرف الأزمنة والأحوال، وأن تكون له قوة ملاحظة لما يناسب الأشياء والقضايا الواقعة من أشياء أخرى تشبهها، وقضايا كتقدمة التي تشبه التي في الحال”(27). ومقياس ذلك استجابة المتلقي، لأن نتيجة العمل أي عمل إبداعي تتجلى في مدى استجابة الجمهور لها. إن النفوس يحركها الشعر الجيد. “أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه لما أسلبها من هزة الارتياح لحسن المحاكاة. هكذا كان اعتقاد العرب في الشعر. فكم من خطيب عظيم هونه عندهم بيت، وكم من خطيب هين عظمه بيت آخر. ولهذا ما كانت ملوكهم ترفع أقدار الشعراء المحسنين وتحسن مكافأتهم على إحسانهم”(28).

إذا كانت الثقافة هي نمط عيش وأسلوب للحياة، فلا بأس من الوقوف عند طبيعة حياة هؤلاء البدو الذين منهم الشعراء ومنهم البيئة البدوية التي أنجبتهم وبها ظهر الشعر البدوي.

البدو هم سكان الصحراء من المجموعات العربية، تعاطوا للرعي والنجعة، رعي الإبل والشاة، ثم انتشروا في فيف الجزية العربية وشمال إفريقيا ومصر وغيرها من البلدان العربية. أما عن بنية الجماعة البدوية في قبلية وأبوية Patriarcale، لها زعيم، تقدس الانتماء للقبيلة والعائلة، المسنون هم حكماؤها، والشباب هم المدافعون عنها. من الخصائص التي تميزها، كونها مجتمعا بسيطا، “صغير الحجم، والعزلة النسبية، والتشابه والإحساس الشديد بالانتماء، وعدم معرفة القراءة والكتابة، وعدم التخصص الدقيق أو تقسيم العمل، وسلوك اجتماعي نمطي ومتشابه ويتميز بأنه تقليدي، تلقائي، شخصي، مجتمع عائلي يحدد النسق القرابي السلوك الاجتماعي للفرد وللجماعة، تكثر في هذا المجتمع المسائل الخاصة بالسحر والشعوذة”(29). هذه الثقافة البدوية هي التي هيمنت على شبه الجزية العربية قبل الإسلام في المجتمع الجاهلي، حيث العلاقات العشائرية والعائلية، وشظف العيش، والارتحال من أجل البحث عن الماء والمراعي، لأن الإبل والماشية ظلت توفر لهم الحليب واللحم والصوف والجلود، فكان كل واحد من أفراد القبيلة متشبع بأعرافها وعاداتها، فيعرف تماما الدور الذي يجب ان يضلع به، كما كان للشاعر دورا بارز وسط هذا المجتمع. القبيلة هي الحصن الذي يتحصن فيه الجميع، وأي اعتداء على أحد أفرادها هو اعتداء على القبيلة برمتها، حيث تنهض عن بكرة أبيها للدود عن دمها وعرضها وممتلكاتها، ومن القبائل من تغير على جيرانها من أجل النهب والسبي، أو تقطع الطرق على القوافل التجارية، أو تحرسها، لأن التجارة لأهل الحضر. الكثير من هذه القبائل اعتنقت الإسلام فغير من طباعها.

أما الآن وقد انتشر هؤلاء البدو في عدد كبير من البلدان، منها شمال إفريقيا، وهم يمثلون أقلية بها، وقد تأقلموا مع الظروف الطبيعية والاقتصادية والسياسية بها. هذا النمط من العيش لابد وأن ترافقه فسحة للفرح وأخرى للحن وفق طقوس تنتجها الجماعة وتمارسها عادات وتقاليد لتصبح جزء من ثقافتها المتوارثة عبر الأجيال. هؤلاء البدو ألفوا خشونة العيش وتعلقوا بالصحراء، فهم يحملون فضاءاتهم وعاداتهم والقبيلة في دمهم وفكرهم. الشعر وسيلة للتعبير عما يخالجهم من مشاعر الشوق والحزن، عند الرعي والنجعة، والسفر، ووصف رحلات القنص أو الغارات، او البكاء على الطلل والحبيب، أو الفخر والرثاء.

 استقر هؤلاء البدو في سهوب سوريا منذ حوالي 6 آلاف سنة ق.م، ثم أنشأوا مستوطنات هناك(30). كانوا يعترضون طريق القوافل التجارية ويفرضون الضرائب، ويجمعون الجزية من التجمعات غير البدوية، وعاشوا في حركة مستمرة(31). هذا وقد اتخذ البدو عددا من الأسماء، منها، أهل الوبر، والرحل، ثم الأعراب لأنهم جاوروا الحواضر واحتكوا بأهلها من العرب. وفيهم ورد قوله تعالى: ” يَحْسَبُونَ ٱلْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ ۖ وَإِن يَأْتِ ٱلْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى ٱلْأَعْرَابِ يَسْـَٔلُونَ عَنْ أَنۢبَآئِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰاتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلاً” (الأحزاب – 20)، ثم قوله تعالى: “ٱلْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة – 97)، ثم في آيات أخرى، منها، “وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة) التوبة -101)، “قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا” )الحجرات – 14)، “سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا”) الفتح – 11). ثم إن هؤلاء البدو كانوا أكثر اتقانا للسان العربي من غيرهم، وأشد حرصا على المحافظة على صفاء اللغة العربية رغم اختلاف اللهجات، حيث أجمعوا على نطق كلمات بعينها(32). كما أنه لا يحب إنكار ما لهؤلاء البدو من خصال حميدة، ومقابل هذه السجايا الطيبة كان يسود بينهم، كأي جماعة بشرية، ربما هم أكثر، أخلاق عير حميدة، ربما لنمط حياتهم الخشنة، منها الحسد والشتيمة، والغلظة، والجفاء، والهجاء، والإصرار على الثأر، لدرجة اجتمعت فيهم صفات النبل والقبح معا، وفي اعتقادنا أن هذا التناقض في السلوك إنما يدعو للريبة وعدم ائتمانهم والوثوق فيهم. وليس هناك أبشع من وأدهم لبناتهم حتى جاء الإسلام. ناهيك عن حرمان المرأة من الميراث، والعصبية القبلية، وهذا ما يفسر صفات النهب والسبي واعتراض القوافل التجارية وقوافل الحجاج. إنه تاريخ ولى، ولو أنه استمر حتى بعد مجيء الدين الجديد، دين الإسلام والتطور الذي شهدته المجتمعات البشرية.

أما في الزمن الراهن فقد أضحى من نافلة القول الخوض في هذه الثقافة التي سادت في زمن ما، حيث تضاءلت لدرجة الاضمحلال بسب التحول الذي تشهده المجموعات البشرية، ثم بسبب العولمة المتوحشة التي أتت على الثقافات وتسربت داخلها فبدلتها ونخرتها وجعلتها تتلاشى ولم يتبق منها سوى آثار غير بادية. لهذا نجد انكباب العديد من الباحثين على جمع شتات هذه الثقافات باعتبارها منتوجا إنسانيا، ليبقى هذا التحصين عزاء كل ثقافة اندثرت أو هي في طريق الانقراض. والمغرب جزء من هذا النظام العالمي الجديد بما له وما عليه. فأين نحن من البادية الآن؟؟ وأين هي عادات وتقاليد أهل البادية أمام توسع مجال المدن؟ إننا أمام خطر مداهم يقضي على العرف والتقاليد والثقافة الشعبية برمتها، بما فيها الأسواق التي كانت تمثل ملتقى أسبوعيا للتداول والتعارف والمقاومة والتزاوج والتجارة.

مفهوم الأدب الشعبي وعناصره

الأدب الشعبي جزء من التراث الشعبي، الذي هو ذلك المشترك بين الجماعة بمفهومها الشعبي، فهو يرقى لمستوى الأدب لأنه تحكمه ضوابط فنية وجمالية، وإلا سيكون مجرد كلام عادي تقريري، بمعنى أن المتلقي لهذا الأدب يتذوقه لأن به جمالا، ويشعر أنه ينتمي إليه، فالجماعة هي التي تتداوله، لأن الجماعة هي الركن الأساس في هذه العملية الإبداعية، يصدر عنها وإليها. هكذا فالأدب الشعبي بهذا المعنى هو عكس الأدب الفردي الذي يصدر عن مبدعين للبوح والتعبير عن ذواتهم ووجدانهم ورؤياهم للإنسان وللعالم. فالشعبي هنا لا يعني أن الإنتاج يكون جماعيا، لكن مبادرة الفرد داخل الجماعة، وهو بذلك يتكلم بلسان الزمرة للتعبير عن فرح أو حزن، أو عن قضية ما لا تخص فردا وإنما تهم جماعة، لهذا نجد المنتوج الأدبي يلقى ترحيبا وتداولا وحفظا في الذاكرة الجماعية، لأنه يعني الجماعة وليس الفرد. ثم إن ما يميز هذا الإبداع الأدبي كونه يتعرض لعدد من التغييرات حين تداوله أو انتقاله من جيل لجيل، لهذا نجد النصوص الأولى مختلفة أو معدلة عند مقارنتها بالنصوص التي تداولتها الأجيال عبر عقود طويلة، محتفظة بالمعنى، فقط هي الصور التي تتغير، وهذا لا ينقص من قيمتها بل يزيدها جمالا وكأنها تعرضت للتنقيح والمعالجة للتعبير عن قضايا الجماعة ورؤاها، لأنها تبلور القيم المجتمعية، وتبدو قيمة الأدب الشعبي أيضا في شفهيته حيث لا يتم تدوينه، بل يتم حفظه في صدور أفراد الجماعة وتداوله، لهذا نجده حمالا للعديد من الخصوصيات، كالتشبيه والحكي والتكرار. فالنص الشفوي مختلف عن النص المكتوب، لأن هذا الأخير يتوخى الانضباط للقواعد اللغوية والتراكيب والنحو، عكس النص الشفوي الذي ينسج بحرية وعفوية، معتمدا التصوير والوصف، والتلميح، وهذه المقومات لا تنقص من أدبيته بقدر ما تجعله متميزا يدعو للبحث والدرس، لأنه جزء من الموروث الشعبي الذي هو سجل الذاكرة الشعبية الإبداعية، حيث يقرب الحقب الزمنية البعيدة ويشدنا للماضي البعيد بمختلف وقائعه لربطه بالحاضر، وكأن التجارب الإنسانية تتكرر، كما أنه يتميز بغزارة الإنتاج. إن الأدب الشعبي بهذا المفهوم هو بمثابة ملحمة شعبية تحكي عن ذاكرة جماعية لا تنمحي.

أورد الجاحظ حديثا عن الإنتاج الأدبي الشعبي الذي ينتسب للطبقة الشعبية البسيطة، من طرائف، ونوادر، وأخبار الحمقى والمغفلين والمجانين … ما دام الشعب موجودا فلابد أن ينتج ثقافة ويبدع، والشعر الشعبي جزء من هذا الإبداع ومن الثقافة ككل. ينتج أدبا يضمنه تصاريف حياته، من أفراح وأتراح، وما تزخر به حياته من تقاليد وعادات ومعتقدات، فيترجمها عبر أزجال وحكايات، حيث يقوم الشعر الشعبي على خاصية الاختصار في التعبير، والعلاقة بين الألفاظ تقوم على الشعور وليس القواعد النحوية(33). إضافة إلى خصائص أخرى منها القدرة على الارتجال والإنشاء الشفهي والاعتماد على الذاكرة الفردية للشاعر أو الجماعية في سياقها الوجودي.

لابد من التوكيد على أن دراسة الأدب الشعبي في حاجة لسياق عام هو الثقافة الشعبية، إذ لابد من استحضار عدد من العلوم منها السوسيولوجيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا … لأن الأدب الشعبي حصيلة تجربة إنسانية، نبغت داخل مجتمع لا يعتمد القراءة والكتابة وسيلة للتعبير، وبالتالي فهو يقوم على الرواية الشفوية، الشيء الذي يعني أنه دائم التحول والتغير، لكن يبقى موجودا ومستمرا، لأن الجماعة التي انتجته تعتبره جزء من كينونتها تتوارثه الأجيال. ثم إنه من دواعي استمرار الأدب الشعبي، ومنه الشعر، كونه يعبر عن حاجيات الجماعة التي أنتجته، هذا الذي يبقيه حيا في ذاكرة الناس.

عندما نتناول هذا الشعر، أي الشعبي الشفوي فلابد من تناوله بالدرس في إطار خاص به، بمعنى باعتباره منتوجا شفهيا وليس مكتوبا، إذ لكل منهما خصوصياته، فالشفهي لا يراعي فيه الشاعر عددا من قواعد النظم، خاصة على مستوى طبيعة الخطاب والتفكير والجماليات الفنية، لأن قوة الشعر البدوي العامي في شفويته. الخطاب الشفوي منتوج شفوي ولا يمكن أن يزيغ عن هذه الخاصية، وإلا سيفقد تميزه، إذ يتوجب تدوين لحفظه من الضياع. فالتلقي الكتابي يختلف عن التلقي الشفهي، حيث يصبح هذا الأخير ذهنيا. فالخطاب الشفهي سابق في الوجود عن الكتابة التي ولدت نمط تفكير مختلف باعتبارها جزء من الثقافة الإنسانية. هكذا فدراسة الشعر البدوي في حاجة لمناهج تقوم على السوسيولوجي والأنثروبولوجي. فالشفهية عند الشاعر البدوي لا تعني جهله بأصول الكتابة، وإنما هو يكتب عن سليقة كما كان في الزمن الماضي. يتفاعل مع محيطه ومع ما يمر به في سيرة حياته، فتجود قريحته شعرا، الأمر يتعلق بقيمة ما ينظم، هل له قيمة جمالية فنية، أو هو في عداد الرداءة. لابد إذن من تناول الشعر الشفهي، البدوي بالخصوص دون مقارنته بما هو مكتوب، أي عدم اعتماد التقابل. “وبرغم الجذور الشفاهية لأي تعبير بالكلمـات فـقـد شـردت الدراسة العلمية والأدبية للغة والأدب لقرون خلت بعيدا عن الشفاهية. وقد ظلت النصوص المكتوبة تلح على اهتمام الباحثين بصورة جعلتهم بشكل عام ينظرون إلى الإبداعات الشفاهية بوصفها تابعة للإنتاج المكتوب، أو إن لـم تكن كذلك، فبوصفها غير جديرة بالاهتمام البحثي الجاد”(34).

