عبد السلام انويكًة
عن زمن المغرب الراهن الذي لا تزال خيوطه مفهوما وتحقيبا ومنهجا ومصادر وقضايا..، بنقاش وتباين رأي بين باحثين مؤرخين. وفي علاقة لهذا الزمن بما حصل الى عهد قريب زمن الحماية الفرنسية على البلاد، وقد شهدت ما شهدت من تداخل للسياسي بالاجتماعي بالثقافي بالاقتصادي ثم الوطني. وعن ذاكرة المغاربة الجماعية لهذه الفترة وما طبعها من أحداث ذات صلة بمطمح استقلال بلادهم. وعن عمليات جيش التحرير بشمال المغرب، ومن خلاله بشمال تازة قبيل الاعلان عن الاستقلال الرسمي مطلع مارس 1956. ارتأينا بمناسبة الذكرى 69 لمعركة بين الصفوف، بعض الضوء حول ما عُرف ب “مثلث الموت” ضمن مجاله الترابي الموضوعي بمقدمة جبال الريف، حيث توزعت الهجومات التي بلغ صداها وأثرها الميداني الحكومة الفرنسية وسلطاتها العسكرية آنذاك.
وغير خاف أن معارك هذا المثلث الرهيب شمال تازة، كانت قبل عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه، وقبل توقيع اتفاقية الاستقلال التي ارتبطت بيوم 2 مارس 1956. وأن هجومات جيش التحرير ومعاركه إثر انطلاق عملياته في 2 أكتوبر 1955، شملت عدة نقاط بمجال قبيلة اكًزناية، بحيث أول هجوم كان بمركز”بورد” وقد غنم فيه المقاومون 92 قطعة سلاح ومدفعين رشاشين، وهو ما تم به تنظيم ثاني هجوم يوم 5 أكتوبر على مركز للقوات الفرنسية بجبل بوزينب، الذي انتهى بدوره بغنيمة 22 قطعة سلاح و35 صندوق للذخيرة فضلا عن صندوق من القنابل اليدوية. وكان ثالث هجوم ب “اجدير” في 6 أكتوبر، غنم فيه المقاومون 10 قطع سلاح، وفي اليوم الموالي كان هجوم دوار “ازكرتن” الذي سمح بغنيمة 15 بندقية. وفي 8 أكتوبر كان هجوم “واد أهراس” بغنيمة 11 قطعة سلاح، وفي 9 أكتوبر كان هجوم “أبرقيين”، وفي 10 أكتوبر حصل هجوم “”تارانتيزي”، وفي 11 أكتوبر كان هجوم جبل “أجن”، وفي 12 اكتوبر هجوم “تارا عشيون”، وفي 13 أكتوبر هجوم “روضة السلطان” بين دوار تامجون وأبرقيين، وفي 14 أكتوبر كان هجوم “تيمشوتين”، وفي 16 أكتوبر هجوم “بايو” بين دوار اهروشن وازروالن، وفي 17 اكتوبر هجوم “أغبال”، وفي 21 أكتوبر هجوم”هيبل”، وفي 22 أكتوبر هجوم جبل “أبرارت”، وفي 28 أكتوبر هجوم “تيفراسين”، وفي 7 نونبر هجوم “حجرة الغولة”. وفي الفترة ما بين 10 نونبر و10 دجنبر، وقعت أربع هجومات لجيش التحرير في منطقة “كدية الشوك”، وفي 11 دجنبر هجوم “اهروشن”، وفي 15 دجنبر هجوم جبل “بوزنب”، وفي 20 دجنبر حصل هجوم على مركز للجيش الفرنسي في “عين عشبون” بجوار جبل بوزينب، وفي 4 يناير هجوم “كدية أعمار”، وفي 7 يناير هجوم “تاكوبدة”، وفي 12 يناير هجوم ما يعرف ب “الكركور” بين مدينة تازة وأكنول. وفي 16 يناير هجوم “تزرا اشمرارن” قرب العين الحمراء، وفي 15 يناير هجوم جبل “أزغار”، وفي 28 يناير كان هجوم “بين الصفوف” بمحيط مركز تايناست، والذي بقدر ما كان آخر هجوم ضمن عمليات جيش التحرير، بقدر ما اعتبر من قبل مهتمين باحثين بمثابة صورة مصغرة لمعركة أنوال الشهيرة بالريف، بقدر أيضا ما كان بدور حاسم في التعجيل بالمفاوضات وتوقيع اتفاقية الاستقلال.
ويسجل في علاقة بهذه الهجومات جميعها، أن معظم المقاومين فيها على مستوى مجال وجبال “مثلث الموت”، كانوا من قبيلة اكًزناية فضلا عن قبائل مجاورة عن المنطقة السلطانية والمنطقة الخليفية. وأن القوات الفرنسية كانت حريصة على عدم تسرب هؤلاء، ومن خلالهم عمليات جيش التحرير وهجوماته الى مجالها، معتمدة على مراكز مراقبتها وهجوماتها على طول شريط جبلي وعر ممتد من منطقة “ظهر السوق” حيث قبيلة مرنيسة، مرورا بمنطقة “تايناست” حيث قبيلة البرانس، باتجاه منطقة “امسون” حيث قبيلة مطالسة. وكانت قيادة جيش التحرير قد وجهت العشرات من أفرادها الى مجال قبيلة البرانس أولا، قبل أن يحطوا رحالهم تربصا منهم للقوات الفرنسية أواخر شهر يناير من سنة 1956، وكان مكان التربص بأهمية استراتيجية عالية حيث الممر الوحيد الجبلي الذي تعبر منه قوافل هذه القوات من حين لآخر لأغراض أمنية وتموينية. ويتعلق الأمر بموقع شهير ب”بين الصفوف”، حيث حصل هجوم جيش التحرير والتمكن من قتل حوالي ثلاثمائة عسكري من القوات الفرنسية فضلا عن غنائم من السلاح، وهي المعركة التي كانت بصدى كبير وطني وكذا على مستوى فرنسا واسبانيا. هذه الأخيرة التي غيرت موقفها من جيش التحرير المغربي وقياداته بالمنطقة الخليفية اثر هذا الحدث المدوي. أما فرنسا ونظرا لشدة الضربة التي تعرضت لها، فقد عجلت بقرارها صوب استقلال المغرب وهو ما تم التوقيع عليه في اتفاقية 2 مارس 1956.
ولعل معركة “بين الصفوف”، التي عكست خطة قيادة جيش التحرير في ارباك القوات الفرنسية وتموقعاتها واستخباراتها عندما ارتأت وجهة آخرى لتوجيه ضربتها لها. جاءت ضمن حسابات خاصة لهذه القيادة وضمن ظرفية طبعتها عدة متغيرات سياسية وعسكرية لم تكن في صالح هذه الأخيرة ومن خلالها جيش التحرير، بحيث التقى المقيمان العامان لكل من اسبانيا وفرنسا يوم 6 يناير 1956 في مكان قرب العرائش، وهو نفسه التاريخ الذي توجه فيه وفد عن الأحزاب السياسية المغربية صوب فرنسا من اجل التفاوض حول الاستقلال (عبد الرحيم بوعبيد، محمد الشرقاوي..). وفي قراءة قادة جيش التحرير المغربي، كان لقاء المقيمان العامان يروم التعاون للقضاء على هذا الأخير وعلى مراكز قيادته، حتى يتسنى لهما التفاوض مع السياسيين المغاربة فقط ومن موقع قوة، وهو ما تبين من خلال إجراءات الاسبان واكتساح قواتهم لجميع مراكز جيش التحرير بالشمال يوم 9 يناير 1956، لدرجة أنه تم القاء القبض على معظم العناصر المشرفة باستثناء مركز الناظور، الذي التفت حوله الساكنة واحتجت من اجله مهددة بالانضمام اليه بشكل جماعي، وهو ما كان وراء تراجع موقف الاسبان وفي نفس الوقت فرصة بالنسبة لجيش التحرير لترتيب أوراقه وحساباته الميدانية، مستفيدا من سماح القوات الفرنسية بعودة اللاجئين من الشمال الى ديارهم بالجنوب(المنطقة السلطانية). بل كانت فرصة لنقل الأسلحة والذخيرة من الناظر الى مواقع جبلية بها مراكز له. وعندما بلغ لعلم جيش التحرير أن القوات الفرنسية تستعد للقضاء عليه، من خلال إعادة توزيع فيالقها العسكرية بكل من ظهر السوق (مرنيسة) وتايناست (البرانس) وامسون (مطالسة). قام بإعداد خطة عسكرية استهدف بها نقل المعارك من مجاله الى مجال القوات الفرنسية على الحدود بين المنطقة الخليفية والمنطقة السلطانية. بحيث كلفت قيادته كل من محمد الغابوشي (تزي وسلي) والحسن بحثاث(مغراوة)، واللذان قاما بجمع المقاومين الأكثر تدريبا وتجربة قتالية في حدود حوالي الاربعمائة مقاوم، تم تمكينهم من السلاح المتطور الكافي ومعه الذخيرة الكافية، قبل توزيع هؤلاء ضمن فرق صدر الأمر لها من اجل التوجه سرا والتمركز في المكان الشهير ب”بين الصفوف”، والذي هو عبارة عن ممر وفج جبلي يصل تايناست بظهر السوق، وهناك تم نصب مدافع رشاشة استعدادا لما حصل يوم 28 يناير 1956، عندما خرجت قوات فرنسية من مركز تايناست متجهة الى مركز ظهر السوق. وعندما بلغت هذه القوات ممر “بين الصفوف” فاجأتها قوات جيش التحرير وعمرتها عن آخرها، الوقعة والوضعية الصعبة التي دفعت القوات الفرنسية لاستدعاء فيلقين لها، حصلت معهما اشتباكات من الساعة السابعة صباحا حتى الثامنة مساء، حيث قضى جيش التحرير على معظمها مستفيدا من استيلاءه على الفرقة المكلفة بالاتصال في بداية المعركة، قبل تدخل القوات الجوية الفرنسية والتي كانت توجه ضرباتها لقواتها دون علم بذاك، لفقدانها كل اتصال معهم، وقبل أن تنتهي المعركة بخسائر فادحة في صفوفها، حيث حوالي تسعمائة قتيل وجريح مقابل استشهاد أربعة عشرة مقاوم وجرح خمسة وعشرين، مع غنيمة جمعت بين 200 بندقية ورشاشة فضلا عن ذخيرة كبيرة وأربع أجهزة راديو اتصال قريب وبعيد.
جدير بالإشارة الى أن الإعداد لمعركة “بين الصفوف” بدأ منذ 20 يناير 1956، من خلال تحرك المجاهدين من مراكز جيش التحرير بقبيلة اكًزناية، وقد قطعوا في المرحلة الأولى مسافة حوالي 50 كلم قبل بلوغ دوار “بوحدود”. وفي اليوم الثاني من مسيرهم وصلوا ليلا الى جبل “تفراسين” الفاصل بين قبيلة اكًزناية وقبيلة البرانس، في سرية تامة وحذر من القوات الفرنسية والمتعاونين معها. ومن هذا الموقع بعد فترة استراحة، تم العبور ليلا ليدخلوا مجال قبيلة البرانس ويتوجهوا الى غابة “ولاد حدو” حيث مكثوا ليوم واحد، ومنه تم التوجه الى تايناست من اجل مهمتهم المنوطة ومواقعهم القتالية وتحديد نقاط هجوماتهم، على مشارف الطريق الرابط بين تايناست وظهر السوق. حيث فج “بين الصفوف” الذي وقعت فيه معركة طاحنة تصدى فيها جيش التحرير لفيالق القوات الفرنسية، عندما كانت بصدد عبورها لهذا الممر الوحيد الفاصل، فكانت معركة رهيبة حقا ابانت عن درجة ايمان عالية لدى المجاهدين بقضيتهم من اجل استقلال بلادهم وانهاء الاستعمار. فكانت المعركة التي سميت ب”بين الصفوف” بما كانت عليه من خسائر فادحة بشرية وأثر عميق في صفوف القوات الفرنسية، بحيث بقدر ما كان لها من صدى كبير، بقدر ما أدخلت العلع والفزع على المعمرين الفرنسيين بتازة، وهو ما عبروا عنه في الصحافة فضلا عن بعثهم لبرقيات الى السلطات الفرنسية بتازة والرباط وباريز، مهددين بالهجرة الجماعية اذا لم يتم توفير الأمن والقضاء على جيش التحرير. وكان من جملة ما ورد في مذكرات مقاومين عن المنطقة أنه بعدما انتهت المعركة، قامت السلطات الفرنسية بنقل قتلاها عبر شاحنات باتجاه تازة، وأنه عندما بلغت المدينة ونظرا لما يطبعها من عقبات في شوارعها، كان الدم يقطر منها وسط الطريق امام اعين الناس.
بعض من الذاكرة والتراث الرمزي الوطني لمنطقة قبيلة اكزناية ومنطقة قبيلة البرانس، ومن خلال هذه الأخيرة مركز تايناست ومحيطه الجبلي، وبعض أيضا من المعلومة والخبر والاشارة والصورة حول معركة “بين الصفوف” التي عجلت باستقلال المغرب. تلك التي تستحق كل تذكر ووقفة واعتزاز وفخر وترحم على من صنع مجدها وصداها من مقاومي جيش التحرير، وكذا كل عناية من قبل الجميع كل من موقعه من مجتمع مدني واعلاميين وباحثين دارسين، من اجل ما ينبغي من تربية وتنشئة واطلاع للناشئة على مثل هذه الملاحم الوطنية، التي عاشها المغرب والمغاربة من اجل الحرية والاستقلال. ومن خلال أيضا ما ينبغي من أنشطة تعريفية ذات علاقة، وكذا ندوات علمية وتوثيق ونشر وعمل فني ابداعي من شأنه حفظ هذه الذاكرة الرمزية المحلية وتقاسمها. وبعض أيضا من ذاكرة جماعة تايناست وجبالها المجاورة، التي يصعب القفز عن تاريخها الراهن الذي ارتبط بسنوات المغرب الحرجة للاستقلال وملاحم جيش التحرير لهذا الغرض، وما كانت عليه أيضا زمن الكفاح المسلح خلال خمسينات القرن الماضي، بشهادة عظمة معركة ”بين الصفوف” التي كانت مسرحاً لها قبل تسعة وستين سنة، وبشهادة درجة انخراط تايناست المجال والانسان والقبيلة، في التعجيل برحيل القوات الاستعمارية واستقلال المغرب. ولعلها المعركة التي نعتها البعض من المهتمين الباحثين ب”انوال الصغرى”، وعليه، فمركز وجماعة تايناست شمال تازة، لا تعنى إسم مكان فحسب بل ذاكرة وطنية محلية شامخة مستحقة كل انصات والتفات وابراز واستثمار..، عبر ما ينبغي من احتفاء يليق بعظمة مكانٍ وحدث “بين الصفوف”.
ولِما لا التفكير في شريط سينمائي موسوم ب “بين الصفوف”، يجري تصويره بالمنطقة وجوارها متتبعا خيوط ما حصل وما هناك من معالم وذاكرة مادية ولا مادية. فالعمل الفني السينمائي التاريخي من شأنه السفر بالمشاهد عبر الزمن وعبر مجريات هذه المعركة وغيرها من المعارك الوطنية الأخرى هنا وهناك، وفاء لهذه الحقبة التاريخية ولملاحمها، من قبيل ملحمة معركة “بين الصفوف” الوطنية بشمال تازة. وهنا ما يمكن أن يسهم به صندوق الدعم السينمائي والمركز السينمائي، وما يمكن ان يسهم به أعلام السينما المغربية من كتاب سيناريو ومخرجين ومنتجين وممثلين ومنهم أبناء تازة والمنطقة عموما، دون نسيان ما يمكن أن يسهم به المجتمع المدني السينمائي المحلي والوطني، من مبادرات وانخراط وقيمة مضافة في هذا الاطار. من قبيل جمعية نادي المسرح والسينما بتازة التي بلغت الدورة الخامسة من مهرجانها الوطني “سينما الهواء الطلق، وكذا ما يمكن أن تسهم به أيضا جمعية تازة الكبرى على مستوى حفظ الذاكرة المحلية الوطنية وتثمينها وتوثيقها، وفق ما ينبغي من معطيات وعمل علمي. علما أن تازة تزخر بطاقات فنية سينمائية وتجارب رفيعة المستوى، من شأن تحفيزها بناء عمل / شريط سينمائي رافع حول معركة “بين الصفوف”، لفائدة الخلف من الناشئة وكذا لفائدة أرشيف خزانة المغرب الفنية السينمائية التاريخية.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
