النص الرحلي وممر تازة في زمن المغرب..
عبد السلام انويكًة
طَموحاً يمضي سؤال بحث ونبش وتنقيب ومن ثمة كتابة تأليف ونشر حول زمن تازة وذاكرتها، لإغناءً خزانة مدينة باتت نصوصها نافدة لباحثين مهتمين وقراء. ولعل ما انضاف حول تاريخها خلال السنوات الأخيرة، ارتبط بما أنفق من جهد وما حصل من شغف واستقراء لمصادر ودراسات. وغير خاف أن ما تحتويه وتزخر به المصادرالتاريخية وما هناك من اشارات في روايات شفوية، يجعل المدينة بعظمة موقع ووقائع في تاريخ المغرب منذ القدم. ولاشك أن زمن البلاد في بعده المحلي ظل محدودا الى عهد قريب، ناهيك عما يسجل أيضاً في هذا السياق حول محدودية منوغرافيين دارسين وفق ما ينبغي من نهج ومدرسة.
في علاقة بتازة وممرها الشهير من جهة وبالتأليف والرحلة من وإليها وعبرها من جهة ثانية، ورد أن هذه الأخيرة كانت تيمة دراساتٍ عربية وغربية عدة، فضلاً عما طبع نصوصها من مقاربات تباينت بين ما هو تاريخي وسوسيولوجي وأنتربولوجي..، ولعل الى جانب رحلات مغربية تعددت أسبابها هناك رحلات اوروبية أثثها بريطانيون وفرنسيون وإسبان وألمان..، منهم تجار وسفراء ومغامرين وجواسيس ومستكشفين ومبشرين ورسامين وباحثين وغيرهم، ما سجلوه كان على درجة من الأهمية ضمن كتب ومذكرات وتقارير لفائدة الباحثين كمصدر معرفة لجوانب مختلفة من تاريخ المغرب.
اشارات وغيرها استهل بها الدكتور عبد العزيز بلفايدة الأستاذ الباحث بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، تقديما عميقا لكتاب صدر حديثاً ضمن منشورات مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث عن مطبعة الرباط نت، كتاب موسوم ب:” تازة عبر الرحلات نماذج من العصرين الوسيط والحديث” للأستاذ عبد الاله بسكًمار في طبعة أولى بحوالي مائتي صفحة، توجه بعنايته لممر تازة كمجال فاصل بين شرق البلاد وغربها، مستهدفاً ابراز دور وأهمية هذا الأخي زمن العصر الوسيط والحديث من خلال رحلات حجية مغربية ونماذج لرحلات أجنبية همت المغرب، منفتحاً على مسالك انسانية عدة من أدب وجغرافيا وعلم اجتماع وعلم نفس اجتماعي وانتروبولوجيا وغيرها. ولعله كتاب ثالث للمؤلف بعد أول حول تاريخ تازة بعنوان” تازة بين القرنين 15 و20- الأدوار والوظائف” الصادر عن منشورات ومضة بطنجة سنة 2014، وآخر ثان بعنوان” تقريب المفازة إلى أعلام تازة ” الصادر عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط سنة 2017، وقد خصصه مؤلفه لأعلام تازة وعلماءها منذ العصر الوسيط حتى الفترة المعاصرة ضمن أفق معرفي توثيقي تراثي.
هكذا تواصل التأليف حول تاريخ تازة وواصل الأستاذ عبد الاله بسكًمار نبشه التاريخي وإبحاره البحثي المحلي قراءة وتحليلا، ضمن تحيين دائم وارتباط وثيق وجداني بزمن المنطقة ومحيطها، وضمن ما يسجل له أيضاً من علاقة بين أدب وتاريخ كوجدان مزدوج أعطى لقراءاته وتحليله وقعا خاصا على ايقاع ذاتية وموضوعية وتوثيق معاً. وكان ابراز ما هو حضاري تاريخي يهم تازة وتسليط الضوء على حقب وأزمنة وأمكنة ووقائع وأحداث وتفاعلات، هو ما انكب عليه الأستاذ بسكًمار منذ فترة على وقع رحلة له من عالم أدب الى حقل تاريخ ومن خيال ووجدان وذات صوب ما هو وثيقة، لتحيين وإغناء ما ينبغي تحيينه وإغناءه ضمن مقاربة أكثر انفتاحاً على ما هو محلي من مكان وانسان وتراث وأثر وصدى .. ومن ثمة من سؤال.
والمؤلِّف الذي حضيت اصدارته منذ سنوات بإقبال معبر شاهد على ما هناك من حاجة لنصوص تاريخ مدينة واسع متشعب- كيف لا وقد كانت دوما حاضرة فاعلة متفاعلة في زمن البلاد لأهمية موقعها وتميز ممرها وقد قيل منذ القدم من حكم تازة حكم المغرب- أورد في مقدمة مؤلفه الجديد” تازة عبر الرحلات نماذج من العصرين الوسيط والحديث”، أنه استهدف موضوعاً بطبيعة مونوغرافية يخص ممر تازة الذي كان مسلكا لرحالين مغاربة وأجانب، فضلاً عن طبيعة حضور مدينة ضمن كتابة رحلية لبعض مدوني مسالك وممالك، كذا جغرافيين وكتاب رحلات حجية واستكشافية وثقافية منذ القرن الرابع حتى منتصف العاشر الهجري، فضلاً عن فترة رحلات حجازية خلال القرن الثاني عشر الهجري وطلائع رحلات بخلفيات استعمارية توسعية. ولعل اشكالية الكتاب- يضيف المؤلف- هي بأسئلة عدة معرفية ومنهجية، تخص جنس الرحلة وما هناك من نماذج كذا طرائق تدوين وكتابة وصورة منطقة بعيون رحالة، فضلاً عن فوائد ومشاهد وخلاصات من خلال عرض نصوص رحلات حول تازة ممراً واحوازاً ضمن مجال حوض إيناون.
إن استنطاق ممر تازة طبيعة وانسانا هو ما استهدفه الكتاب وفق وعي منهجي ومعرفي، ناهيك عن حساسية بحث في التراث وكتابة بعيون نقدية من أجل صورة بقدر من الموضوعية- يقول المؤلف-، مشيراً الى أن من دواعي الاصدار أصالة فكرته وأهمية إغناء خزانة علمية محلية ومن ثمة وطنية. مع أهمية الاشارة لِما طبع مادته العلمية التاريخية من تشتت، وما احتاجه البحث حول المنطقة من تبصر وتأن وصبر عبر وثائق ومصادر ومراجع، دون نسيان ما هو ذاتي كامن لدى المؤلِّف باعتباره ابن تازة من شعور وغيرة وأواصر عميقة شدته لمسقط رأسه ومنبت غرسه. مشيراً الى أن ما تعرضت له تازة وأحوازها من اقصاء شمل أيضا البحث التاريخي والتراثي، وهو ما اعتبره نتاج تناسي وتهميش من جهة وابتعاد ممن كان يُفترض فيهم جدية بحث وطرح سؤال فضلاً عما قال أنه كسل فكري وخمول من جهة ثانية، كل هذا وذاك – يقول المؤلف- كان وراء ساحة شبه فارغة ومن ثمة ندرة أبحاث ومؤلفات رصينة وجادة حول المنطقة.
وقد توزع كتاب “تازة عبر الرحلات نماذج من العصرين الوسيط والحديث”، على مدخل تضمن مفاهيم همت جنس الرحلة عامة كذا اطار ومجال نصوص رحلية، وعلى فصول أربعة بسطت لنصوص معنية مع تناولها بالدرس والتحليل ضمن تناغم نسقي ونهج همَّ ممر تازة ومن خلاله المدينة وأحوازها، ثم خلاصة تم فيها ابراز ما انتهى اليه العمل من اضافات وما ينبغي الانصات اليه من آفاق دراسة. ويذكر الاستاذ عبد الاله بسكًمار في ختام مؤلفه أنه وهو يخط صفحاته استحضرته روح باحث عزيز رحل الى داء البقاء في أوج عطائه العلمي رحمه الله، د محمد الزرهوني ابن تازة الأستاذ الباحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس من كان بتشجيعه ودعمه وتحفيزه للكتابة حول تاريخ تازة وتراثها نبراسا حين تتنمر مهاول هدم مغرضة- يقول- . فضلاً عن نداءٍ من قِبل العلامة عبد الهادي التازي رحمه الله صوب أبناء تازة قال فيه، “على أبناء تازة اليوم ان يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين إن عليهم وحدهم تقع تبعة التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة “.
تبقى تازة ختاماً من خلال مؤلَّف “تازة عبر الرحلات نماذج من العصرين الوسيط والحديث” للأستاذ عبد الاله بسكًمار، تبقى هذه المدينة ليست فقط عمرانا تاريخيا ماديا بل كيانا رمزيا ووعاء أفكار ونظم وعادات وعقليات وتأثير وتأثر ونمط حياة ومن ثمة هوية قائمة بذاتها كإنسان ومكان. كيف لا وهي من أقدم حواضر البلاد بدليل حفريات قد يكون انبنى حديثها على قديمها بحكم حيثيات ممر وحركة انسان. ولعل ما هي عليه تازة من تعاقب أزمنة ومعالم حقب تمدين، شاهد على طبيعة تفاعل وهيبة موقع وممر ومكانٍ ورد شامخاً في نصوص مصدرية عدة، منها ما هو مفقود كما بالنسبة لكتاب” تقريب المفازة الى تاريخ تازة” لأبي الحسن علي الجزنائي.
إن طبغرافية تازة شرفة وممراً كانت دوماً بجدل باحثين ودارسين، في أفق فهم علاقة مكان وممر بتأثيث زمن مدينة وبما كانت عليه من دينامية انسان ورحلات وتأثير وتأثر منذ القدم. ما تمحور حوله كتاب “تازة عبر الرحلات نماذج من العصرين الوسيط والحديث” للأستاذ عبد الاله بسكًمار، الذي لا شك أنه اضافة علمية بقدر عال من الأهمية والقيمة المضافة لخزانة تازة التاريخية، فضلا عما طبع العمل من جهد مضني ومن ثمة تنوير معبر لباحثين مهتمين وقراء حول زمن رمزي لمدينة يحق الفخر به، وكما قال تعالى في سورة الرعد “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” صدق الله العظيم.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث