عبد السلام انويكًة
كانت القوانين المحلية العرفية بدور هام وأثر معبر في تنظيم حياة الانسان اليومية عموما خلال العصر الوسيط في غياب سلطة مركزية قوية، علما أن وعاء ما كان قائما معتمدا من قوانين محلية عرفية كان بنوع من التباين من جهة لأخرى بحسب طبيعة الكائن من التقاليد السائدة. وبقدر ما خضعت له هذه القوانين من كتابة وحفظ وكذا من نقل وتلاقح شفوي من جيل لجيل، بقدر ما كانت تعكس طبيعة قضايا المجتمعات وتفاعلاتها وحاجياتها وانتظامها وجوانب وسبل ضمان استقرارها. من قبيل ما هو حقوق وعلاقات واحكام والتزامات وغيرها، تلك التي كانت بأثر في بلورة ونشأة أنظمة قضائية ذات طبيعة محلية عرفية. ورغم ما حصل من عمل دمج لهذه القوانين العرفية وبشكل تدريجي ضمن نظم قانونية موحدة بنوع من التمركز مع تطور مكون الدول القومية بأوروبا، فهي لا تزال بموقع وأهمية مرجعية مؤثرة حتى الآن في بعض المناطق، بل أيضا في بعض النظم القانونية لبعض الدول رغم كل هذه الحداثة والتحولات.
حول العرف والقوانين والأحكام العرفية، هذه المساحة المعرفية والسلوكية التنظيمية التي لا تزال بحاجة لالتفات وانصات بحثي من قبل باحثين ودارسين مهتمين، صدر حديثا في طبعة أولى عن منشورات دار الأمان بالرباط، كتاب بحوالي مائتي صفحة من القطع المتوسط، وقد ارتآي له الأستاذ الباحث عبد الواحد المهداوي، عنوانا “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا”. مشيرا في تقديم متميز له، الى أن الحاجة لتنظيم وتحقيق أمن المجتمعات وإشباع رغباتها وضبط علاقاتها، كانت من دوافع بروز القوانين منذ عصور قديمة. وأن هذه القوانين شهدت تطورت بشكل مواز مع نشأة الدولة، ومن ثمة ما بات من حاجة لكل ضبط وتقنين استجابة لتطور مهام هذه الأخيرة وتوسعها مع الزمن.
وإذا كان إنتاج القواعد القانونية يدخل في صلب مهام مؤسسات الدولة، ويعد أيضا عنوان سيادتها على مجالها الإقليمي – يضيف -، فإن ذلك لم يمنع من نشأة قوانين عرفية أنتجتها مجتمعات محلية، شكلت فيما بعد أصلا من أصول القانون ومصدرا من مصادره. ولعل القانون العرفي كما هو غير خاف عن باحثين دارسين مهتمين بالشأن، هـو مجموعـة مـن الأعراف والممارسات والمعتقـدات المعتــرف بها كقواعــد سـلوك إلزاميــة تتبعهـا الشـعوب الأصلية والمجتمعـات المحليـة. مع أهمية الإشارة الى أن هذه القوانيــن العرفيــة تشكل جــزءاً أصيلا مــن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وكذا مــن أســلوب حيــاة هــذه الشــعوب. علما أن هذا النوع من القوانيـن تتسم علـى وجـه الخصـوص بتضمينهـا أعرافا معتــرفا بهــا، تتقاســمها الجماعــة والشــعوب والقبيلــة والجماعــة الاثنية أو الدينيــة – يقول المؤلف – مشيرا الى أن بداية الجدل حول القوانين العرفية بالمغرب بتقدير الباحثين تعود للقرن السادس عشر الميلادي، وأن هذا الجدل شهد قفزة نوعية اثر انهيار الدولة السعدية، وما تميزت به هذه الفترة من زمن المغرب من تذبذب طبيعة علاقة السلطة المركزية بباقي جهات البلاد، حيث الهيمنة والتحكم والاستقرار تارة وفقدان السيطرة على الأطراف تارة أخرى. وأنه في خضم ما حصل من ضعف للسلطة المركزية لجأت القوى القبلية وكذا الدينية المتكونة أساسا من الزوايا، للعمل بقوانين عرفية سعت من خلالها لتدبير المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، وتدبير العلاقة أيضا بين القوى القبلية والدينية المتواجدة في نفس المجال من جهة أخرى.
