يقدم الأستاذ الجامعي والخبير في الدراسات الجيو استراتيجية والأمنية، الشرقاوي الروداني، في حوار مع” و م ع”، تصوراته حول تدبير مرحلة ما بعد “كورونا”، مركزا في هذا الإطار على أهمية وضع استراتيجية عملية وتدريجية تندرج مهامها في سياق الزمان والمكان.
1 – ماهي في رأيكم شروط رفع الحجر الصحي بدون مخاطر ؟
لا شك أن العالم تأثر بشكل غير مسبوق جراء هذه الأزمة الصحية. فمع وجود اقتصاد عالمي مندمج، أدى، وبشكل خاص، إلى تسريع وتيرة حركية الأشخاص وترابط على مستوى السلع والخدمات، فالخطر أصبح شاملا وله تأثير على البلدان جميعها وبدون استثناء، وهذا ما يحتم أن تكون خطة التصدي خاضعة لإطار منهجي، يأخذ بعين الاعتبار الوضع على المستوى الوطني في علاقة مع ما يحدث على المستوى الدولي.
لقد غيّر هذا الفيروس تماما جميع النظريات العملية لتدبير الأزمات. وهو ما قد يفسر الاختلاف وأحيانا عدم التوافق في الاستراتيجية التي اعتمدتها كل دولة على حدة. فتفعيل نموذج مفاهيمي لتدبير الأزمة يتوقف حتما، على الطريقة الذي يتم بها تدبير هذه الأزمة منذ بدايتها. ونلاحظ أنه تم في هذا الإطار الاعتماد على مقاربتين، أظهرت كل واحدة منهما محدوديتها. فمن ناحية، كانت هناك المقاربة الأنغلو-ساكسونية العملية والعقلانية، ومن ناحية أخرى، المقاربة الأوروبية ذات الطبيعة المتفهمة والمجتمعية.
وفي الواقع، يخضع نموذج عملية رفع الحجر الصحي لمجموع التدابير التي تم اتخاذها عند انطلاق العملية. وقد أفسحت هذه المجموعة من التدابير الطريق أمام وضع خطط وتحديث الإجراءات السريعة والملائمة لوضعية صعبة على المستويين الوطني والجهوي.
فالمغرب اتخذ، ومنذ بداية هذه الأزمة الصحية، إجراءات استباقية من أجل مواجهة التهديد الذي يشكله هذا الوباء، وذلك عن طريق تعبئة شاملة لموارده وإمكانياته، وهو الأمر الذي مكنه من تجنب تداعيات خطيرة إن على مستوى عدد الوفيات أو على صعيد الاستدامة والتماسك الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا من المهم وضع مخطط لاستمرارية العمل بعدد من التدابير المتخذة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي.
وفي ظل الوضع الحالي، ومع انتشار فيروس لا يستطيع العالم القضاء عليه بلقاح مناسب، فإن الحديث عن رفع الحجر الصحي بدون مخاطر يعتبر أمرا غير واقعي، وهو ما يتطلب وضع استراتيجية عملية وتدريجية يتعين أن تتناسب مهامها مع الزمان والمكان. فالمعطيات المسجلة حتى الآن تظهر أن الوضع تحت السيطرة، إلا أن منحنى الإصابة بالعدوى في بعض الجهات يحتم اتخاذ تدابير مشددة لكبح انتشار الفيروس.
كما أن تخفيف الحجر الصحي يتعين أن يكون مخططا له، من خلال وضع آليات وإجراءات يتم الرجوع إليها في حال عودة الوباء للانتشار بسرعة. بمعنى، أن يكون رفع الحجر الصحي جزئيا مع الحفاظ على تدابير معينة من قبيل التباعد الاجتماعي وإلزامية ارتداء الكمامة في أماكن العمل ووسائل النقل العمومي.
وفي بعض الجهات التي لن تسجل فيها أية حالة إصابة لمدة أسبوعين من المراقبة بعد تاريخ رفع الحجر الصحي، فإنه من الممكن القيام بعملية إعادة تقييم بهدف فتح المجال أمام المزيد من الإجراءات المخففة لهذه القيود.
وبالتالي، فإن من الضروري أن تضع كل جهة نظاما للتنبيه، تشرف عليه خلية أزمة، وقيادة جهوية تفاعلية تكون مسؤولة بشكل دائم على رصد تطور الحالة الصحية على نطاق جزئي وكلي على صعيد كل جهة. فالمغرب، وضمن تصوره لإرساء الجهوية المتقدمة، اعتمد الذكاء الترابي العملي، وهو ما سيمكن من تبني تدبير ذكي لهذه الجائحة.
2 – من المؤكد أن وضع استراتيجية وطنية يبقى ضروريا لتأمين خروج جيد من الأزمة ؟ ماهي في نظركم الركائز الأساسية لهذه الاستراتيجية ؟
من المؤكد أن الأزمة الحالية لها انعكاسات كبيرة ومتعددة على جميع البلدان. وتُظهر المؤشرات الأولى أن هذا الوباء سيكون له تأثير خطير على الاقتصاد العالمي، الذي يتشكل من خلال مجموعة من “اقتصادات الشبكات” المتداخلة. وفي الواقع، من المهم التأكيد على أنه من حيث التأثير، مايزال العالم حتى الآن يدير مرحلة تبلور الأزمة.
