خالد لخصيم /قصة قصيرة
إِلتهمَ الدُّجى أهدابَ الشمس، فتأنَّقتِ السماءُ بسُمرةِ الغسق وتَزيَّنتْ بالآلئِ المُلقاةِ سجيةً على البساطِ السماوي الفاتن.
عقاربُ الساعة عربدتْ بلا خجل ومضى الوقت سريعا كأنني كنتُ في موعدٍ غراميٍّ مع حبيبتي الأولى.
يقولون إنَّ وحدة قياسِ سرعة الوقت في اللغة العربية هي – سرعةٌ جنونيةٌ- أما أنا فأقول – كأنكَ كُنتَ في موعدٍ غراميٍّ مع حبيبة القلب- لأن السرعة التي يمضي بها الوقت في الحالة الثانية تتخطَّى السرعة الجنونية بدرجات.
تجاوزتِ الساعة الثانية عشر في ليلةٍ من ليالي يناير المفعمةِ بالبرد والشوق.
كل شيءٍ بارد في يناير ؛ الشوارع، البيوت، السماء، إلاَّ الأرواحُ المرهفة وحدها تغلي وتفيضُ بالمشاعرِ الجيَّاسة.
وسط شارعٍ شبه فارغ، ترسمُ مسارَهُ أعمدة الإنارة البرتقالية اللون كانت تسير إحداهنَّ.
بدتْ بعيدة بعض الشيءِ، أو لنقل بعيدة عني بمسافة كبيرةٍ فأنا حين رمقتها خِلسةً أول الأمر صُعقتُ، وفَرَكْتُ جفوني لأتأكد إن كانت فعلاً فتاة أم ذلك لا يعدُو أن يكون سرابَ شوقٍ منبعثٍ من متحف الذاكرة.
أخالها في عقدها الثالث ؛ رشيقة، ذات شعرٍ حريريٍّ أطول من ليل المشتاق ينسدل على كتفيها ويتخطَّاهُمَا.
بِغيرِ وجلٍ ولا خوفٍ كانتْ تسيرُ وسط الطريق التي تأنَّقت بآنعكاسِ الأضواء البرتقالية الفخمة.
كأنها كانت ملاكاً، أو جزءًا منفصلاً عن هذا العالم الذي يَشُوبه الإضطراب والخوف.
بدتْ روحًا لامبالية، جامحة، تُراقِصُ السماء بدون حزن ، كطفرة غير مسبوقة في تاريخ البشرية المُلوَّث بالدم والألم.
للحظةٍ تصورتها زوبعةً متمردةً تَشفطُ كل التراجيديا والبؤس الذي يغدِقُ على هواء هذا الكون المظلم.
سارتْ وسط الطريق لامبالية وسلَّمتْ نفسها للرياح الخفيفة التي كانت تعبَثُ بشعرها وتداعبُ جسمها الهزيل فتسْحَبُهُ تارة يمنة وتارةً أخرى يسرة.
كفراشة صفراء اللون، أو حمامة في السماء بسطتْ الفتاة يديها كأنها تستعدُّ للطيران.
أَخذتْهَا الرياحُ أنَّ شاءت ولم تكن تُبدي أي مقاومة لأنها بلا ريبٍ مستمتعة إستمتاعًا جامحًا.
أخذتْ شهيقًا وزفرتْ عِطرًا تسلَّلَ لأنفي ريحُهُ فآستنشقتهُ وتلونتْ روحي بألوان الطيف ثم آستكانَ ذلك المُقعد الذي يقفز في صدري.
بِصوتٍ شجيٍّ أشبه بتراتيل العصافير، وبنبرةٍ رقيقة عذبةٍ أخذت تسير مبسوطة اليدين وسط الطريق وتغني :
” هذه … ليلتي …
وحلم حياتي..
بين ماضٍ من الزمان وآتِ..
هذه ليلتي .. هذه ليلتي ..
وحلم حياتي…
الهوى أنتَ كلهُ .. فآملأ الكأس بالغرام وهاتِ “
إنَّ ملاكًا مثل هذه يَوَدُّ الواحد منا لو يهمسَ في أذنها
” آنتشلي أيتها الودودة هذا المقعد من صدري ودرِّسيه أبجديات الحب، علِّميه كيف يحيا، فهو لا يعرف سبيل الحياة. “
أغمضتُ جفوني وأنصتتُ لصوتها الملائكيِّ الرنان حتى خَلُصتْ من الغناء، وقتها فتحتُ عينيَّ فلم أجد إلاَّ السراب.
لم يكن ذلك إلاَّ حلمًا ورديًا وسرابًا جميلاً، وقد كنتُ في الحقيقة أسير وحيدًا كل الوحدة في ذلك الشارع البرتقاليِّ الفسيح وفي أذني سمَّاعاتٌ تصدحُ بصوتُ كوكب الشرق السيدة ” أم كلثوم”
امالمنذ 6 سنوات
رائع جدا