لقد حظي الشعر الشعبي بانتشار واسع بين الناس لأنه منتوج شفهي متداول تتذوقه العامة بلغته البسيطة دون تكليف، والبدوي منه أكثر انتشارا لكون جله مغنى يقوم على السماع والإنشاد، فينتقل بين الألسن ويتم حفظه بسهولة، حيث يتردد في المناسبات، ثم إنه يحمل ثقافة الجماعة التي أنتجته. وبالتالي عمل الشعر البدوي، شأن الشعر العربي عامة، على خلق ذوق فني وإذكاء الروح الجمالية بين فئات الجماعة متوجها نحو البعد الإنساني. لهذا نرى أنه لابد من اعتماد نظيرة تؤطر هذا المنتوج الأدبي الشفهي، وهي التي جاء بها والتر أونج والمسماة “الشفاهية والكتابية”، ومؤسسيها، باري، وهافلوك، … وغيرهم ممن اشتغل على هذ المنهج.

لابد من الإقرار بأنه رغم التقدم العلمي والتطور الذي تشهده المجتمعات في الزمن الراهن، لا يمكن الاستغناء عن المشافهة بما فيها الشعر، والشعر الشعبي البدوي يؤكد هذا الزعم إلى جانب الألوان الشعبية الأخرى، من حجاية وحكاية وأقول مأثورة ونكت وطرائف … ف”التعبير الشفاهي يمكن أن يوجد، بل وجد في معظم الأحيـان، مـن دون أي كتابة على الإطلاق، أما الكتابة فلم توجد قط دون شفاهية”(35). نتساءل هنا، هل الشفاهية تطور اللغة؟ الجواب إن الأمر يحتاج لدراسة لسانية واقتفاء أثر المنتوج الشفهي. فالحقيقة التي لا يمكن الاستغناء عنها كون الشعر الشفهي، ومنه البدوي، يشد إليه المتلقي بصدقه وعدم تصنعه، ثم انفعاله، “فبين الشاعر ومستمعيه يسيطر نوع من التوحد symbiose (36). كما أن الشفهية لا تخلو من سلبيات، نرى أنه الشعر الشفهي الشعبي، وليد لحظة، ويتم تلقيه خلال لحظة، وبالتالي فهو لا يتيح فسحة التأمل والتدبر.

ينبع الأدب الشعبي من الوعي واللاشعور الجمعي، متمثلا في الشعر الشعبي والأساطير والخرافات والألغاز. ثم الفلكلور أي تلك الممارسات الشعبية منها الرقص والألعاب الشعبية، والتمثيل. فدراسة أي مجتمع تستلزم الاطلاع الواسع على المؤثرات الشعبية، من حكايات وأشعار، وغيرها، لأن لها علاقة وطيدة بحياة الإنسان، فهي مصدر معلومات وخزان لها، ووعاء للقيم الاجتماعية، ناهيك عن المتعة التي تحققها صنوف الأدب الشعبي، وتفريغ للآلام البشرية من حيل لجيل حيث تمثل إيديولوجية المجتمع الذي أنتجها(37).

يقوم الأدب الشعبي على مجموعة من الآليات التي تميزه عن الدب المكتوب، منها التكرار حيث تتشابه مشاهد الرحلات والبطولات والوصف في العديد من النصوص. ثم على مستوى الاستعانة بعدد من الصيغ المتداولة، والتي هي شعبية يأخذها الشاعر ويدمجها في نصوصه، مثل الصلاة على النبي، وبعض الحكم، مثل الصمت حكمة، حسب ثيمات النص الأدبي، شعرا كان أو سردا. ثم آلية الارتجال التي يبرع فيها الشعراء البدويون، او الشعبيون عامة، إذ ينظم أو يقول حكما أو حكايات أو أدعية بشكل يدل على قيمة أدبية وتمكن من الصنعة. أضف إلى هذا كله التعامل مع البيئة المحيطة، حيث الأدب الشعبي يأتي موسوما بقضايا مجتمعه وبيئته، من عادات وتقاليد وطقوس وخرافة وأسطورة، لدرجة يمتزج فيها الخيال بالواقع لتضفي جمالا على المنتوج الأدبي الشعبي يحفز الجمهور على تلقي هذا المنتوج.

يمكن أن الأدب الشعبي، وهذا اجتهاد شخصي، لصيق بجماعة محددة أفرادها، بمعنى الأقلية، أو المجتمع المنغلق على ذاته الذي لا يسمح بالمساس بخصوصياته الثقافية، فكل شيء هو خاص بهذه الجماعة دون سواها، أو بتعبير آخر، إن الكثير من المنتوج الأدبي الشعبي يغيب عنه عنصر التشارك مع الآخر، لأنه يخص جماعة بذاتها، قد تسمح بالاطلاع عليها دون المساس بها. بهذا يعتبر الأدب الشعبي جزء من الهوية الثقافية للجماعة التي تنتجه.

ملاحظة نراها أساسية تشدنا لمفهوم الأدب الشعبي ونحن بصدد تعريفه، تقوم عندما يميز بعضهم بين الأدبي الشعبي كونه ينتمي للطبقة البسيطة الشعبية، وبين الشعر المكتوب كونه رسميا ينتمي لطبقة اجتماعية أرقى. هذا التمييز لا نرى له موضعا، لأن الأدب نابع من الشعب، ويتسم جملة من الخصوصيات، ربما يكون الفرق على مستوى الشكل واللغة، باعتبار هذه الأخير وسيلة فقط. يبقى للكاتب المبدع جمال استعمالها. اللغة وسيلة لتصريف المعاني والصور والبيان. فللأدب الشعبي لغته الخاصة التي تأخذ من العربية ومن غيرها، وهي عامية يفهمها عامة الشعب ويتوافق مع ذوق الجماعة وأعرافها. ثم إن الكثير من الشعراء يكتبون بالفصيح وبالعامية. فاللغة العامية نستعملها في حياتنا اليومية، والفصحى في حياتنا العلمية. لهذا إنه من الطبيعي أن نجد أدبا عاميا وآخر فصيحا.

ربما نؤاخذ الأدب الشعبي على البعد الأسطوري الذي يخلق قصصا وحكايات غير واقعية قد تصل لدرجة الخرافة أو العجائبي، فيعطي منتوجا لا أساس له من الصحة، مثل القصص والأشعار التي تنسج عن الأضرحة، وأبطال لا وجود لهم، ومنها ما يسمى “التغريبة الهلالية” أو “سيرة أبو زيد الهلالي” التي هي ضرب من البهتان التاريخي، والتي تحولت إلى سيرة متداولة وصناعة أفلام وأغاني. هذا في نظرنا من الأدب الشعبي الذي يجب التعامل معه بحذر شديد.

الأدب الشعبي أشكال كثيرة، منها الشعر، والغناء، وأناشيد الأطفال التي يرددونها عند اللعب، أو تلك الأهازيج التي ترددها النساء عند رقصات “أحيدوس” وفي الحقول، وعند صناع المنسوجات من ألبسة وزرابي وحصير، والشعر البدوي، والسير، والحكايات، والحجايات، والخرافة، والنكت، والنوادر، والألغاز، والأمثال، والحكم …(38).

يمكن الجزم بأن الأدب الشعبي ليس وليد الصدفة وإنما هو نتاج أوضاع اجتماعية واقتصادية، وتفاعل بين أفراد المجتمع الواحد، أو احتكاك الشعوب فيما بينها بسب الحروب أو الاحتلال والهيمنة، لهذا نجده محملا بالأساطير والملاحم والبطولات، والأحزان والانكسارات.

لابد من الإشارة إلى تراجع الإقبال على الأدب الشعبي بسبب تطور المجتمعات وظهور الآلة، وابتكار أساليب ووسائل الاتصال، وتراجع مستوى المتبعة للمادة الأدبية، ومستوى القراءة، وطغيان الثقافة الرقمية على حساب الثقافة المكتوبة.

لا يتطلب الأدب الشعبي مستوى دراسيا أو معرفيا، لأنه يعتمد السليقة والتجربة في الحياة والتفاعل مع المعاش اليومي وصروف الدهر، والبعدين الاجتماعي والإنساني. ثم إن الاختلاط بين الشعوب بسبب الحروب والاستعمار والهجرة، وكذا الأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام وألحقوا عدة تأثيرات، بشمال إفريقيا وغيرها من البلدان التي استقرا بها، سواء علة مستوى الثقافة الأصلية وكذا على اللسان العربي، ثم على اللسان الأمازيغي الذي هو قديم قدم الإنسان الأمازيغي الذي استقر بهذا المجال الترابي تاريخا وثقافة، فأنتج عبر حضارته المديدة أدبا تمثل في الحجايات والأغاني والقوال والحكم و…

الأدب الشعبي بشمال إفريقيا منتوج أمازيغي شفوي لا زال يتردد في المناسبات أهازيج وأغاني في الحقول، والأعراس، والسفر، والمعارك، ومقاومة الأجنبي المحتل لأرضهم، لا زالت الذاكرة الجماعية تحتفظ بكثير من هذا الموروث الذي يعتبر سجلا تاريخيا كل هذه الأحداث. انضاف إليه منتوج أدبي حملته الهجرات العربية من المشرق لبني هلال وبني سليم، ثم موريسكيو الأندلس الذيم استقروا بشمال المغرب بعد طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية بعد سقوط آخر معقل إسلامي هناك وقيام محاكم التفتيش وما تعرضوا له من إبادة جماعية على يد الممالك المسيحية، فأبدعوا أدبا يروي ذكرياتهم ومآسيهم هناك. هذا الأدب نجد له تواجدا بشمال المغرب ووسطه بشكل خاص، أما الأدب الشعبي في صيغته العربية ذو الأصول النبطية، فهو ذاك الذي أبعته الجماعات العربية، من هلال وسليم، المهاجرة والمستقرة بشرق المغرب وجنوبه، كما هو الحال بجميع البلدان المغاربية ومصر.

من خصائص الأدب الشعبي أنه وعاء تاريخي للمجتمع، يعكس حقيقة المجتمع الذي هو، بمعنى أن الأدب الشعبي يخص جماعة شعبية معينة، والذين نسجوه في غالبيتهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وبالتالي فهو أدب غير موجه للدارس، وغير منفتح على العالم، كما أنه يعبر عن حالة وقضايا مجتمعه لفترة زمنية معينة، ثم يتواتر عبر الأجيال كمأثور من القول، والحكم والمواعظ، أو للتذكير بالأحداث. ثم إن الأدب الشعبي يواكب الأحداث التي يتعرض لها المجتمع الذي نشأ فيه، من حروب ونزاعات وأهوال وأفراح وانتصارات … فيوظف الأسطورة والرمز والخرافة والمعتقدات. كما أن اهم خاصية يتميز بها الأدب الشعبي هو أن الجماعة الشعبية جزء منه ومشارك فيه، وهي التي تتلقاه، ويتميز الأدب الشعبي بغزارة النسج في المديح النبوي والغزل.

لابد من الإشارة لكون الأدب الشعبي العربي مشرقي النشأة، حملته الجماعات العربية التي استقرت بشمال إفريقيا بعد استتباب الإسلام ببلدانها.

إن الأدب الشعبي هو الأدب الشائع الذي يخص طبقة اجتماعية هي الشعب أو العامة، يستعمل اللغة المحلية أو العامية(39).

يعتبر الشمال الإفريقي بلدا تلاقحت فيه العديد من الثقافات، حيث أصل الثقافة المغربية هو الثقافة الأمازيغية، باعتبار أن الأمزيغ هم أول من عمر هذه البلاد وحكموها، فكانت لهم ممالك قوية بلغت أوجها في زمن تاريخي مزدهر، واحتكت بشعوب عديدة، من فينيقيين ورومان وعرب وصولا إلى الاحتلال الأروبي في الزمن الحديث والمعاصر، منها مملكتي موريتانيا ونوميديا، الشيء الذي جعل ثقافتهم تعرف التعدد والتمازج بسبب التعايش، كما كان للتأثير الديني دور واضح في هيكلة الحياة الاجتماعية، فجاء المأثور الشعبي عامة متنوعا محملا بعدة ثقافات، ومنه المنتوج الأدبي الذي تنوعت فنونه، منها الملحون الذي هو مزيج محلي وأندلسي وسوداني ومشرقي، انتهى به المطاف إلى المغرب الأقصى، فتغاعل على أرضه عبر العصور(40)، خاصة الأثر الإسباني الأندلسي، ثم الأثر المشرقي العربي العميق، حيث يتجلى أثر الشعر الجاهلي والإسلامي الفصيح. لأنه مهما يكن من أمر فاللغة هي مادة الأدب، سواء كانت شفوية أو مرسومة، يتوخى منها إعادة تشكيل الواقع المحيط، وهي القوام المادي للأدب، مثل اللون بالنسبة للرسم، والحجر للنحت، والصوت للموسيقى(41). الشعر وحدات لفظية سواء كان فصيحا أو عاميا. هذا ما ينطلي على الشعر البدوي، ونلك خاصية مشتركة بينه وبين الفصيح تنضاف للخاصيات الأخرى. يعني أن هناك شبكة لغوية، تخص هذا الشعر الشعبي، تعبر عن ثقافة المجتمع الذي قدمت منه. اللغة مستويات، كما هو التلقي. ثم إن النص الشعري البدوي يحافظ على الرنين الصوتي، بمعنى أن له قافية تخلق نهاية لكل بيت أو مقطع شعري، وبالتالي تناغما داخل النص ككل. 

من خصائص الأدب الشعبي البساطة، والعفوية، ومجانبة البلاغة، واهتمامه بالغناء والزجل، لأنه يعتمد على المشافهة، فتنتقل مادته شفهيا، لهذا نجده معرضا للنسيان والإهمال والتلف، والتحريف.

يقوم الأدب الشعبي على عدد من الألوان الإبداعية، منها الشعر الذي منه الزجل الملحون، والشعر البدوي الذي حملته الجماعات العربية من هلال وسليم للبلدان المغاربية، ثم الحكاية أو الحدوثة، وفالإنسانية بدأت تنسج الحكايات والقصص منذ بدأت الكلام على فطرتها دون اعتبار للقيود والأعراف الاجتماعية(42)، وبذلك هي تؤدي وظيفة مهمة داخل منظومة المعتقدات وثقافة الشعوب، ابتدعها الخيال الشعبي للتعبير عن حكمته وقدرته على تصوير أحداث الحياة اليومية ونمط العيش، فلا غرابة أن تنال اهتمام الأفراد والجماعات لما تؤديه من رسائل وقيم أخلاقية تسهم في التنشئة والحفاظ على لحمة الجماعة الشعبية، وكأنها حصن يحتمي داخل المجتمع. من هنا نلاحظ أن هذا الإبداع الشعي هو عمال لتمييز جماعة شعبية عن أخرى، يحتاجها الباحث العالم في مناهج البحث، النفسي والاجتماعي والأنثروبولوجي، لدراسة جماعة ما(43).

إن الأدب الشعبي هو جزء من هوية المجتمع الذي نشأ فيه، لهذا يتوجب الحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة، والمسؤولية تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع ومؤسساته.

كلما تناولنا الشعر البدوي، كغيره من مجالات الإبداع، لا يخلوا من النصوص الدخيلة والرداءة، لأن الشعر موهبة وصنعة. فالشاعر يمكنه “أن يبني كلامه مع التخيل في شيء من الموجودات ليبسط النفوس له أو يقبضها عنه ولا يكون كلامه في ذلك معيبا إذا كان الغرض مبنيا على ذلك” (44).

د. محمد حماس

باحث في مجال التاريخ والتراث

وجدة.المملكة المغربية

الهوامش

  1. عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فصل دولة المرابطين من لمتونة، الجزء الثالث (190 من 258) نسخة محفوظة 24 مارس 2020 على موقع واي باك مشين.
  2. أبو القاسم الزياني، الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا، دار نشر المعرفة، ط. 1، الرباط، 1991، ص. 80
  3. أحمد خالد الناصري، كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، ج1، ص.269
  4. عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر …، م س …، ج7، ص. 184.
  5. إغارة بنى مرين، ثورة الأعراب، نسخة محفوظة 30 يناير 2009 على موقع واي باك مشين.
  6. تاريخ وجدة في الأذهان، العرب اون لاين، نسخة محفوظة 10 أغسطس 2011 على موقع واي باك مشين.
  7. سهل أنجاد أهم السهول الفلاحية بوجدة، استحوذ عليه عرب هلال، ومكنهم إياها الرشيد بعد هزيمة أخيه محمد بن مولاي علي الشريف بسبب دعمهم له. وكلمة أنجاد، طوبونيميا، بالأمازيغية الزناتية تعني مكان تجمع الماء.
  8. صراعات عائلة حكمت المغرب لمدة أربعة قرون المغرس/المساء، نسخة محفوظة 27 فبراير 2018 على موقع واي باك مشين.
  9. تاريخ وجدة في الأذهان، العرب اون لاين، نسخة محفوظة 10 أغسطس 2011 على موقع واي باك مشين.
  10. أبو بكر الصنهاجي، المكنى البيدق، المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1971، ص
  11. محمد حماس، ملامح من تاريخ بلاد الأمازيغ، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية، 2437-0584، المجلد 2، العدد 1، يونيو 2016. ذكره عبد العزيز الثعالبي، تاريخ شمال إفريقيا من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأغلبية، تحقيق أحمد بن ميلاد، ومحمد إدريس. مطبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1990، ص 29 إلى 95. ثم 14) أحمد بن خالد الناصري السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج.1، الطبعة الأولى، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1955، ص.33 إلى 48 
  12. نفسه.
  13. نفسه.
  14. محمد بن عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، مكتبة لبنان، بيروت، ط. 1و2، 1984م
  15. محمد حماس، ملامح من تاريخ بلاد الأمازيغ، م س …
  16. عبد العزيز سالم، تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة، ط.1، الإسكندرية، 1991، ص. 580
  17. نفسه، ص. 581
  18. الرقيق القيرواني، تاريخ إفريقيا والمغرب، تحقيق محمد زينهم محمد عزب، ط1، دار الفرجاني للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994، ص. 20
  19. عبد العزيز سالم، تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، م س …، ص. 80 إلى 86
  20. محمد سعيدي، العائلة، عاداتها وتقاليدها بين الماضي والحاضر: الظاهرة الاحتفالية بالأعياد، نموذجا، موقع Insaniyat / إنسانيات, 4 | 1998, 41-49.
  21. أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2005، ص.79
  22. محمد حماس، مخزن بين الثقافتين السياسية والشعبية، موقع هيسبريس، السبت 3 يونيو 2017 – 10:43.
  23. دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة منير السعيداني، مراجعة الطاهر لبيب، المنظمة العربية، للترجمة، ط1، بيروت، لبنان، 2007، ص. 30
  24. جلبير دوران، ورد عند عبد المجيد جحفة “سطوة النهار وسحر الليل: الفحولة وما يوازيها في التصور العربي”، دار توبقال للنشر-البيضاء1999 
  25.   Although the Oxford English Dictionary lists the first use as 1854, it appears in an address by يوهان هاينريش بستالوتزي in 1818: Pestalozzi، Johann Heinrich
  26. 26)      محمد الصالح بن علي، 1500 مثل وحكمة شعبية من منطقة سوف، مطبعة قرفي، باتنة، الجزائر1998، ص. 62
  27. 27)      حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص. 42
  28. 28)      نفسه، ص. 121-122
  29. 29)      غريب عبد السميع غريب، عادات وتقاليد البدو (دراسة وصفية)، ص. 89، استنادا لرأي Ridfield من دراسته للمجتمعات القروية في أمريكا الوسطى
  30.   Chatty, Dawn, Culture summary: Bedouin, New Haven, Conn.: Human Relations Area Files. 2009. online document
  31.   Beckerleg، Susan. “Hidden History, Secret Present: The Origins and Status of African Palestinians”. London School of Hygiene and Tropical Medicine. مؤرشف من الأصل في 2020-05-19. Translated by Salah Al Zaroo.
  32.   Holes، Clive (2004). Modern Arabic: Structures, Functions and Varieties (ط. Revised). Washington DC: Georgetown University Press. ص. 12. ISBN 978-1-58901-022-2. مؤرشف من الأصل في 2020-07-31.
  33. 33)      مصطفى أوشاطر، الخطاب الشعري عند مصطفى بن إبراهيم، رسالة ماجستير. جامعة تلمسان، ص. 127
  34. 34)      والترج أونج، الشفاهية والكتابية، تر: حسن البنا عز الدين، منشورات علم المعرفة، الكويت، 1994، ص. 45
  35. 35)      والترج أونج، الشفاهية والكتابية، … م س، ص. 55
  36.   Yousef NACIB, Eléments sur la tradition orale, Ed, SNED, Alger, 1981, p. 8
  37. 37)      منال فاروق، الأدب الشعبي وتنظيم اللاوعي الجمعي، موقع الحوار المتمدن، 30/10/2019.
  38. 38)     الموسوعة المعرفية الشاملة
  39. 39)     مجلة التراث الشعبي العراقية، العدد 6، 1980، ص. 182، (مقولة للمستشرق الإيطالي جوفانو كانوفا)
  40. 40)      محمد الفاسي، المعلمة، ص. 103-144
  41. 41)      يوري لوتمان، تحليل النص الشعري بنية القصيدة، ترجمة، محمد فتوح أحمد، دار المعارف، دار القاهرة، 1995، ص. 36
  42. 42)      محمد فهمي عبد اللطيف، الحدوثة والحكاية في التراث الشعبي، مجلة الفنون الشعبية، العدد 9، يونيو 1969، ص75.
  43. 43)      جابر عبد الحميد جابر، دراسات نفسية في الشخصية العربية، مطبعة عالم الكتب، القاهرة، 1978. ص. 116
  44. 44)      حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص. 33
رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.