وقد أدى الطابع الفجائي للوباء إلى خلخلة التنظيم الاقتصادي والاجتماعي على المستوى العالمي، وبالتالي، ستتأثر جميع البلدان بدرجات متفاوتة، وحسب درجة اعتمادها على النظم الاقتصادية والمالية العالمية. وبعد بدء رفع الحجر الصحي، ستجد كل دولة نفسها في مرحلة التأثير من خلال تحديد جميع التداعيات، سواء كانت اقتصادية أو مالية أو اجتماعية.
ويبدو لي أن صلب استراتيجية ما بعد الوباء يجب أن يركز على تقدير المخاطر من خلال تقييم احتمال أن يتسبب هذا الوباء في أضرار بأهداف معينة، ذات أولوية وتتوقف عليها العودة السريعة والآمنة للوضع الطبيعي. وفي إطار هذه الاستراتيجية، يتعين على القيمين على تدبير المخاطر أن يكونوا قادرين على تقييم خطورة التداعيات الممكنة للوباء على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والدولية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، يجب تقييم عملية رفع القيود المفروضة من خلال مراقبة حركية الوباء على صعيد الجهات. فاحتمالية تأثير الوباء على الشق الاجتماعي أمر لا جدال فيه، إلا أنه على العموم فإن الوضع متحكم فيه نسبيا. وللتصدي لهذه المخاطر، فإن المغرب يتوفر على نظام تدخل شامل وفعال يمكنه من استباق العوائق والتدبير الجيد للخروج من هذه الأزمة.
ومن بين أسس هذه الاستراتيجية، التركيز على الإصلاح الاقتصادي من خلال إرساء خطط استجابة عملية. فبالإضافة إلى الأرواح البشرية، فإن هذا الوباء يستهدف، أيضا، الاقتصاد، وبالتالي فإن استئناف الأنشطة في قطاعات معينة مهم للغاية لحماية الاقتصاد الوطني من تراجع حاد. كما يتعين أن يكون إنعاش الإنتاج الاستراتيجي للاقتصاد الوطني مسألة ذات أولوية، بالنظر لتأثيره على الصعيد الوطني ومساهمته في رصيد الحسابات الجاري. وفي هذا الإطار، فإن النهوض بالإنتاج “صنع في المغرب” يمكن أن يدعم صمود بعض القطاعات الاقتصادية، وبالتالي التخفيف من فاتورة واردات البلاد.
وأخيرا، فإن هذا الوباء ستكون له انعكاسات على العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف. سنشهد إعادة هيكلة للنظام العالمي، الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجيات للتأثير تخدم مصلحة بلدنا على المستوى الدولي، وكذلك القدرة على استشعار التهديدات واكتشاف الفرص.
فهذا الوباء له تداعيات “لا تحمد عقباها” على النظام العالمي، ومن المؤكد أنه سيفرض على البلدان إعادة تشكيل تصوراتها الاستراتيجية من خلال البحث عن شركاء محتملين من الجهات الفاعلة في العالم الجديد. وباختصار، بالنسبة لبلدنا، يمكن أن تشكل هذه الأزمة فرصة ثمينة لتعزيز موقعها الاستراتيجي في إفريقيا وفي الفضاء الأورو- متوسطي.
3 – ما هي القطاعات ذات الأولوية ضمن مخطط الإنعاش لما بعد الأزمة ؟
خطة الإنعاش يجب أن تلبي احتياجات المصالح الحيوية والحاسمة والاستراتيجية للمملكة. ويتعين أن تكون جميع القطاعات التي من شأنها تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية للبلاد في صلب استراتيجية ومخطط إنعاش الأنشطة. كما أن تقوية سلسلة الإمداد الوطنية تتطلب إعادة فتح المصانع للإنتاج الموجه للاستهلاك والطلب الداخلي.
ففي ظل عولمة متهاوية، يمكن لبعض الهياكل الاقتصادية التفكير في إعادة توجيه إنتاجها من أجل دعم الطلب والحفاظ على العرض، من خلال تخفيف الواردات المكلفة من حيث احتياطيات العملة الأجنبية، حتى لو كان لدى المملكة إمكانية الاعتماد على حق السحب الخاص، وهو احتياطي دولي أحدثه صندوق النقد الدولي لاستكمال احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية للدول الأعضاء فيه.
غير أن مقاربة شاملة تستلزم سياسة تعطي الأفضلية، على المدى القصير، لتخفيض الاستثمارات والنفقات العمومية. فالحكومة مدعوة، في هذا الصدد، إلى اتخاذ تدابير جريئة لفائدة القطاع الإنتاجي ذات الصلة بالحلول التمويلية والمواكبة. وفي هذا السياق، تعتبر صناعة السيارات والنسيج والصناعات الغذائية أمثلة على القطاعات الحاملة لقيمة مضافة، والتي لها تأثيرات استراتيجية وعلى الميزان التجاري، الذي قد يتفاقم في ظل مثل هذه الظروف.
وبالإضافة إلى تعزيز قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود من خلال إجراءات مالية ونقدية، يتعين إيلاء اهتمام خاص للقطاعات الأكثر تضررا مثل السياحة والعقار .
فهذه القطاعات يمكن أن تكون، على المدى المتوسط ، ركائز لإعادة هيكلة الإنتاج الوطني. كما أن الحفاظ على القدرة الشرائية للأسر أمر أساسي لضمان تدارك اقتصادي سريع بمجرد رفع الحجر الصحي. ولذلك، فإن إجراءات دعم الطلب مهمة من أجل مواكبة سياسة تعزيز العرض التي يتعين أن تنهض قدر الإمكان بعلامة “صنع في المغرب”.