عبد السلام انويكًة
حاضرة تازة، هذا هو الاسم الرمزي التاريخي الذي ينسجم مع إرث ومكانة تازة في زمن المغرب والمغارب والعالم العربي الاسلامي، كغيرها من مدن البلاد الأصيلة التي كانت بامتداد ودور ما جعلها بما هي عليه من تراث شاهد مثل فاس ومكناس وسلا ومراكش وتطوان وسبتة وغيرها. لكن واقع حال تازة الآن ضمن مدن المغرب العتيقة يبدو أنه لم يعد يسمح بنعتها ب”الحاضرة”، لكون هذا الوصف في بعده الرمزي التاريخي عموما لم يبق منه سوى الاسم. بحيث كل شيء من تراث وواقع جذب بها بات مشهدا لا يعكس حمولة كلمة “حاضرة”، وفق ما هو متعارف عليه من احالة ودلالة انسانية حضارية، نظرا لِما شهده مجالها الأصيل من تدهور شمل وعاء إرثها المادي واللامادي معا من حيث ما هو حماية وتثمين الخ.
ويظهر والحالة هذه، أن تازة العتيقة لا تستفيد من ذاكرتها الرمزية في انتاج بعض ثروتها، ولم تنجح بعد في دمج مواردها زمنها التاريخي ضمن ما هو مناسب من ورش رافع لتنمية مجالها العتيق (تازة العليا) مثلما هو الحال في مدن مغربية تاريخية أخرى. ولعل هذا الواقع كان بأثر على هذا المجال من حيث ما ينبغي من دينامية، بنفس ما يطبع مجال تطوان من ايقاع مثلا ومعها طنجة والرباط مراكش وغيرها. ويتبين أنه إذا كان الجزء الأصيل من مدن المغرب التاريخية هو مصدر جاذبيتها وجزء من ثروتها وديناميتها، فواقع حال تازة عكس ذلك تماما عندما باتت بنوع من الموت الى حين. وغير خاف أن واقع المدينة هذا، كان بأثر سلبي ليس فقط على مستوى ما هو حركية ثقافية واجتماعية وتجارية وحرفية وترفيهية وغيرها، انما أيضا على ما هناك من انحسار وضعف إقبال وجودة حياة بمجال المدينة العتيقة، إثر ما هي عليه من ضعف اشعاع يخص مرافق تاريخية من قبيل ما يوجد بها من مدارس مصنفة وزوايا وغيرها، ومن تدهور حال منشآت أثرية من أبواب وأضرحة وحصون وأسوار وأبراج وخنادق تاريخية محيطة، فضلا عما كانت عليه من مكونات منشطة لحياتها العتيقة من قبيل أفرنة وحمامات وفنادق، وكذا أمكنة دالة من قبيل رحبة سمن وغزل وصوف وزرع وثمور..، ومن تجمعات حرفية برمزية مجالية مشهدية خاصة من قبيل أزقة نجارين وقزدارين وخرازين وخياطين وعطارين وغيرها، ناهيك عن أزقة بهذا الاتجاه وذاك كانت بجملة أنشطة متقاطعة فيما بينها وبانسجام جاذب مؤثث الى عهد قريب.
ولعل فقدان كل هذا وذاك من الرمزي المحلي كان بأثر في ضعف جاذبية، ومن ثمة ما هناك من هشاشة تسببت فيما تسببت من هجرة صوب إما المدينة الجديدة تازة السفلى أو بعيدا باتجاه مدن مغربية كبرى، بحيث يسجل أن عددا معبرا من أسر تازة الأصيلة التي ارتبطت بالمدينة العتيقة، شدت رحالها بشكل نهائي تجاه مدن اخرى خاصة الرباط والدار البيضاء وطنجة وفاس وغيرها. ويسجل أنه بقدر ما هناك من أسباب عدة كانت وراء هذه الهجرة من قبيل ما اصيبت به تازة العتيقة من تراجع على اكثر من مستوى، بقدر ما يسجل من عجز نخب المدينة السياسية فيما ينبغي من ترافع على إرث المدينة وتوازنها ومرافقها. بحيث يتبين أن ما هناك من نخبة تازية سياسية باتت معزولة وبأدوار لا تأثير لها في مشهد المدينة، مكتفية بتأمين مصالحها الضيقة الشخصية والدفاع عنها لا غير.
ناهيك عما هناك من صراعات سياسية وغياب رؤية موحدة لدى مدبري شأن محلي، يبدو أنهم باتوا في واد والمدينة العتيقة بل المدينة ككل في واد آخر، وهذا واقع مجال الحديث فيه ذو شجون وقد فوت على تازة العتيقة فرصا عدة لم يتم استثمارها، وهو ما جعلها تتراجع سنوات الى الوراء نظرا لِما هي عليه من بنية عامة وواقع مثير للقلق على أكثر من صعيد. بحيث يتبين أن الحظ لم يحالف مجال تازة العتيق لحد الآن من اجل اطلاق مشاريع بنيوية قادرة على بعث الروح فيها، وتغيير صورتها وحركيتها مثلما حصل في عدد من المدن المغربية الأخرى، التي بات مصدر جزء من ثرائها هو مجالها العتيق. لتظل مآثر تازة بنوع من الاهمال لدرجة انهيار بعضها أمام أعين الجميع(سور باب الجمعة، معلمة باب الريح، أضرحة أولياء وصلحاء، تدهور وتهديد أبراج وحصون كما حصل مع حصن السعديين “البستيون”..). الواقع الذي بقدر ما لا يحفز على طرح أي ورش وحديث عما هو تنمية سياحية، بقدر ما يعكس ما هناك من قلق حول واقع ذاكرة مدينة تاريخية.
ويظهر لكل مهتم متتبع أن الجميع بالمدينة أخذ موقع ودور متفرج على ما هناك من تدهور معبر باتت عليه تازة العتيقة، باستثناء أصوات غيورين وهم قلة قليلة ينبهون بالسبل المتاحة لإنقاذ ما يمكن انقاذه ووضع المسؤولين في موضع مساءلة، خاصة منهم المدبرين والمعنيين بمجال التراث المادي واللامادي والثقافة وحماية المباني الأثرية ومراقبتها، من خلال ما يجب من رصد وتتبع وتنبيه وفق ما تسمح به المهمة المنوطة. وهنا ما يسجل على المديرية الجهوية للثقافة ومعها المديرية الاقليمية للثقافة بتازة، من تقصير غير مبرر ولامبالاة بواقع المدينة الأثري، نظرا لِما يظهر أنها ليست بما يجب من انخراط في حماية تراث المدينة، بحيث يظهر انها لم تكن بما ينبغي من دور واقعي عملي تواصلي ترافعي، لوقف ما حصل من خروقات وهجوم اسمنتي غير قانوني على”برج وحصن “البستيون”، والذي لم يكن يبعد عن مقرها سوى بأمتار قليلة. بخلاف مثلا ما كانت عليه الوكالة الحضرية من موقف ووعي ظاهر وخفي حرصت من خلاله على حماية تراث تازة وهذه هذه المعلمة الأثرية التاريخية المتفردة وطنيا التي تعود لقرون خلت. وكأن هذا الحصن بالنسبة للمديرية الاقليمية للثقافة لم يكن بقيمة، ولم يدرج ضمن مكونات ملف تصنيف تازة تراثا وطنيا، هذا الحدث الذي كثيرا ما طبلت له وبهرجة وخطبت به واستثمرته هناك وهناك مع كل مناسبة.
وهنا جدير بالاشارة لِما كان لبعض الاعلام وفعل المجتمع المدني، فضلا عن ثلة من الغيورين وقيمة تفهم مرافق عمومية وقفت بجانب هذا الموقع الأثري منصفة اياه في آخر لحظة. المعلمة التي بقدر ما كانت معرضة لمصير مجهول بقدر ما لم تحرك وجدان مديرية الثقافة ومسؤولية مصلحة خاصة بها مهمتها حماية التراث بقوة القانون. تلك التي لم تكن تبعد عن هذه المعلمة سوى ببضعة أمتار كما سبقت الاشارة. ما يحيلنا للحديث على أن واقع قطاع الثقافة والتدبير الثقافي بتازة خلال السنوات الأخيرة على الأقل، بقدر ما لم يكن بما ينبغي من حرص على حماية معالم المدينة التي شهدت ما شهدت من تدهور غير مسبوق، بقدر ما لم يحافظ على أثاث تازة الثقافي الابداعي وما كانت عليه المدينة من غنى وتقاليد تنشيط سنوي واضح المعالم بحسب مواسم السنة وتميزات فصولها، لدرجة تشتيت ما تم بناءه عبر عقود من قِبل سلف إداري ثقافي بالمدينة، ولدرجة أن مساحة هامة من مثقفين ومبدعين ومهتمين ومتتبعين ورأي عام محلي، بات بنوع من الحنين لماضي ثقافة وابداع واشعاع المدينة الذي بات في خبر كان.