ويذكر صاحب “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا”، أنه نظرا لحاجة المكونات القبلية والدينية للأمن والاستقرار ونظرا لِما حصل من تشنج سياسي للأوضاع، باتت هذه الأخيرة ملزمة بإيجاد بدائل قانونية تنظيمية تدبيرية اتفاقية كفيلة بحفظ الأمن من جهة، وإرساء تنظيمات اجتماعية من شأنها تحقيق تدبير تعاقدي لِما كان قائما من قضايا اجتماعية ملحة. مشيرا الى أنه على إثر هذا وذاك من الاعتبارات، اتسع النقاش بين الفقهاء حول أهمية اعتماد القوانين العرفية المحلية وحول مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية، وهو النقاش الذي برز بوضوح من خلال ما تضمنته النوازل الفقهية والفتاوي من قضايا ذات علاقة بالموضوع. ويسجل الأستاذ المهداوي، أن خلال هذه الفترة ظهرت بالمغرب الأقصى قوانين عرفية مكتوبة، تلك التي اختلفت تسمياتها بحسب المناطق التي أنتجتها. وأن منها من سميت إِزْرْفْ أو العرف في أعالي الأطلس ومنطقة سوس، وتعقدين في مناطق أيت عطا بالجنوب الشرقي، ومنها من سميت ب”الشروط “عند بعض القبائل الأمازيغية والعربية ك”شروط” عرب الصَبَّاح بمنطقة تافيلالت.
هكذا يتبين أن القوانين العرفية المحلية انتعشت وبرزت بشكل كبير خلال الفترات الحرجة حيث ضعف السلطة المركزية للدولة، وهو ما كان وراء توجه القبائل لتنظيم شؤونها بعيدا عن رقابة الدولة وأحيانا بمباركة منها. مع أهمية الإشارة لِما أحيط به الموضوع عموما من مستكشفين سسيولوجين أجانب خاصة منهم الفرنسيين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي، ومن ثمة ما تراكم من تقارير ونصوص بقدر كبير من الأهمية حول الموضوع، وقد استهدف هؤلاء من خلال ابحاثهم ودراساتهم الميدانية الاستكشافية فهم طبيعة عقليات وذهنيات المجتمع المغربي وكذا تنظيماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتسهل عمل التوغل فيه واستعماره. ويسجل الأستاذ الباحث المهداوي، ما حصل من اهتمام معبر للدارسين والدراسات الكولونيالية بموضوع القوانين العرفية خلال الفترة التي خضعت فيها البلاد للحماية. حيث تم انجاز عدة دراسات ذات صلة سمحت بالتعرف على ما هناك من أعراف قبلية محلية مغمورة بحاجة للبحث وللدراسة. مشيرا الى أنه بعد استقلال المغرب انتعش الحديث حول اما هو أعراف وقوانين عرفية مغربية، من خلال ما حصل من دراسات علمية توجهت بعنايتها لتاريخ البلاد الاجتماعي عبر نهج مونوغرافيات. سمحت لباحثين منحدرين من الجنوب الشرقي المغربي، من انجاز دراسات بقدر كبير من الأهمية حول الموضوع، لعل من أبرزها دراسة “الأستاذ العربي مزين” التاريخية الموسومة ب”تافيلالت”، وقد حقق من خلالها مجموعة من الأعراف المكتوبة المحلية، خصوصا منها عرف “الجارة” الذي تضمن مقتضيات شاملة تخص تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لِما يعرف محليا ب “القصر“..
ويمكن التمييز بين نوعين من الوثائق المحلية ذات العلاقة بالعرف والقوانين العرفية المغربية، بحسب ما جاء في تقديم كتاب “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا” للأستاذ المهداوي. الأول من هذه الوثائق ما يتعلق باتفاقيات حمائية أبرمتها احلاف قبلية قوية مع سكان قصور وزوايا، والتي من الباحثين فيها من أشار إلى أنه عادة ما كان يتم اللجوء اليها حين يداهم السكان خطر خارجي من إحدى القبائل المعادية، بحيث في هذه الحالة تضطر القبيلة دفاعا عن نفسها للاستنجاد بمن تراه قادرا على حمايتها، ومن ثمة عقد اتفاقية تنص أحيانا على اقتطاع أجزاء من أراضي القبيلة. بل هناك اتفاقيات سواء بين قبائل وزوايا حيث تتكفل بموجبها إحدى القبائل القوية بالدفاع عن الزاوية، أو بين قبائل مستقرة وقبائل رحل حيث تتكفل هذه الأخيرة بالدفاع عنها وحمايتها مما قد يتهددها من خطر خارجي. مع أهمية الإشارة الى أنه اضافة لاتفاقيات ذات طابع أمني كانت تؤسس لمقايضة الأمن بالأرض أحيانا في حالات “قصور” غير محتضنة لزوايا، وللأمن مقابل توفير محطات الاقامة المؤقتة لقوافل تجارية بالنسبة للزوايا. ابتدع النسيج القبلي بالمنطقة أشكالا تنظيمية وسياسية مدنية جديدة، شكلت مرجعية قانونية وعرفية لسكان الواحة، وهو ما حدث خاصة خلال فترات ضعف السلطة المركزية. بل من الباحثين المهتمين من ذهب إلى أن المخزن العلوي، كان يترك للقصور الحرية الكاملة في اختيار ما يناسبها من سبل تدبير شؤونها السياسية الداخلية، وتنظيم علاقاتها الاجتماعية في إطار مؤسسة “القصر“.
كتاب “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا”، توجه فيها الأستاذ المهداوي لدراسة مجموعة من الوثائق المحلية المحققة، كعرف قصر “الجارة”، الذي تم تحقيقه من قبل الأستاذ العربي مزين رحمه الله، وعرف “تيدرين” الذي حققه الأستاذ محمد أحدى، وعرف “زوالة” الذي حققته وترجمته للفرنسية الباحثة Anna Maria De Tolla وهي جميعها قصور متواجدة بمنطقة الرتب ويقطنها أيت عطا، وهو ما يجعل أحكامها تكاد تكون متطابقة أحيانا، نظر لانتماء قصور الرتب هذه لنفس المنظومة القبلية العطاوية. فعرف “الجارة” أخذ عن عرف “تاخيامت”، كما أن عرف “تِدْرِينْ” بمنطقة أولاد شاكر أخذ عن عرف “الجارة”. وكذا عرف “أيت عثمان” بمنطقة الخنك الذي ينتمي سكانه لآيت ازدك المنتمين تاريخيا لحلف أيت يفلمان. وقد عزز الباحث موضوع بحثه بحسب ما ورد في تقديم مؤلفه، بتحقيق عرف قصر العشورية بمنطقة فَزْنَا بإقليم الراشيدية، الذي يمثل مكونا آخر من مكونات الجنوب الشرقي المغربي وهو العنصر العربي. مشيرا الى أن الكثير من الدراسات الاستعمارية وحتى التي أنجزها باحثون مغاربة، ركزت على اعراف امازيغية دون العربية منها. ولهذا ألحق الباحث نص تحقيق لعرف العشورية بمؤلفه، تيسيرا منه للاطلاع عليه ومقارنته بغيره من الأعراف المكتوبة.
هكذا تمكن الباحث عبر هذه الوثائق المدروسة من تحقيق مقارنة متعددة الأوجه، من جهة بين الأعراف الأمازيغية وما بينها من تشابه واختلاف، ومن جهة ثانية بين هذه الأعراف وأعراف عرب الصباح بمنطقة الجرف ثم بين هذه الأعراف مجتمعة والقوانين المعاصرة. مشيرا في تقديمه الى أنه لاعتبارات منهجية ارتأى مجموعة فصول لبحثه “كتابه”، انسجاما مع التصنيف المعتمد من طرف فقهاء القانون. وأن الفصل الأول تناول فيه المادة الجنائية الواردة في القوانين العرفية، والتي تم تصنيفها إلى: جرائم ضد الأشياء (الممتلكات) وجرائم ضد الأشخاص وجرائم الآداب العامة، فضلا عن الجرائم المرتبطة بالعنف ضد النساء. بينما الفصل الثاني من عمله البحثي، فقد ناقش فيه القضايا المدنية الواردة في القوانين القبلية وما ارتبط بها من التزامات وعقود. أما الفصل الثالث فقد خصصه للأحكام المتعلقة بالنظافة والسكينة العامة الواردة في القوانين العرفية المحلية، وما تشتمله من مقتضيات تتعلق بالحفاظ على البيئة عموما وتحقيق السكينة داخل البنية المجتمعية الكائنة، إضافة إلى القواعد المنظمة للبناء. وبخصوص الفصل الرابع، فتم الحديث فيه عن التنظيم القضائي القبلي، وما يرتبط به من مساطير ومقتضيات تتعلق بتشكيل الهيئة القضائية وإجراءات رفع الدعاوي وتنفيذ الأحكام الصادرة عنها. أما الفصل الخامس والأخير من دراسة / مؤلف “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا”، فقد عرض فيه لقضايا عدة مرتبطة بالحكامة القبَلية، وربط المسؤولية بالمحاسبة والنزاهة واعتماد المنهجية الديموقراطية في تدبير الشأن القبلي، وهي القضايا التي يتم تصنيفها حاليا ضمن ما يسمى ب”المبادئ الدستورية “.
الكتاب جاء بملحق أدرج فيه الأستاذ المهداوي، التحقيق الذي أنجزناه حول عرف قصر العشورية بمنطقة فزنا بإقليم الراشيدية. مشيرا الى أن هذا العرف بقدر ما يعد إضافة نوعية للدراسات التي أنجزت حول أعراف الجنوب الشرقي المغربي، بقدر ما سيمكن الباحثين والدارسين المهتمين من الاطلاع على جانب من ذخيرة التراث العرفي الذي تزخر به منطقة الجنوب الشرقي المغربي، ومن ثمة ما من شأنه تسهيل المقارنة بين هاته الأعراف من جهة، واكتشاف ما هناك من خصوصيات سياسية واجتماعية واقتصادية تطبع كل مكون من مكونات المنطقة.
إن ما توجه اليه كتاب “الأصول العرفية للقانون المغربي” ” أعراف الجنوب الشرقي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نموذجا” للأستاذ المهداوي” من تيمة تراثية تاريخية مغربية اصيلة عن بوادي الجنوب الشرقي المغربي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي، وما طبع عمله العلمي من قضايا وتماسات وأزمنة وأمكنة وإنسان وعلاقات وبنيات وعقليات وتحولات وفعل وتفاعل وحاجة. جعله عملا بحثيا متميزا لِما وفره من مادة علمية تراثية قانونية بقيمة مضافة هامة ملأت بياضا حقيقيا، في أفق ما ينبغي من مزيد بحث ونبش وتنقيب يخص العرف والقانون العرفي المحلي المغربي، وما ينبغي أيضا من تراكم ودراسات ومن ثمة من إغناء واضافة في هذا الإطار. وعليه، يسجل لكتاب “الأصول العرفية للقانون المغربي” هذا، والذي يحضر من خلال توقيع واحتفاء خاص ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته التاسعة والعشرين والمنظم في الفترة ما بين 9 و19 ماي الجاري بالرباط. يسجل له شجاعته الأدبية البحثية ومساحة انفتاحه على المغمور من تراث المغرب الرمزي/ اللامادي، وكذا أثره ووقعه في توسيع وعاء الأبحاث الأكاديمية التراثية القانونية، ونصوص تاريخ وتراث منطقة الجنوب الشرقي المغربي، دون نسيان قيمة الكتاب / البحث المضافة لفائدة الباحثين والدارسين المهتمين ولفائدة خزانة المغرب العلمية التاريخية.
عن مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث