عبد السلام انويكًة
منارة في تاريخ الانسانية الروحي والايماني هي القدس الشريف، حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى النبي محمد (ص)، ومن هنا ما هناك من تعلق اسلامي بالمكان ومن شعور به وبأهمية حمايته مما يتعرض له من طمس معالم وآثار تاريخية ومن ثمة لذاكرة رمزية، علما أن المكان هذه المدينة هي بأهمية خاصة كأرض سلام وحوار ثقافات وحضارات وملتقى ايمان. وكان القدس الشريف موضوع دراسات على أكثر من مستوى بين شرق وغرب، فقد كان المغاربة ومن خلالهم بلاد الغرب الاسلامي باسهامات حول المكان منذ اعتناقهم الاسلام وعبر ما كانوا عليه من مرور بالقدس صوب الحج وثالث الحرمين.
ولعل من أعلام بلاد المغرب وهم كثيرون ممن عرج على القدس الشريف، هناك القاضي عبد الله بن العرب الذي عاش زمن دولة المرابطين بالمغرب، ذلك الذي توجه اليها نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في سفارة لدى الخليفة المستنصر العباسي من قِبل السلطان يوسف ابن تاشفين وفق ما ذكره ابن خلدون. ولم يقتصر عبد الله بن العرب هذا على ما جاء به من وصف حول المسجد الأقصى، بل ايضا ما كان هناك من نقاش فكري بين اطياف الفترة من معتزلة وكرامية ومشبهة ويهود وغيرهم. وعن زمن دولة الموحدين بالمغرب والغرب الاسلامي نجد “الشريف الادريسي السبتي” عن القرن الثاني عشر الميلادي، وهو شاهد عيان وصاحب موسوعة “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، الذي قارن فيه بين المسجد الأقصى ومسجد قرطبة مقدما وصفاً دقيقا لبيت المقدس كمكان، متحدثا عن الكنيسة العظمى”كنيسة القيامة”محج بلاد الروم في مشارق الأرض ومغاربها وعن البيت المقدس الذي بناه سليمان بن داود عليه السلام، ما تم تعظيمه بدخول المكان للاسلام والمسمى بالمسجد الأقصى عند المسلمين، الذي تتوسطه قبة عظيمة هي قبة الصخرة المرصعة بالغص المذهب والأعمال الحسنة من بناء خلفاء المسلمين.
وممن استحضر بيت المقدس من المغاربة خلال القرن الثالث عشر الميلادي، نجد أبي اسحاق ابراهيم المكناسي من خلال مخطوطة له، كذا أبو عبد الله محمد المكناسي الذي رحل الى القدس وتوفي بها خلال أواسط القرن السالف الذكر. أما ابن بطوطة الذي عاش زمن دولة بني مرين بالمغرب وهو صاحب أول رحلة في تاريخ البشرية، فقد وصل الى بيت المقدس نهاية الربع الأول من القرن الرابع عشر الميلادي قائلاً.” ثم سرنا حتى وصنا الى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام..كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة..ثم سافرت الى القدس..ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ومصعد رسول الله (ص) ومعرجه الى السماء والبلدة كبيرة مبنية بالصخر المنحوت، وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب..لما فتح هذه المدينة هدم بعض أسوارها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها.” وعن المسجد الأقصى يقول:” هو من المساجد العجيبة الفائقة الحسن يقال أنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه .. والمسجد كله فضاء وغير مسقف الا المسجد الأقصى، فهو مسقف في النهاية من إحكام الفعل واتقان الصنعة ممون بالذهب والأصبغة الرائقة.” أما عن قبة الصخرة فقد أورد:” هي أعجب المباني واتقنها وأغربها شكلاً، قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف وهي قائمة على نشر في وسط المسجد يصعد اليها في درج رخام ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة..ورائق الصنعة ما يعجز الواصف واكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ أنوارا.. يحار بصر متأملها في محاسنها.”
ولعل من مغاربة الفترة الذين سمحت رحلاتهم ببلوغ القدس الشريف، نجد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي رحل من المغرب الى مصر ومنها سمحت له ظروفه بزيارة بيت المقدس. ونذكر أيضا أبي عبد الله محمد بن الأزرق الغرناطي المالقي، وكان قد تولى القضاء بالقدس وتوفي بها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وقد ظلت الرحلات المغربية قائمة صوب القدس الشريف كما يتبين من خلال مذكرات العلامة عبد الله المقري التي تتحدث عما كان له من علاقات بأعلام بيت المقدس، ومن خلال المقري الحفيد صاحب “نفح الطيب” الذي زار بيت المقدس نهاية العقد الثاني من القرن السابع عشر، حيث يقول” لما دخلت المسجد الأقصى وأبصرت بدائعه التي تستقصى بهرني جماله.. وسألت عن محل المعراج الشريف.. وشاهدت محلا أمَّ فيه (ص) الرسل الكرام”. ومن الرحلات المغربية التي خصصت حيزاً هاما لبيت المقدس تلك التي قام بها أبي سالم عبد الله بن محمد العياشي، وكان قد قصدها عن طريق غزة بداية ستينات القرن السابع عشر حيث وصف المسجد الأقصى وصفاً دقيقا.
وعن الفترة الوسطى لدولة العلويين بالمغرب تحديداً أيام السلطان محمد بن عبد الله، نجد رحلة محمد بن عثمان المكناسي السفير والوزير الموسومة ب” احراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب”. ولعل مما تحدث عنه هذا الأخير في رحلته أوقاف المغاربة بالقدس الشريف والتي منها من يعود الى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، مثل وقف الشيخ عمر بن عبد النبي المغربي المصمودي في شأن تعمير زاوية المغاربة بالقدس الشريف ويتعلق الأمر بثلاث دور تقع بحارة المغاربة، وكان ما تم تحبيسه من قبل المصمودي لفائدة المحتاجين المغاربة سواء المقيمين بالقدس أو العابرين. وهناك عشرات الأوقاف التي تطوع بها محسنون مغاربة لفائدة القدس الشريف، مثلما يذكر أبي مدين شعيب بن أبي عبد الله محمد ابن أبي مدين شعيب المغربي دفين تلمسان المتوفي أواخر القرن الثاني عشر الميلادي وهو تلميذ سيدي حرازم.
وكان ابن عثمان المكناسي في حديثه عن طوائف القدس الدينية قد تحدث عن حضور مسيحي واسلامي ولم يذكر أي شيء عن اليهود سوى مقبرتهم، علما أن الامبراطور الروماني فسباسيانوس وبسبب مشاكل بينه وبين اليهود قرر القضاء عليهم، من خلال ارسال ابنه تيتوس على رأس جيش كبير حيث تم تخريب أورشليم سنة سبعين ميلادية وإجلاء جميع اليهود منها، لتظل القدس محرمة على اليهود منذ هذا التاريخ حتى ظهور الاسلام واستيلاء عمر بن الخطاب عليها سنة ستمائة وسبعة وثلاثين ميلادية.
يبقى أن القدس الشريف كان دوماً بعناية المغرب والمغاربة منذ القدم حتى الآن، وهذه وثيقة ورسالة كان قد توجه بها الراحل الملك الحسن الثاني الى البابا بولس السادس بتاريخ فاتح يوليوز سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، استهدفت لفت انتباه البابا لبيت القدس ولِما أقدم عليه الاسرائيليون من عمل خطير به، لمَّا قاموا بإلحاق المدينة المقدسة بمناطق سيطروا عليه من أرض فلسطين، ولمَّا انتهكوا حرماتها وداسوا مقدساتها واعتدوا على أهلها وحكامها الشرعيين. رسالة تاريخية تضمنت ما حصل من مس بوضع البقاع المقدسة الديني، مع تذكير بما كان للمسلمين من رعاية لحرمة هذه المواقع منذ قرون طويلة باعتبارها مهد سيدنا عيسى بن مريم ومسرى سيدنا محمد (ص)، رسالة بعد عدوان اسرائيلي التمست من البابا استعمال قداسته ونفوذه الروحي والنظر في وضع القدس الشريف السياسي والديني خدمة لصالح الانسانية وللسلم والسلام.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث